دنيا..؟
لم أُدرك ليلتَها ممّا كان ضحكُها المتواصلُ ..
أدهشَني أيضًا إقبالُها عليّ ..لكنَّها كانت ليلةً..
أخذت ترتدي ثيابَها ثــم قالت وهي تغلِق حقيبةَ يدها الصغيرةَ : إنّي عنكَ راحلة.. هزَّني قولُها كأني لَم أَكُن أعلم حقًّا أنها راحلة ، فسألتُها بتوسّلٍ قلِقٍ : لِمَ قلتِ هذا؟
لم تُجبني ، اكتفت شفتاها بابتسامةٍ غامضةٍ ،
حاولتُ النومَ بعدها .. أصواتُ الحياةِ تتصاعدُ مبهمةً إلى النافذةِ ..
تقلَّبتُ كثيرًا ..تــناومتُ ..إحساسٌ بالخَطَرِ حفَّزَني فأبت عيناي إلا انفتاحًا ..رُحتُ أتذكَّر جملتَها الأخيرةَ : ما معنى الرحيل ؟ و رحيل مَن ، إلـى مَن ؟ لعلَّها دعابةٌ ، لكنَّني أعرفُ دُنيا ، لا تَفكهُ إلا جدّا . انعكاساتُ الأضواءِ على السَّقفِ ، خيالاتٌ مِن حياةٍ باهتةٍ و أشباحٌ تمرُّ سِراعًا و أنا على فراشِ الحَيرةِ ..
انتبهتُ فجأةً إلى السَّاعةِ التي شغلَتْها دُنيا ، عقاربُها تُتَكتِكُ ، كم أكرهُ صوتَـها ، لا أدري كيف غَفلتُ عنها ، عادةً كنتُ أعطلُها حالَ خروجِ دنيا ، كيف نسيتُها ليلَتَها ؟ هل احتاجُ معرفةَ الزَّمَنِ في ليلتي هذه ؟ دقاتُ العَقربِ تلسعُني ، كلُّ ثانيةٍ تُنقِصُني ، أَوقَفتُ الساعةَ بعنفٍ ، الثالثةُ و النصف صباحًا ..لِمَ أصبحَ الصمتُ ساعتَها خانقًا ،
لَم أعرف كيفَ أمضيتُ ليلَتي ، لكنَّني أفقتُ صباحًا فأدركتُ أنَّني نِمتُ ، تذكَّرتُ دنيا فاندفع وجيبٌ خاطفٌ بينَ صُدغَيّ ، هل تتصلُ ؟ هل تَأتي ؟
ازدادت حَيرَتي ، اتجهتُ إلى المرآة : أدهشَـتْنِي حُمرةُ عَينَيّ و أزعجني اصفرارُ وجهي ، و رأيتُ في الصفحةِ أمامي صبيًّا يسـأَلُ أباه : أَبتي ، كيف وُلِدتُ ؟ أجابَه بصفعةٍ على خَدِّهِ و ارتسمَت قطرةٌ براقةٌ في مُؤقِه رفضت النزولَ ..
عاودَتنِي الحرارةُ بعينَيّ ، أدَمتُ النَّظرَ إلى المرآة و سألتُ الشَّاخِصَ أمامـي عابثًا أو جادًّا : أيُّنا أَنَــا ؟
فابتسمَ بحُزنٍ و أشارَ إلى نفسِه ..انتَزَعتُني مِن أمامِ المرآة و عُــدتُ إلى السَّاعَةِ اللعينةِ و عقاربِها المتوقفةِ .. و دنيا لَم تَعُد و لم تتصل .. قالت إنِّي عنكَ راحلة ..
أحسستُ ثِقَلَ الهواءِ ، فككتُ زِرّينِ أعلى القميصِ و مسحتُ بكفِّي رقبَتِي .. هبَّ نسيمٌ باردٌ جافٌ حولي .. لَبِستُ بياضَ ثوبي و سِرتُ نحو المحطةِ ، فـي الطريقِ كان شابٌ يــعاكِسُ باضطرابٍ فتاةً تريدُ الاستجابةَ باضطرابٍ أيضًا .. وَصلتُ .. كانت السكةُ وحيدةً قاسيةً .. التفتُّ ورائي : لعـــلَّ دنيا تبحثُ عنِّي .. اصطَدَمَني الفراغُ فانكسرَ في النفسِ شيءٌ .. و على إحــدى الشُّرُفاتِ المجاورةِ كانت امرأةٌ مترهِّلَةُ الجِسمِ في ملابس صَيفِيَّةٍ زاهِيَةِ الألوانِ ، تكشِف ذلكَ الـجسمَ المُنهَكَ كأنَّما لَفَظَه الزَّمن بعد أن اِستَوفاه .. ارتفَعَت جلبةٌ حادةٌ يتبعُها قطارٌ أسودُ رهيبٌ ، و دُقَّ ناقوسٌ فارتعدتُ و التفتُّ باحثًا عن دنيا للمرَّةِ الأخيرةِ .. لِمَ لَم تَقُل أين هي راحِلة؟ ظَلَلتُ أردِّدُ السؤالَ دون انتباهٍ ، و ارتَقَت رِجلايَ درجاتِ سُلَّمِ العربةِ بلا مُبـالاةٍ .. وجدتُني أمامَ زجاجِ النَّافذةِ و لَمَحتُ انعكاسًا لصورٍ : صــورةٌ لغرفةٍ تُشبِه غرفةَ نومي .. نعم لـقد اختلفت بعض التفصيلاتِ : باقةُ الأزهارِ حذوَ فراشي حلَّت محلَّها ساعةٌ كبيرةٌ و عقاربُها كبيرةٌ ، الستائرُ الأرجوانيةُ استُبدِلَت بأُخرى بُنِّيةٍ .. لكـنَّها تُشبِه غرفتي كثيرًا ، تحرَّكَ بداخلِها شبَحانِ .. تبَيَّنتُ في الأَولِ رجلا لَم أَرَه مِن قَبل ، كان يجلِسُ كجِلسَتي و يتحدَّث بمثلِ حديثي و هو يَـفرُكُ جبينَهُ كما أفعلُ تمامًا .. و تبيَّنتُ في الشَّبحِ الثاني دُنيا .. هي دُنيا ، بنفس فتنتِها و ضَحِكِها و نَهَمِها .. في تلك اللحظةِ دخلَ القطارُ نفقًا أسودَ مظلِمًا و ارتفعَ صوتٌ موجِعٌ كالوَلولَةِ .. أدركتُ متألِّـمًا ساعتَها أنني أنا كنتُ الرّاحل ...
فـيصل الـــزوايدي