قراءة في كتاب:”دمشق، صور من جمالها و عبر من نضالها
الأديب الشيخ : علي الطنطاوي
===================================
من عيون الكتب--
=============================
سكب في هذا الكتاب روحه، وارتمى بجسده وحسه بين حروفه؛ فتشعر حين القراءة فيه أنه يكتب الكلمة وكأنه يقطتع أجزاء من أعضائه، ونبضات قلبه الطاهر. والمجنون قال في بيته الشهير: وما حب الديار شغفن قلبي* ولكن حب من سكن الديارَ، لكن الطنطاوي يظهر في هذا الكتاب شغفه بالديار وساكنيه، كيف وهم أهله وعشيرته، وأصدقاؤه وأحبابه، وأرضه ومحل ولادته وشبابه.
يحلق عن دمشق في أول فصول الكتاب فيقول:
“(دمشق)! وهل توصف دمشق؟ هل تصور الجنة لمن لم يرها؟ من يصفها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود؟ من يكتب عنها – وهي من جنات الخلد الباقية – بقلم من أقلام الأرض فانٍ”
“دمشق التي تحرسها (الربوة) ذات الشاذروان وهي خاشعة في محرابها الصخري تسبح الله وتحمده، على أن أعطاها نصف الجمال حين قسم في بقاع الأرض كلها النصف الثاني”
“دمشق أقدم مدن الأرض قدماً، وأكبرها سناً، وأرسخها في الحضارة قدماً. كانت مدينة عامرة قبل أن تولد بغداد والقاهرة وباريس ولندن، وقبل أن تنشأ الأهرام وينحت من الصخر وجه أبي الهول، وبقيت مدينة عامرة بعدما مات أترابها واندثرت منهن الآثار، وفيها تراكم تراث الأعصار، وإلى أهلها اليوم انتقلت مزايا كل من سكنها في سالف الدهر، ففي نفوسهم من السجايا مثل ما في أرضها من آثار التمدن وبقايا الماضي طبقات بعضها فوق بعض”.
“وبعد فأي مزاياك يا دمشق أذكر، وفيك الدين وأنت الدنيا، وعندك الجمال وعندك الجلال، وأنت ديار المجد وأنت ديار الوجد، جمعت عظمة الماضي وروعة الحاضر؟ لا، ليس هذا الكتاب (صورة كاملة) لدمشق، ولكنه خطوط فيها ملامح من دمشق”.
هذه شذراتٌ من أولِ فصول الكتاب، وما بعدهُ أكثر إبهاراً وجمالاً، ولو نقلنا كتابه كاملا؛ لما مللتم، لكن نعرض عليكم اقتباساتٍ فقط-
ومن ذلك---
-في فصل (ساقية في دمشق) يروي ذكرياته على ضفاف تلك الساقية، ونقل إلينا خبر وصول أول سيارة إلى دمشقٍ؛ فيقول:” وهل تذكرين –أيتها الساقية- يوم جاءت دمشق أولُ سيارة وكنا جالسين حولك نتحدث حديث الحرب وما يمكن أن يصل إلينا من أخبارها، فما راعنا إلا عربة غريبة الشكل تسير من غير أن يجرّها حصان، فطار الفزع بألبابنا، وفررنا نحسب أن الجن تسيرها، ثم سمعناهم يدعوننا ورأينا ضباطاً تلمع الأوسمة على صدورهم، والسيوف على جنوبهم فأمرونا أن نلقي الأحجار فيك أيتها الساقية، ليمر عليها (الأطنبير)- أي الأتوموبيل- فأطعنا وفعلنا مكرهين؟ ومن كان يستطيع أن يخالف أمر ضابط من ضباط جمال باشا؟
فلما مرت هرعنا إلى دورنا نخبر أهلنا أن عربة تمشي من غير أن يجرّها حصان .. فتنبري لي عمتي، وتكذبني وتسبني: (اخرس يا كلب، يا كذاب، إن هذا مستحيل) ولكن عمتي التي أبت أن تصدق أن في الدنيا سيارة تمشي بنفسها، قد عاشت حتى رأت الكهرباء والتلفون والراديو، ورأت الدبابة والمصفحة والمتراليوز. ثم رأت (أثر) الحضارة في أنقاض دمشق، فصارت متهيئة لتصدق كل شيء!
-يجب أن يكون في كل بيت من البيوت كتاب تاريخ، يقرأ صباح مساء، هكذا تفعل الشعوب الحيّة، هكذا تصنع الأمم القويّة.
-إن الماضي الفخم، لايكون قيماً إلا إذا صنع المستقبل الفخم، وإلا كان لهواً وعبثاً، وما فائدة السجين من ذكر أيام الحرية؟ والفقير من أيام الغنى؟ إذا لم يفكر في إعادتها واسترجاعها. وماذا تغني عنا عظمة الأجداد، إذا لم نكن نحن أيضاً عظماء.
-إنّ بناءً تقيمه يدُ الله لا تهدمه خشبة نخرة ولا خرقة مرقعة، ولا نحلة ضالة يدعو إليها حمقى جاهلون.
- في عمر الإنسان ساعاتٌ هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات ذكرى في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيامٌ هي التاريخ، تمر السنون متحدرة في درك الماضي، مسرعة إلى هوة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تنأى، مشرقة لا تغيب.
- حي العقيبة في دمشق أخرجت عدداً من أدباء الشام كـ :[خير الدين الزركلي، ومعروف الأناؤوط وأنور العطار وشكري فيصل] (من الحاشية).
-في فصل “دمشق التي عرفتها وأنا صغير” نشرها سنة 1960م، يقول المؤلف:” كنا بعيدين عن عالم الغناء والتمثيل، ولكني كنت أسمع أنه لم يكن في دمشق من المغنيات المحترفات إلا ثلاث أخوات يهوديات هن (بنات مكنو) فكان الموسرات من غير ذوات الدين يأتين بهن ليغنين في أعراسهن وأفراحهن، وكان الغناء من الأمور المعيبة المستقبحة التي يستحيا منها، وكان الرقص أفظع منه، ولم يكن يتصور أن تشتغل بالغناء فضلا عن الرقص بنت أسرة من الأسر الشامية، وإن هي فعلت (وهذا ما لم يسمع بوقوعه) فإن أباها يذبحها أو يضربها بالرصاص.
هذا إذا هي غنت أو رقصت للنساء، أما أن تغني أو ترقص للرجال فكان في رأيهم من المستحيلات.
ثم يواصل ويقول:
..”وكانت المرأة لا تخرج إلا باللباس الطويل الذي يصل إلى نصف الساق، وكانت تستحي البنت أن يراها أبوها في البيت بالكم القصير، أو بالصدر المكشوف، ولا تظهر بزينتها إلا أمام زوجها، وكانت الزينة بالأبيض وقليلٍ لا يرى من الأحمر، وبصبغ الحواجب وتزجيجها، أما أحمر الشفاه فلم يكن معروفاً.
وكان الشعر طويلاً يتفاخر النساء بطوله، ولم تكن موضة قص الشعر، ولم تكن المرأة تظهر لسلفها (أي حموها وأقارب الزوج الرجال) ولا يرى الرجل وجه امرأة أخيه، لأنه أجنبي عنها شرعاً ..”.
-لماذا سميت جامع التوبة في دمشق بهذا الاسم؟ يجيبك الطنطاوي فيقول:” .. وكان عندنا جامع التوبة وهو جامع مبارك فيه أنسٌ، يحس داخله بالطمأنينة والانشراح، وقد اسـس من أول يوم على التقوى، ذلك أنه كان في الأصل خاناً
ترتكب فيه أنواع الموبقات، فاشتراه أحد ملوك الأيوبيين وجعله جامعا..”.
-من هم الزكرتية؟ يجيبك المؤلف قائلاً .. “وكان في مدخل كل حارة سمان أو عطار من طبقة (الزكرتية)، وهم (كانوا) أهل المروءة والنخوة، وكانوا أشبه بطبقة الفرسان في أوروبة ..”.
-لقد رأيت هذه الحياة لجة، (يرتفع) فيها التبن والبعر، و(ينزل) فيها الذهب والألماس. لقد اضطربت فيها الموازين، واختلت المقاييس، ونفق المنافقون، وكسد الصادقون الصالحون!
-أنا حين أصفُ آلامي أباً، أصف آلام كل أب، وحين أصور عواطفي في الحب، أصور عواطف كل محبّ.*فيكتور هوجو(اقتباس من الكتاب).
الاسم الكامل لهذا الكتاب هو:
“دمشق: صور من جمالها، وعبر من نضالها”، وهو اسم يوحي بأن مقالات الكتاب وصفية أو تاريخية. والحقيقة أن فيها من ذلك الكثير، ففي الكتاب صور رائعة من الأدب تبعد عن التاريخ، وفيضٌ من المشاعر والأحاسيس هي أقرب إلى “حديث النفس”.
يقع هذا الكتاب في 160 صفحة من القَطْع المعتاد (17×24)، وفيه تسع عشرة مقالة كُتبت بين عامي 1931 و1964. وفي الكتاب بعض الصور القديمة لمدينة دمشق.
من عناوين الكتاب ---
هذي دمشق،
نهر دمشق،
الجادة الخامسة في دمشق،
ساقية في دمشق،
إلى دمشق بلدي الحبيب،
خرائب الدرويشية في دمشق،
أطفال دمشق،
مقدمة كتاب عن دمشق،
كارثة دمشق،
دموع ودموع،
الجلاء عن دمشق1
، الجلاء عن دمشق2،
العيد في دمشق،
حي الصالحية في دمشق،
منشأ حي المهاجرين في دمشق،
دمشق التي عرفتها وأنا صغير،
على سفوح جبل الشيخ،
مكتب عنبر”