هشام بن الشاوي
تصهل شمس أبريل في كبد السماء..يلمع الاسفلت ..يقف قبالة نصب تذكاري فاخر: جرانيت ورخام . يا قلبي لاتحزن !
يتخيل نفسه مدفونا تحته.. سيصبح رفاتك تراثا عالميا.ههههههههه. يرتسم مشروع ابتسامة على شفتيه..يصادرها بكاؤه الباطني..
لا يتذكر أين قرأ أن الملاح مفرد ملاحات ، أي مساكن اليهود..يقفز إلى ذهنه عنوان فيلم سينمائي مصري ، تحول إلى مسلسل : “الصبر في الملاحات”.هل كانت بطلة الفيلم..تلك السيدة الحنون الكريمة يهودية ؟ وأولئك الفتية المشردون أ يرمزون إ لى …؟؟.أعوذ بالله . أ كان كاتب السيناريو من المطبلين للتطبيع ؟ ؟..
أسئلة شتى تتقافز في سره كالجراد..فكره مشوش..لا ينام ليلة السبت باكرا..يقول في نفسه : شكرا… لملايين البرتغال ، الجارة التي تصرف على أطلال قلعة تاريخية..تبليط..تمليط.. إنارة!!
عفوا.أفكاري سوداء وحاقدة هذا الصباح ..فلا شهية لدي للأكل ولا للكلام ولا ..للعسولي !!
تبا لهذا الشارع العريض الذي التهم مقاهي الكورنيش بكل بهائها المفقود!!
هناك قبالة البحر في الزمن التسعيني..في غمرة الفرح بالبدايات..
كان يذهب كل مساء سبت إلى مقهى الرمال الذهبية، ولا درهم في جيبه.. يبحث بين روادها عن حكيم عنكر..ليعطيه قصة لينشرها في صحيفته البيضاوية في صفحة :” شرفات إبداعية”.. كان يتبرم منه ، وهو يلح عليه في أسئلته مثل طفل لا يكبرأبدا: هل ستنشر ؟ ومتى ؟ ..
بعدها يتوجه إلى مقهى الكورنيش..التي كانت قبلة العديد من المبدعين ،
وشهدت أجمل اللقاءات الأدبية مع الأصدقاء : سعيد ياسف- أبو بكر متاقي- الطاهر لكنيزي- عبد الله المتقي- محمد مستقيم – محمد المالكي- عبد العزيز الراشدي- إبراهيم الحجري وصديقه اللدود شكيب عبد الحميد
ياه…أين أنت يا مصطفى الحزن والشعر… مصطفى ملح ؟
أتسمع عويل مواويلي في مساءات غيابك المستبد ؟ كيف تفعلها ، وتتسلل عائدا إلى منفاك / مسقط رأسك.. برشيد الجنون والتيه والفقدان ؟
لم تركت القصيدة وحيدة هنا ؟
لم نكن أصدقاء بما فيه الكفاية..كان أبو بكر متاقي و سعيد ياسف الأقرب إليك .
في لقائنا الأول –حيث عرفني عليك شكيب - لم أصدق أنك من تكتب تلك النصوص الشفيفة..ملامحك الريفية كانت تخفي روحا..تطفح حزنا أسطوريا..
دوما أسأل عنك صديقك الغاضب ..أبوبكر متاقي الذي تمرد على قصيدة النثر كتابة ونشرا ، فرافق الكلاب ( بضم الكاف و تشديد اللام) ومقص الحديد…مثلما صادقت الملاسة والمطرقة رغم أنفي !!وأخفى عن الجميع أضمومته الشعرية: “مقبرة الحديد” إلى أجل غير مسمى !!
أتذكر لقاءات الآحاد في مقهى الكورنيش في تلك الصباحات الحميمية ، وفرحنا الطفولي بتصفح الملحق الثقافي لجريدة الميثاق الوطني ..وتلك الافتتاحيات المتاخمة لحدود مملكة الشعر بقلم …محمد بلمو ؟؟
ياه………..!!!
يا حزن قلبي !!!
اللعنة على الطريق الساحلية التي دكت ذكرياتنا البهية مع التوفنة والتراب تحت عجلات جرافة بلا قلب..
“أحس أن في دمي بكاء” بتعبير الشاعر الراحل أحمد المجاطي .
في ذلك الزمن..
لم نكن نعرف الهاتف الجوال ولا الشبكة العنكبوتية..كدت أن أنسى أن أخبرك أن صديقنا العبدي عبد الرحيم الخصار نصحني ذات بهاء أن أخصص أسبوعا للبناء و آخر للكتابة.. يا لأحلام الشعراء!!
لم أفكر يوما أنه عبدي ..لا تسئ بي الظن رجاء..كنت و صديقي امجيد البناء العبدي في حجرته بالورش..اتصلت ببشرى لأغيظها.. قلت لها أني مع صديق عبدي ..و برفقته امرأة ( لم أقل لها : عاهرة .. وتسكر وتتحشش أيضا !!) ردت علي في غضب..تلك امرأة رخيصة وعروبية …باين من اسمها….عبدة راهم خايبين………………. !!
ضحكت في سري: ملاكي الحارس تخاف على أخلاقي.هههههههههههه
لم أعد أفهم ماذا تريد هذه الحمرية ؟ مرة تقول الخريبكيات خايبات ……..
مرة عبدة………..
وأمي تقول: بنات اليوسفية وخريبكة……………….
سئمت سماع هذه الأسطوانة المشروخة ..أماه!!
لم أعد أفهم شيئا..
كل يغني على ليلاه، وأنا على قلبي أنوح!!
يرن هاتف السييما نس فرحا.. يا للصدفة غير المتوقعة! ولا في الأفلام !!حبيبتي الخريبكية- سعاد- تتصل بي في هذه اللحظة بالذات…
قبيل مغادرة الورش ، وأنا أتحرى حقيبتي الظهرية..ربما أكون قد نسيت شيئا في البيت من لوازم التدريب وأغراض الدش .. رن هاتفي الخلوي ..انتظاراتها المسائية القديمة تشهد أنها تعرف ساعة الخروج ، جاءني صوتها متوسلا:
- آلو..هشام ..ألن تأتي؟..
- لا..سأذهب إلى النادي الرياضي..
للتو.. فقدت تلك الرغبة في التدريب ..تضاعف تعبي ،ولم أعرف كيف قادتني قدماي إلى بيت جارتنا..خالة بشرى..أيعقل هذا ؟ أمازلت تحبها يا هشام ؟ وماذا عن سعاد ..ألست متيما بها ؟ ألم تقل لها أنك اشتريت الهاتف من أجلها ؟
نكاية في الرقابة .. تتواصل معها عبر رسائل (sms) يوزع الأثير رسائل الشوق والمحبة بينكما..دون أن يعرف أفراد أسرتها أنها تقبلك أو تعاتبك أوتبوح لك بحبها.. وهي تعبث بأزراره اللينة !وإن لم ترد على الرنة أو الرسالة تعرف أن أخاها أو ضيوفا في البيت.. فإن اتصلت ، وكان غير مشغل فقد أطفأته…اللعين يفضح مؤامرتكما الصغيرة أثناء شحن البطارية ..يتخلى عن ارتجاجاته المذغذغة و يزغرد..!!
لم أستطع أن أقاوم رغبتي في رؤية بشرى.. لم تكن في البيت ، كانت تتبضع .. حين رأتني ، تسمرت في مكانها وجلة..غير مصدقة ، وقد امتقع لونها دهشة..
أمعقول - بعد أربع سنوات- مازالت.. تكن لي كل هذا الحب ؟ !
كيف يتجاهل رجل - هش القلب مثلي – مشاعر امرأة.. ؟!
شاكست سعاد أن تخمن مكان تواجدي ساعتها..
كنت على الدرج العلوي.. انتبهت إلى إشارة خالة بشرى أن أخفض صوتي.. حتى لا يسمع زوجها ، العائد من الديار المقدسة..
- أنا في بيت خالة بشرى..وقد رأيتها..
- ماذا تفعل هناك..؟!
- جئت لأبارك للحاج..
تغيرت نبرات صوتها..امرأة أخرى صارت ، قطة متوحشة ولذيذة.. تأمر، تهدد..وتحب بعنف !!
وجدتني ضعيفا أمام طغيان قلبها…غادرت مودعا أهل البيت ، تبعتني بشرى بلهفة أربع سنوات من الوحشة.. قالت ، وقد تهلل وجهها بشرا :
- توحشناك…
تبادلنا أربع قبلات على الخد ود.. لم أنبس بكلمة ، ابن خالتها - الوغد - كان لنا بالمرصاد.. رغم أنه يعرف أننا كنا سنتزوج …لولا الأقدار، لولا أمي .. لولا.. لولا….اللعنة!!
في لقاءاتنا القديمة..كنت أذهب لزيارة جارتنا..حاملا إليها رسالة جديدة ..تطل من الشرفة يتناهى إلى مسامعي صدى خطواتها، المتقافزة فرحا على الدرج…وتكافئني بقبلة حين توصد الباب !!..
“مذ جاءت السنيورة تغيرت مشاعرك يا هشام.. مازلت تحبها…”
“لا تتخلى عني فليكن فراقنا بالتدريج…”
“لا تتذكرني إلا في أوقات فراغ قلبك..أين ميساج الصباح؟ وميساج الثانية عشر؟.. أين ميساج المساء؟ وميساج الليل ؟..
تغيرت يا هشام…”
“أحبك حتى الجنون يا ملك روحي !”
دفعة واحدة أمطرتني بوابل من الرسائل القصيرة ..تغيرت مشاعرقطتي الوديعة..صارت كلماتها اتهامات.. لم تفلح كل رسائلي ولا مكالماتي في أن تقنعها أن بشرى رحلت ، ولم أقابلها بعد ذلك اللقاء اليتيم..
وتنهرني : لم أعطيتها رقم تلفونك..
الفكرة- كانت- فكرتها
ما أكثر اللحظات التي كنت أجدني فيها مدفوعا بقوة إلى البحث عن مقرر الجغرافيا بين كتب مدرسية مهملة..أقلب صفحاته ،ترسو سفينة يدي عند ميناء خريطة المغرب..
ياه .. كل هذا الحزن يسكنني !!..
ألعق جرح قلبي
ودمه النازف
عند بوابات
مدن
لم أرها حتى على شاشة
التلفزيون
أرسم مثلثا
بحجم
أحزان
قمرية
تحلق فوق ثلاث مدن: الجديدة- اليوسفية- خريبكة
وأغرق في بحر من الدموع ، كطفل يتيم نبت شاربه ..قبل الآوان !! أصرت سعاد أن لا أحلقه ..
- لا أحب الرجل الذي بدون شارب..
- لكن “ح”..
- هذا أخي…
كانت أكبر مني سنا ، الكل لامني في هوى عانسي ..حتى بشرى !! ولكن ابن الكلب ..قلبي.. جئت صيادا ف………….لم تشأ أن تخبرني بعمرها الحقيقي. الآن فقط ..عرفت سر تمسكها بأن لا أحلق شاربي .. كانت تخشى كلام العواذل..عن العشيق الأصغر سنا..
تعرفون بقية التهمة ..طبعا !!
ليلة البارحة ، اتصلت بأحد الأصدقاء الكتاب..ودعاني لحضور لقاء أدبي في الدار البيضاء ، اعتذ رت ..لم أخبره أني لا أحب هذه الدارالبيضاء.. أقرب مدينة إلى الجديدة ، والأبعد… نفسيا على الأقل!
وحدها كلماتي كانت تسافرإليها ، أودعها بكتابة تلك العبارة الممتنة:”شكرا ساعي البريد”. رفيقي حسن ..البناء الخمسيني ، لا يكل من مدحها (ولا شيء يربكني مثل الغزل !!) ..الدار البيضاء..الله يعمرها دار.. إلى مشيت ليها من نهاري نخدم بمائة درهم..!!
الوغد. لا يعرف أني أعرف أن كل همه…العسولي!! ومعاملة بنات كازا اللطيفة ، تعطيك وقت كيفما كنت..
في الحافلة رقم 8
تجلس قبالتك امرأة بدوية أصغر منك سنا..تحزنك نظرات ملاكها الصغير ، ربما رأى فيك أباه ..تفكر: أي علاقة بين رجل وامرأة تفتقد الدف ء ، فهي علا قة حيوانية.. فرفضت قريبتي التي فرضوها علي خطيبة.. حتى لا أعيش في تعاسة مؤبدة.. !!
يطفر الدمع من عينيه يشيح بوجهه عن ركاب الحافلة..مخفيا دموعه..
يتخيل: تزوج بشرى ..يلاطف ابنه. .يكبر..يصيران صديقان ، و تغدو حياتهما عيدا لاينتهي…
يتساءل: لم لم أحس بعطف أبي يوما..؟؟
ويبكي قلبه…
الهاتف إلى جانبي مثل المومياء ..
لا يرن .. لا أحد يجيء ولا شيء يحد ث !سأرميه في سلة القمامة ، غب انتهائي من كتابة هذه الهلوسات ..سأحاول أن أكتب قصة أصف فيها يد البناء الأشبه بكلاب صدئ..يا صديقي. ربما أفعلها في المرة القادمة..كم أشتاق إلى سماع زغرداتك أيها الهاتف المنسي !!..
أسمع قرعا على الباب .. أمي تلومني لأني اعتكفت صبيحة العيد لكتابة هذه الحماقات..أرسل إلى صديقي المغترب بريدا إلكترونيا ..كتبت كلمات بذيئة مثل مراهقي الصف الثانوي..علها تخفف عنه غربته المضاعفة !!
“فما زلت كما عهدتني بكل عاداتي وتقاليدي وأخطائي اللغوية والاجتماعية التي جئتك بها..”.(الشاعر الراحل محمد الماغوط).
لا أحد تذ كرني- هذا العيد- من أصدقائي ولو برنة يتيمة ، تعيد البسمة إلى شاشة هاتفي الملونة..
لقد خرجت عن الموضوع كعادتي . سأضع- حالا- نهاية لهذا الهذ يان …
بعد خطوات متكاسلة ..غارقا في شروده.. ينعطف يمينا ، جهة الطريق المؤدية إلى مدخل الميناء.. يتوقف عند المحطة تسترعي انتباهه.. بقع زيتية سوداء خلفتها محركات الحافلات.. الحافلة رقم 8 مازالت تبتلع في جوفها ركابها البد و.. يقرأ على لوح صدئ وجهة الحافلات حسب ترقيمها..
لا أقارب
لا بيت
لاأصدقاء
ولا فلب ينتظره ..
هناك
وحده صهد القيلولة
وغبارالطرق الزراعية
وحفيف أوراق الأوكاليبتوس
وذ باب لا يكف عن مزاحه الثقيل
مع
كلاب تتسكع
وحمير منسية تحت الشمس ..
تلك الأيام القصيرة التي قضيتها – ذات مراهقة - في سيدي بنور، كنت تقف مذهولا- تحت شروق آخر- تلقي التحية على جبال بعيدة.. قرب علامة طريق: جمعة سحيم…
خالك الميكانيكي هجر سيدي بنور بعدما أغلق الورشة ، طلق الزوجة وباع بيته في العطاطرة .. كان مولعا بالطاسة والقرطاسة وحفلات سعيد ولد الحوات .. ذات صبا ، سألك النجم الشعبي عن خالك ..كان يستقل سيارة مرسيدس 240 ، وكنت تلهومع الرفاق …هنا في الجديدة . كنت صغيرا ، لم تعرف بعد ما الحب ولا تتذوق سماع أشرطة الكاسيط ..ألم ترسل إلى سعاد- في رسالة هاتفية - أن كل شيء يذكرك بها ، فيطفر الدمع من عينيك، وأنت تستمع إلى أغاني : نصرو- حسني – بلال - الستاتي- الداودي – يحيى النوري- روبي- دليدة - خوليو وحتى هاذ العروبي ديال ولد الحوات.. كان آ خر من كنت تتوقع أن ….. ؟ !
ملعون أبو الحب و القصاير!!
أتذ كر بنت جيران خالك ..تلك الفتاة البريئة ، ذات الوجه الصبوح التي هربت أمها الشيخة مع أحدهم ، طبعا ليس حبا فيه…!!! وتركت الأب شبه مخبول مع بنت مراهقة وطفل لم يتعدى عمره إثنة عشر ربيعا..يثير الشفقة في نوبات انهياره العصبي … ؟ !
يفكر :العسولي أحيانا… يذ نب في حق أقرب الناس !! ..
الحافلة على وشك أن تنطلق.. الجنون- بكل بهائه - يدعوك أن تحتفل به في صهد القيلولة
وحيدا غريبا هناك..
متشردا في الزمان والمكان..
بين الروابي
في سبت دويب
بعيدا عن برودة البحر..
تحس بمثا نتك تكاد ……
غير بعيد عن محطة الحافلات، يقرفك منظر النفايات ، وتزكم أنفك …تلك الرائحة!!
تقول في نفسك:
كل مسافريترك شهادته تحت أسوار القلعة البرتغالية ..نكاية بالتاريخ والجغرافيا !!..
لست الوحيد الذي يتبول على التراث العالمي!!!
ههههههههههههههههههههههه
رن الهاتف ..تهلل وجهه بشرا… رنة قصيرة جدا ، لاذ بعدها بصمته المقبري…تنقض عليه يده ، بيد أن بهجته تبخرت في الهواء…