غياب الصفوة الفاضلة هو المسئول!


(رسالة من خارج المكان)



حازم خيري


"المعرفة تسبق الرأي.."
مؤسسة الفكر العربي

في وطني مصر، كما في بقية بلدان العالم العربي، لا تزال تجري على قدم وساق عملية تهجير جماعي ضخمة لمجتمعاتنا "شديدة ضيق الأفق"! تهجير من دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية(1945ـ2001)" إلى دولة "ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر"، بتدخل غربي واقعي، وغير ضار، على الأقل للآن..

الدعم الغربي، وكما تُطالعنا الأدبيات الغربية منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001، يأتي في إطار تجفيف منابع ما يحلو للغرب وصفه بالعنف غير المُبرر، من جانب قوى الاسلام السياسي، وفي طليعتها "القاعدة"، بزعامة الراحل أسامة بن لادن، الذى أنكره "اسلاميون"، وضن عليه "الغربيون" بقبر تستريح فيه عظامه!

الأكثر اثارة للاستفزاز في مشهد التهجير هذا، هو أنه يتم من دولة مدنية بمرجعية "عسكرية" إلى دولة مدنية بمرجعية "دينية"! إضافة إلى أن شعوبنا، والتى هي موضوع التهجير، لا تفقه من أمر تهجيرها سوى أمرين: الأول، أن عبقريتها الثورية محل اعجاب العالم!! والثاني، أنها تُهجر من دولة مدنية لأخرى مدنية!

شعوبنا تعتقد أن الدولة العسكرية هي تلك التى يتولى شئونها أصحاب الزي العسكري، وأن الدولة الدينية يتولى أمرها أصحاب اللحى والجلاليب! في حين أن وصف الحكام بالعسكر، أو الشيوخ، محض اشارة للقوة التى يستند إليها الحكم.

إلى هذه الدرجة تغمر الضبابية الكثيفة فضائنا!! بيد أن الكارثي حقاً هو أن مفكرينا، على كثرة صياحهم وصراخهم في الفضائيات السرطانية(!!)، لا يجرؤ أحدهم، رغم سعة اطلاع معظمهم على الأدبيات الغربية والأوضاع الداخلية، على مصارحة مواطنيه بحقائق عملية التهجير هذه، إما لمنفعة يخشى فقدانها، وإما مخافة مخالفة الرأى الرائج في المجتمع، بغض النظر عن مدى صحته، أو ربما لاحتراف مغازلة الجماهير، طلباً لصيت وغنى! تعددت الأسباب والخيانة واحدة!

"قصر النظر" شائع عندنا، وهو ما يُفسر "افتتان" مجتمعاتنا، حتى بالفشل!

حاجتنا إذن ماسة لصفوة فاضلة! وأعني بها مفكرين يرتدون الفضيلة، ولا تتشوش الحقيقة عندهم باليقين! يقاتلون، كنظرائهم في العوالم الأخرى، على الخطوط الأمامية للمعرفة!! لا تردعهم صواعق (من قبيل: نظرية المؤامرة، أو جلد الذات، أو كلام مستشرقين، ..الخ) عن حب الحقيقة، وتذوق ينبوع المعرفة!

فليسمح حكامنا الجُدد في دولة "ما بعد 11/9"، والتى نوشك على الدخول إليها في كافة أرجاء العالم العربي، بتربية نقدية للنشء، تجعله سيىء التكيف مع محيطه بطريقة نقدية، حتى يتسنى لمواطني دولتنا الوليدة، مواجهة المستقبل! فكما أن الأفراد يموتون، تموت الحضارات والثقافات، إن هي لم تُنقد وتُطور! فالأصالة الحضارية لا تعني تكرار الماضي واستنساخه، وإنما اتخاذه تكأة للوثوب نحو الجديد والمُبتكر! لا مفر من المخاطرة والألم إن أردنا لحضارتنا العتيقة الحياة!

أحترم حكامنا الجُدد كثيراً، وهم اسلاميون على الأرجح! احترم نضالهم عبر أكثر من نصف قرن وصمودهم في مواجهة دولة العسكر بكل خستها ونذالتها! بكل ديماجوجيتها واستهانتها بكرامة البشر وحقهم فيما وراء الخبز والماء! أحترمهم كثيراً لدورهم البارز، إلى جانب الحركات الشبابية الثورية الحديثة نسبياً، في انجاح عملية خروج مجتمعاتنا من دولة العسكر سيئة السمعة!

غير أني وإن كنت أثق كثيراً برواد الحركة الاسلامية وشهدائها الأبرار، وأربأ بهم أن يذوق مواطنيهم على أيديهم ما ذاقوه هم أنفسهم على أيدي العسكر، تظل مخاوفي، أنا وغيري، قائمة من أجيال قادمة تخلف الجيل الحالي، ومعظمه من كبار السن، تتفتح أعينها، جبراً لا اختياراً، على تفكير فقهي ومال وسلطة! تجربتنا الحضارية تعزز للأسف الشديد من هذه المخاوف، خاصة في ظل غياب شبه كامل لمحاولات النقد والتطوير، ربما لانشغال الاسلاميين بدفع أذى العسكر!

من هنا، تأتي قناعتي بأنه وحدها التربية النقدية للنشء هي الكفيلة بتجنيب دولتنا الوليدة وأجيالنا القادمة المزيد من الآلام! وكذا قناعتي بحق نشء أمتى في أن يعرف بخبر "السبتمبريين" وقصتهم ودورهم الحاسم في مصير أوطانهم! كونهم بالأساس ضحايا لدولة العسكر، وليسوا فقط جُناة، كما يحلو للغربيين تصويرهم!

ولشد ما أتمنى تدبر مفكرينا وحكامنا الجُدد جيداً لما أجمله كارل ساندبرج ببلاغة رائعة، في عبارته: "تُقاس الشجرة قياساً صحيحاً عندما تسقط"، فهو ينطبق بقوة على دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية(1945ـ2001)"، وأعني بها بالطبع عقود استقلالنا "الزائف"، تلك التى شهدت انبثاق بدائل عربية شديدة الانحطاط للأنظمة المُغادرة، على خلفية انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومناهضة القوتين الأعظم: الولايات المتحدة & الاتحاد السوفيتي، للاستعمار الأوروبي "التقليدي"!!

لأنه إذا كان الحاضر هو معمل المستقبل فالماضي هو معمل الحاضر!

ــــــــــــــ
(*) للمزيد من التحليل، يمكن لمن يرغب مراجعة دراسة مطولة، نشرتها منذ بضعة شهور على الانترنت، عنوانها: [أي دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي!]