تعني.. ولو كانت لا تُغني!
بينما كان الصحابة جلوساً عند النبي ﷺ على حالٍ من السكينة والأنس، في يوم من أواخر أيام عمره الشريف، قريبا من وقت صلاة الظهر، أقبل عليه قوم من المسلمين (من مُضَر) في حالٍ مزرية من الفقر والفاقة والاحتياج، وصفهم جرير بن عبد الله رضي الله عنه -وهو ممن حضر هذا المشهد العجيب- بقوله: (حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف) والنمار نوعٌ من الأكسية، وكانوا قد قطعوها بطريقة تتيح لهم الاستفادة منها على أكثر من وجه لقلة الثياب معهم، بالإضافة إلى كونهم حفاة لا يمتكلون من النعال ما يقيهم حرارة الشمس في بيئة الحجاز الملتهبة.
وحين رأى النبي ﷺ* هذا الحال منهم: انعكست مشاعر الألم والحزن والهم على وجهه ﷺ كما قال جرير: (فتمعر وجهه لِما رأى بهم من الفاقة) ولم يستطع الجلوس -بأبي هو وأمي- وداخلُه يعتمل ويتقلّب، قال جرير: (فدخل، ثم خرج فأمر بلالا، فأذن، وأقام، فصلى، ثم خطب، فقال : " { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } إلى آخر الآية { إن الله كان عليكم رقيبا } ، والآية التي في الحشر { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله })
أدرك الصحابة استثنائية الموقف، حيث ابتدأ بخطبة على غير ميعاد، مع ظهور مشاعر الهم والحزن على وجهه عليه الصلاة والسلام أثناء الخطبة، فأنصتت القلوب قبل الآذان، وانتظر الجميع ما الذي سيقوله خاتم النبيين في هذا الموقف.
(تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)
هكذا تدفق حثّه ﷺ أصحابه على إعانة هؤلاء القوم إلى أسماعهم مختوماً ب (شق تمرة)!
تخيلوا..! يحثهم وهو المنبر في هذه الحال على إخراج ما لديهم ولو لم يكن إلا شق تمرة !
أما الدنانير والدراهم والثياب فقطعا سيستفيد منها هؤلاء الفقراء، وكذلك البر والشعير، ولكن* نصف التمرة مالذي ستُغنيه! ما الذي ستسدّه؟
نعم هي لا تُغني ولكنها تعني!
تعني حرارة الفؤاد وحياة الضمير وإحياء مبدأ المسؤولية تجاه حاجة المسلمين..
هو ﷺ يعلم أن أصحابه متفاوتين من حيث القدرة على إعانة هؤلاء المحتاجين، ففتح لهم فرص البذل ولو بأدنى أدنى ما يمكن، فيكون دور القادرين منهم تقديم ما (يُغني) ودور العاجزين منهم تقديم ما (يعني) .
وبما أن الذين أمامه هم نتاج تربيته، وكان قد غرس فيهم أن (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار) كما ثبت عنه ﷺ في صحيحي البخاري ومسلم.
وبما أنهم هم الرجال الذين فدوا الإسلام بأنفسهم، فلن يخذلوه في هذا المقام، وخاصة أهل المبادرة والإيثار والجود: الأنصار وما أدراك ما الأنصار.
قال جرير: (فجاء رجل من الأنصار بِصُرّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام، وثياب)
فلمّا رأى ذلك النبي سُرّي عنه ﷺ، وتهلل وجهه، واستنار كما قال جرير: (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة) والمُذهبة هي الفضّة المذهّبة! ويالَحُسنِها ! ويا لصفائها وضيائها !
ثم ختم النبي ﷺ هذا المشهد بوسام تكريم عظيم للأنصاري الذي بادر فكان أول المتصدقين، حيث قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
وهذه القصة العظيمة صحيحةٌ، أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، وفيها من الدروس والعبر والعظات الشيء الكثير، غير أن السؤال الذي يؤرقني هو:
ماذا لو رأى رسول الله ﷺ المضطهدين واللاجئين والمعدمين من أمته في هذا الزمان؟!
كيف لو رأى اجتماع التشريد والبرد والفقر والجهل والظلم عليهم دفعة واحدة؟!
كيف سيكون وجهه ﷺ؟
ما الذي سيعتمل في داخله؟
هل سيقر له قرار أو يهنأ له بال؟!
ثم.. ماذا لو أن من أمته من نحا نحو عمل الأنصاري، فكان له دور عظيم في سد فاقة المقهورين والمحتاجين واللاجئين من أمة محمد ﷺ حتى خفف ما يمكن تخفيفه؟
كيف سيصير وجهه ﷺ ؟
وإذا لم يمكننا تقديم ما (يُغني) فعلى الأقل لنقدم ما (يعني)
ونعوذ* بالله من موت القلب، وبرود الضمير، وخمود الحياة حتى نرى كل ما حولنا من مآسٍ يرقق بعضها بعضها، ثم لا نقدم ولو قليلاً..
أحمد بن يوسف السيد