للأجيال القادمة كي لا تنسى للتعميم والنشر
الأسباب التي تدفع الفلسطيني
إلى الاستشهاد
د.غازي حسين
«لا تستطيع أن تفعل شيئاً مع شخص يريد الانتحار» هذا ما علّق عليه وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتس والرئيس كلينتون على العمليات الاستشهادية التي دمرت مقر المارينز في بيروت وضربت المطاعم والمقاهي والباصات والملاهي في القدس المحتلة وفي تل أبيب.
يؤمن الاستشهادي أن العملية الاستشهادية التي قام بها هي الأسلوب الوحيد المتبقي لديه لرفع الظلم والقهر واغتصاب الأرض والحقوق, وارتكاب :إسرائيل" للإبادة تجاه شعبه وأمته وعقيدته وللذود عن كرامته وحقوقه وأملاكه, ولرفع إذلال شعبه الذي تمارسه «إسرائيل» منذ عام 1948 وسط تواطؤ العالم معها ودعم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لها, ودون حدوث بريق أمل في توقف هذه الدول عن انحيازها ودعمها لإسرائيل الإرهابية والعنصرية والاستعمارية.
يقوم المقاوم والاستشهادي بعمله البطولي لرسوخ القناعة لديه أيضاً بأن الشعب الإسرائيلي واليهودية العالمية المتمسكة باحتلال القدس العربية بشطريها الغربي والشرقي واحتلال يافا والرملة واللد وصفد وسلمة ويازور بأن اليهود ليس لديهم أدنى إحساس بمعاناة الضحية الفلسطينية وليس لديهم ذرة من الشعور الإنساني أو العدالة والحق واحترام ملكية الإنسان الفلسطيني وملكية الوقف الإسلامي أو ملكية المجتمع الفلسطيني وبالتالي لا يفهم الإسرائيلي إلاّ منطق القوة .
وينكر الحاخامات وقادة الفكر والسياسة والثقافة في المجتمع الإسرائيلي أبسط الحقوق الإنسانية للإنسان الفلسطيني حيث يعتبرون أن العرب هم دون مستوى البشر، وأنهم أفاعي وحشرات يجب إبادتها بالصواريخ كما يعلن باستمرار الحاخام عفيديا يوسيف وأنهم حيوانات ضارة تسير على قدمين كما أعلن السفاح مناحيم بيغن يجب إبادتها في أوكارها.
وعملت «إسرائيل» وأمريكا وأوروبا وبعض السماسرة العرب على تجريد الفلسطيني من أبسط أنواع الأسلحة دفاعا عن حياته وأرضه وأملاكه وحقوقه وحياة أولاده وزوجته وأبناء شعبه, ويعملون على حماية أمن "إسرائيل", لكسر إرادته وتهويد وطنه ومقدساته ومسح هويته العربية الإسلامية.
وهكذا لم يتبق أمام الفلسطيني إلا حياته للدفاع عن الحياة والوطن والعقيدة في وجه أبشع أنواع البشر وأشرسهم, أعداء الحياة وأعداء الله والوطن والبشرية وهم الصهاينة والكيان الصهيوني والحركة الصهيونية والإدارة الأميركية التي تتبنى المواقف الإسرائيلية المعادية للعهود والمواثيق الدولية ومبادئ وقرارات الشرعية الدولية.
وضعت «إسرائيل» القوة فوق الحق والعدالة والمبادئ الإنسانية وتسخِّرها لسلب الإنسان الفلسطيني والعربي حقوقه وأملاكه تحت ستار مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية الكاذبة وحقوق الإنسان.
إن الاستشهادي يقبل على فعلته لبناء المستقبل العادل لعائلته وأمته، لأنه يعيش في جحيم الإرهاب والعنصرية والاحتلال الإسرائيلي. ويؤمن أن القوة المادية والمعنوية للشهادة تثمر هزيمة مادية ومعنوية للعدو الإسرائيلي. وتعجز الامبراطوريات الكبرى بترساناتها العسكرية وأسلحة الدمار الشامل على مواجهة العمليات الاستشهادية وتطويعها, لذلك لجأت إسرائيل إلى أميركا, ولجأت أميركا إلى دول الاتحاد الأوروبي وإلى بعض الحكام العرب, لمواجهة المقاومة والعمليات الاستشهادية وتغيير المناهج الدراسية وتسخير جيوشهم لحماية أمن «إسرائيل» وخدمة مخططاتها وتغيير المناهج الدراسية ودروس التربية الإسلامية لمسح الهوية العربية والإسلامية للإنسان العربي والمسلم.
والاستشهاد ليس نتيجة وطنية أو عمل بطولي قومي فحسب, بل هو أيضاً محصلة إيمان ديني ووعي جماعي وتعبئة روحية تتجاوز مكاسب الحياة وتجسّد انتصار الحق على الباطل, والعدل على الظلم, وحقوق الوطن والعقيدة على حساب الذات وحياة الذات, ومن أجل الارتقاء إلى وجود وحياة للشعب أكثر نقاء وأكثر هدوء واستقرار في محاربة أعداء الحياة, وأعداء الحق والعدالة «الصهاينة» وإسرائيل التي اغتصبت الأرض والحقوق والثروات وتبيد الشعب الفلسطيني وتحرمه من حق العودة إلى وطنه وتزرع المستعمرات اليهودية في وطنه.
وهنا تتجسد العلاقة المتبادلة بين شرعية العنف لطرد الغازي والمحتل والمستعمر اليهودي وبين القداسة, بحيث يعزز كل منهما واستمراريته عند جميع الشعوب في العالم.
وعندما اشتدت الحاجة إلى المقاومة العنيفة أو عنف المقاومة تولدت الحاجة إلى الإيمان الديني, وإلى تعبئة دينية لتحويل الصراع إلى صراع قومي وديني بتصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبته الحركات القومية العربية والحركات الإسلامية لمواجهة إسرائيل, الدولة الوحيدة في العالم التي أقيمت على أساس ديني، أي على أساس عنصري ودولة لجميع اليهود في العالم في فلسطين العربية, قلب الوطن العربي.
نجحت الأحزاب والحركات الإسلامية عبر بنيتها العقائدية, وقوتها التنظيمية, وتعبئتها السياسية ومنها حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي أن تثبت فعالية ميدانية في مواجهة الإرهاب الإسرائيلي والخنوع العربي لأمريكا و«إسرائيل», وفي مواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية.
واستمدت العمليات الاستشهادية مشروعيتها وزخمها وشعبيتها من النتائج الفعلية التي حققتها على أرض الواقع, لأن الاستشهادي يمثل ذروة التضحية والعطاء انطلاقا من أحوال شعبه الفلسطيني المأساوية التي سببتها «إسرائيل» والتأييد الأميركي الأعمى لها والصمت العربي المريع.
وأثار الاستشهاد ويثير الفزع في "إسرائيل", ولدى اليهود في أمريكا وفي الإدارة الأمريكية, لأن هذا السلاح الذي ظهر في انتفاضة الأقصى جراء البطش والإرهاب الإسرائيلي ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني يحقق التوازن الاستراتيجي الذي عجز العرب عن تحقيقه مع «إسرائيل» المدججة بجميع أسلحة الدمار الشامل.
والاستشهاديون قلة من البشر آمنوا بالله واليوم الآخر, وبحقوق الشعب والأمة في الحياة الحرة الكريمة على أرض الوطن بدون احتلال وإرهاب واغتصاب إسرائيلي. ونجحوا بالاستشهاد أن يبثوا الرعب والذعر في "إسرائيل" الذي أثارته وتثيره بأسلحة الدمار الشامل التي تملكها وبجيشها المدجج بأحدث أنواع الأسلحة الأميركية. ولم يكتف العديد من الحكام العرب بالتقصير في الدفاع عن سيادتهم التي تنتهكها «إسرائيل» في عواصمهم واختاروا الخنوع والخضوع والمهانة والذل والهرولة سراً وعلناً في الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها على حساب حقوق الشعب الفلسطيني والوطنية وعلى حساب حاضر ومستقبل الأمة.
نفر محدود من الاستشهاديين الأبطال يذهبون إلى الموت قبل أن يأتيهم وهم نيام في غرفهم بطائراتهم الفانتوم 16 ومروحيات الأباتشي والصواريخ الأميركية في قلب مدينة نابلس وغزة ومخيم جنين وبقية المخيمات الفلسطينية. ويضربون العدو الإسرائيلي قبل أن يضربهم, ويقتلونه قبل أن يقتلهم, ويدافعون عن شعبهم بالوسيلة الوحيدة المتبقية لديهم.
إن تفوق «إسرائيل» بالأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل على جميع البلدان العربية والإسلامية لم ترهب أو تخيف صاحب الأرض والحقوق في الدفاع عنها بحياته, وهي الشيء الوحيد المتبقي لديه, وأعز وأغلى ما يملك هو وعائلته وشعبه, فالموت لا يرهب هؤلاء الشهداء الأبطال، لأنهم يحبون الحياة الحرة والكريمة بدون إرهاب وعنصرية واستعمار استيطاني لشعبهم ولشعوب العالم أجمع.
وهكذا قلب الاستشهاديون معادلة التفوق واستخدام القوة والتهديد باستخدامها للضغط والابتزاز إلى سلاح قاتل لإسرائيل المغتصبة للأرض والحقوق. ويرد على اعتداءاتها وجرائمها بأسلوب المقاوم الذي يليق بمقاومة الشعوب للنظم الاستعمارية والعنصرية فيذهب لمواجهة الاستشهاد وملاقاته بدلاً من أن تقتله الطائرات الإسرائيلية وتقتل أطفاله في منزله, ويذهب إلى قاتله بحياته ليفجر نفسه في مقهى أو حافلة ليقتل ويجرح ثم يمضي استشهادياً رافعاً رأسه ومرتفعاً إلى العلا في تضحية تعتز بها، عائلته وشعبه ويجسّد استشهاده بوابة العبور من الحياة الفانية إلى الحياة الأبدية لحماية حياة أطفاله وأبناء شعبه وتحرير وطنه المحتل.
وقاد اتخاذ العصابات الإرهابية اليهودية المسلحة قتل الأطفال الفلسطينيين منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي والجيش الإسرائيلي منذ عام 1948 كسياسة مخططة لإبادة هذا الشعب المناضل إلى عدم اكتراثه بعدد الضحايا وهويتهم, لاسيما وبعد أن أمعنت "إسرائيل" في قتل الأطفال الفلسطينيين في منازلهم وفي تصويب الرصاص إلى أعينهم وقلوبهم وهم في شوارع المخيمات وأزقتها سواء خلال عودتهم من مدارسهم أو خلال اللعب مع بعضهم البعض.
وحولوا المعادلة في الأراضي الفلسطينية على الشكل التالي: «استشهاديون وأحزمة ناسفة يلفها الاستشهادي حول جسده في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وطائراته ودباباته وصواريخه، وأبرياء وضحايا الاعتداءات الإسرائيلية في مواجهة أبرياء يصفقون للاستيطان وللجيش الإسرائيلي وللسفاح شارون كلما زاد من الهولوكوست على الشعب الفلسطيني، فأين هو الإرهاب في ممارسة الضحية للعنف تجاه القاتل؟ فهل هو الاستشهادي الذي صادر الاحتلال أرضه ودمّر منجزاته وأوقف عجلة التطور له ولعائلته ولشعبه، ومالك إرادة الموت أم «إسرائيل» التي تلاحق الشعب الفلسطيني في كل مكان وتفتخر علناً وعلى مسمع ومرأى مجلس الأمن الدولي بعمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية؟
أكدت العمليات الاستشهادية على حقيقتين أساسيتين:
الأولى: فشل سياسة «إسرائيل» الأمنية في المحافظة على أمن «إسرائيل» وفي تركيع الشعب الفلسطيني، أو الحد من رغبته العارمة في كنس الاحتلال الإسرائيلي وتحرير وطنه المحتل.
والثانية: تكريس خيار المقاومة وبرنامج المقاومة كبرنامج وحيد قادر على دحر الاحتلال وتوحيد فصائل الشعب الفلسطيني كافة حوله للقضاء على النظام الاستعماري والعنصري في فلسطين وظهر بجلاء أن ترسيخ برنامج المقاومة كخيار شعبي يجعل من محاولات اللف عليه أو تهميشه مساً بالوحدة الوطنية الفلسطينية وتهديداً للإجماع الوطني الفلسطيني الذي تقرر حتى دحر الاحتلال.
وثبت للعالم أجمع أن الشعب الفلسطيني البطل قادر على الصمود والصبر والمواجهة وتحمل الخسائر البشرية والمادية الفادحة في سجنه الكبير لاستعادة أراضيه وحقوقه المغتصبة.
على «إسرائيل» أن تعرف أن كل انتصار تحققه بدعم كامل من أوروبا وأميركا وبعض الزعماء العرب هو انتصار مؤقت. لذلك كانت انتصارات «إسرائيل» كلها مؤقتة تتحقق على حساب الأنظمة العربية، بخلاف الشعوب العربية التي كانت تحوّل الانتصارات الإسرائيلية إلى هزائم. لذلك يمكن القول إن "إسرائيل" لم تحقق في يوم من الأيام انتصاراً على الشعوب العربية والإسلامية، وإنما فقط على بعض الحكام العرب.
والشعب الفلسطيني لم يشعر أبداً أنه هزم في معركة، إذ واصل مقاومته وانتفاضاته، إذ لا خيار له على الإطلاق إما المقاومة والاستشهاد حتى تحقيق النصر أو الموت على فراشه في غرف النوم.
وبنفس الوقت اعتبرت «إسرائيل» أن الحرب التي تشنها على الشعب الفلسطيني حرب الوجود، لذلك يجب ألاّ يشعر المحتل الإسرائيلي المغتصب للأرض والحقوق والثروات بالأمان، لأن المقاومة مستمرة، ولأن "إسرائيل" لا تفهم إلاّ لغة الحديد والنار، وأن الفلسطينيين يبتكرون دائماً وسائل حديثة للمقاومة.
إن الحافز لقيام واشتعال عمليات المقاومة يتصاعد باستمرار بسبب عنجهية ووحشية إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي إذ أصبح العقل العربي أكثر وعياً بنفسية اليهودي والمشروع الصهيوني وفي نظرته إلى الأنظمة العربية المتحالفة مع "إسرائيل".