عشت في القاهرة هذا اليوم ساعات أردنية بامتياز..

كنت اليوم في جلسة ذات أجواء عائلية إلى حدِّ كبير، مع أن أيا ممن كنت جالسا معهم لا يمت لي بصلة قرابة، فهم مصريون ولبنانيون وليسوا حتى أردنيين..

وفي الجلسة تعرفت على مخرجة الأفلام التسجيلية اللبنانية "نبيهة لطفي"، وهي سيدة تجاوزت الخامسة والسبعين من عمرها، وما تزال رغم مرور أكثر من ستين عاما على حياتها في مصر تخلط في حديثها الكلمات الشامية بالمصرية، كاشفة على الفور عن هويتها وأصلها الشاميين..

وأثناء تعارُفِنا شعرتَ السيدة "نبيهة لطفي" بسرور كبير عندما عرفت أنني أردني من مدينة نابلس المحتلة، وبدأت تعدِّدُ لي معارفها الأردنيين والفلسطينيين والنابلسية.. إلخ..

شرَّق الحديث بيننا وغرَّب، وكأنها كانت تنتظر فرصةً مثل هذه كي تستحضر كلَّ ذكرياتها الأردنية..

لقد كان كلُّ حديثها ممتعا، وتطرق لأمور لم أكن أتوقعها..

فمثلا كان آل الحسن "خالد، وهاني، وبلال" حاضرون في حديثها، إلى جانب "آل ملحس"، و"آل دروزة"، دون أن تنسى التطرق لزيجات "الملك حسين"، ولخلافاته مع أخيه "حسن" حتى وهو يعاني من مرض الموت، ووفقت مطولا عند ما أطلقت عليه "رعونة صبي الراليهات" الذي خلَّفه والده لقيادة الدولة التي اعتبرتها الأكثر حساسية في العالم..

ومع أنني عرفت لأول مرة أن المطرب "فريد الأطرش" هو من كان محيي حفل الزواج الأول للملك حسين من المصرية "دينا عبد الحميد"، التي عَرَفْتُ أيضا أنها كانت أستاذةً للأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة، وأن المخرجة اللبنانية المتحدثة كانت طالبة عندها قبل زواجها من الملك..

أقول.. رغم كل ذلك التدفق الثري في المعلومات التي كنت أسمع الكثير منها لأول مرة في حياتي، إلا أن محطة وحيدة استوقفتني أكثر من غيرها، لما فيها من دلالة رأيت أن من واجبي إطلاع كلَّ الأردنيين عليها، فهي على قدر من الأهمية الأخلاقية سيفيدهم كثيرا..

فالسيدة "نبيهة لطفي" – كما ذكرت وبالتفصيل – كانت وما تزال صديقة لأبناء رئيس الوزراء الأردني الكبير "سليمان النابلسي" منذ خمسينيات القرن الماضي عندما كانت شابة صغيرة، لأنها كانت في الأساس صديقة للأسرة، وأنها تعرفه جيدا قبل أن يكون رئيسا للوزراء، وعندما أصبح رئيسا لوزراء "الحكومة الأردنية الوطنية الوحيدة" في تاريخ الأردن – وهذا تعبيرها بالحرف الواحد – وأنها كانت تزور صديقتها في بيتهم حتى بعد أن أصبح والدها رئيسا للوزراء..

وتذكر أنها في أحد الأيام كانت جالسة مع صديقتها في بيت والدها، وعندما حضر من عمله التفَّ حوله أبناؤه وبداوا يطلبون منه طلبات الأبناء من أبيهم. وكلها طلبات بسيطة وليس فيها ما يثير الاستغراب. فهذا يطلب بنطلونا جديدا، وتلك تطلب فستانا يليق بابنة رئيس الوزراء، وذاك يطلب زيادة في مصروفه كي يستطيع أن يعزمَ أصحابه كما يفعلون هم أيضا.. إلخ، وهو يصغي إليهم ويهز رأسه بهدوء إلى أن انتهوا من سرد طلباتهم عليه..

عندئذ أخرج بطانتي جيبي بنطلونه بيديه إلى الخارج كما يفعل من يريد أن يشير إلى إفلاسه وطفره وعدم امتلاكه أيَّ نقود وهو يقول بحدَّة كان هدفها التأكيد:

"أنا رئيس وزراء صحيح، بس مش حرامي حتى أقدر أجيبلكم كل إللي طلبتوه..

شكلكم فاهمين رئيس الوزراء غلط يا أولاد سليمان النابلسي..

والله كل راتبي ولمدة شهرين ما بيقدر يلبيلكم طلباتكم..

شو رايكم بعديها نروح نشحت عشان ناكل ونصرف على حالنا الشهرين اللي جايين؟!

يعني عشان بنت رئيس الوزراء تلبس فستان جديد، وعشان حضرة ابن رئيس الوزراء يتفشخر قدام أصحابه بقزازة كازوز، يقوم رئيس الوزراء ياخذ سلفة على راتبه من أولها؟!

إنتو شكلكم ناويين تفضحوني وتخربوا بيتي؟!

أروح أستقيل أشرف لي"..

لكنه أُقيل، كي لا يكون الشرف في الأردن نموذجا يُحتذى به (!!)