كتاب- التاريخ الضائع-الحلقة(4)
كتابات ابن رشد تحفز العلماء الأوروبيين على تعلم العربية
تأليف :مايكل مورغان
يتناول المؤلف في هذه الحلقة العصر الذهبي للمسلمين في الأندلس، حيث ينقل لنا مساهمات علماء المسلمين في ذلك الزمان في مسيرة الحضارة الإنسانية، ويخص بالذكر علماء اشتهروا ولمعوا من خلال أعمالهم التي ترجمت إلى اللغة اللاتينية مما أتاح المجال لعلماء الغرب كي يطلعوا عليها.
ومن هؤلاء المجريطي والزرقالي والبطروجي وابن رشد والطوسي، الذين قدموا للعالم خلاصة علوم الحضارات السابقة من اليونانية والفارسية إلى الرومانية والهندية والصينية، هذا بالإضافة إلى ما قدموه هم أنفسهم من تصحيح لبعض المفاهيم الخاطئة وما توصلوا إليه من خلال البحث والاكتشاف العلمي. يحدثنا المؤلف أيضاً عن شغف العلماء الغربيين بتعلم اللغة العربية من أجل الاطلاع على علوم العرب من منبعها.
تضم شبه جزيرة أيبيريا كلا من أسبانيا والبرتغال. وعلى أرضها الواقعة جنوب غربي أوروبا، قامت الدولة الإسلامية الزاهرة تحت اسم الأندلس. تحوي شبه الجزيرة سهولا وهضابا ويشق أرضها الخصيبة عدد من الأنهار والجداول فضلا عن منابع المياه التي تجري في الوديان الثرية بالشجر والثمر والطير،
وبالشِعْر أيضا. وعندما كانت الأندلس ـ أسبانيا الإسلامية ـ تتكلم العربية كان أهلها يطلقون على نبع المياه وموقع انسيابها اسم مجريات المياه. وقد حرفوها من باب التسهيل إلى كلمة «مجريت» وهو الاسم الذي ما زالت تحمله حتى اليوم عاصمة دولة أسبانيا، ولكن مع تحريف تّم بالطبع عبر القرون لتصبح كما نعرف: مدريد.
عند الموقع القديم لمدريد، يوم أن كان اسمها «مجريت» (أو مجريط) نشأ مسلمة المجريدي أو المجريتي (المجريطي كما عرفه العرب) ودرس علوم الأرض وبخاصة الرياضيات، وعلوم السماء وبخاصة الفلك، وكان ذلك خلال القرن العاشر للميلاد. وعندما ذاعت شهرته واعترف العلماء بنبوغه انضم إلى بلاط الخلفاء الأمويين حكام الأندلس في ذلك الزمن،
وفي ظل هذه الرعاية استطاع أن يصحح الجداول الفلكية التي سبقه إلى وضعها أستاذ الرياضيات الخوارزمي وكان ذلك بعد رحيل الخوارزمي إلى دار الخلود بأكثر من 150 سنة. ورغم أن المجريطي عاش في أسبانيا المسلمة في أقصى الغرب
فقد شغف بحضارة فارس في بلاد الشرق وابتدع ـ كما يقول مؤلف كتابنا ـ أسلوبا مبتكرا لتحويل الروزنامة التاريخية الفارسية إلى التواريخ الإسلامية مما أتاح لأول مرة إجراء حسابات دقيقة وتوقيتات وتحديدات مضبوطة لتاريخ ووقائع الحضارة الفارسية القديمة السابقة على الإسلام.
العربية بوابة المعرفة
يعزو المؤلف إلى هذا النابغة الأندلسي المسلم فضلا ربما لم يخطر له شخصيا على بال، لقد ذاعت شهرة دراساته في علوم الفلك والرياضيات وعبرت هذه الشهرة جبال البرانس الشمالية إلى حدود فرنسا ومنها إلى إيطاليا وسائر أنحاء أوروبا حيث ترجموا كتبه من العربية إلى اللاتينية وبعدها عرف مثقفو أوروبا فضل الرجل ومن خلاله أدركوا عظمة المساهمة الجليلة التي أسدتها الدولة والحضارة الإسلامية إلى أهل ذلك الزمان، من العصور الوسطى إلى فجر العصر الحديث.
وإذن كان لا بد من الاطلاع على كل مجالات وإبداعات هذا التراث الإسلامي، وبالتالي كان حقا على كل مثقف يحترم نفسه في تلك الفترة أن يتعلم اللغة العربية، يأتي إلى قرطبة أو غرناطة أو أشبيلية أو غيرها كي يثقف لغة العرب وآدابها ويقطف ثمارها في مجال العلوم الإنسانية والتطبيقية على السواء.
هكذا دارت عملية التفاعل في مجال المعارف الإنسانية، يعلق المؤلف في هذا السياق (ص 131) قائلا: بعد قرن من رحيل المجريطي عام 1006 للميلاد شهدت أسبانيا المسلمة قدوم أو نزوح الرهبان والمفكرين الكاثوليك وقد أخذهم ما يشبه السحر إزاء ما قدم العرب والمسلمون،
وهكذا شاء القدر أن تكون أعمال المجريطي هي نقطة البداية للكثيرين، تفتح أمامهم أبواب هذا العالم، المجيد الحافل بالفكر والعلم والإبداع الذي شاده المسلمون في ميادين علوم الفلك والفلسفة والرياضيات، ولم يكن الأمر ليقتصر فقط على أن «سلفستر الثاني» وهو بابا فرنسي قد حرص على أن يدرس العربية في أسبانيا ويتعلم من مؤلفات المجريطي،
بل امتد الأمر ليشمل شخصيات ورموزا عاشت في ذلك الزمان مثل إبيلار من مدينة باث وجيرار الكريموني وروبرت سستر وغيرهم كثيرين، تأكد حرصهم على دخول هذا العالم السحري المحفوف بالأسرار. وكان باب الدخول هو المجريطي الذي امتد عطاؤه، لا في مجال التنظير وحسب، بل شمل أيضا تطوير آلة ـ أو بوصلة الاسطرلاب
لكي يوسع استخدامها بحيث لا تقتصر ـ كما أسلفنا في حلقة سابقة ـ على أغراض الملاحة البحرية بل استطاع العالم الأندلسي أن يضفي عليها تطويرات كي يستخدمها في قياس أبعاد الأراضي، وبهذا استطاع المجريطي، بالتعاون مع زميل له اسمه ابن الصفار،
أن يدخلا أول تحسينات تقنية على طرائق قياس ومسح مساحات الأراضي منذ أيام الرومان، وهكذا لم يقتصر استخدام الاسطرلاب على تقسيم مساحات البساتين إلى بيارات غراس الزيتون والبرتقال والليمون بل امتد الاستخدام إلى تصميم حفر قنوات الري التي كانت لازمة لري الأراضي الشاسعة في أصقاع الأندلس.
وجاء دور طليطلة
مدينة أخرى ـ بخلاف مجريط أو مدريد القديمة قدمت نابغة آخر أضاف مْجدا إلى تكنولوجيا عصر الأندلس الإسلامية، المدينة هي طليطلة (توليدو كما تعرفها المراجع الغربية). ففي حي من أحيائها ولد أبو اسحق إبراهيم الزرقالي الذي سيعرفونه في المراجع اللاتينية باسم «ارزاشل» أو «أرزاكل»، وكان مولده في عام 1029 للميلاد ويدل اسمه ـ كما يشير المؤلف ـ على أنه من أسرة كانت تحترف الحفر على المعدن.
لم ينتظم أبو اسحق في دراسة رسمية ولا جلس إلى حكيم يتعلم منه النظريات الفلسفية أو غيرها، بل نشأ تلميذا يتعلم من حرفة أبيه، ويستخدم مواهبه ونبوغه من أجل تطوير وتصنيع الأجهزة التي يمكن استخدامها لأغراض الضبط والتدقيق المطلوبين في البحث العلمي ـ التطبيقي أو الامبريقي على وجه الخصوص.
طلبوا منه يوما أن يصنع جهازا يستخدمه العلماء الفلكيون، وعندما دقق في تصنيعه استرعى انتباههم فبدأوا يختبرون معارفه العلمية من باب التقدير والإعجاب، وما كان منه إلا أن ضحك قائلا في تواضع إنه لم يفتح كتابا في يوم من الأيام، وما كان منهم إلا أن توسموا فيه نجابة واستعدادا وشجعوه على معاودة الدراسة المنتظمة
فإذا بصاحبنا يبدأ تلميذا ومتعلما في سن الحادية والثلاثين، متمثلا في ذلك القول الكريم المأثور في تراث الإسلام الذي يحض المسلمين على أن يطلبوا العلم من المهد إلى اللحد. سنتان عاد بعدهما الزرقالي وقد حصّل علوما ومعارف لدرجة أن أفسح له كبار علماء عصره مكانا ومكانة بين صفوفهم.
رائد صناعة الساعات
بعدها تخصص العالم الأندلسي في دراسة وتصنيع آلات ضبط الوقت. وكان بهذا رائدا مقتدرا ومشهودا بفضله في تاريخ صناعة الساعات. وفي عام 1062 للميلاد استطاع أن يصمم ويشيد الساعة المائية الأسطورية كما يصفها مؤلف كتابنا وقد اشتهرت في التاريخ باسم ساعة طليطلة التي لم تكن كفاءتها لتقتصر على تبيان ساعات الليل والنهار بل كانت تبين أيضا أيام الشهور الهجرية القمرية بكل أهميتها بالنسبة للمسلمين.
يضيف المؤلف قائلا في هذا السياق: هذا الجهاز العجيب سيظل يؤدي مهامه في تحديد المواقيت حتى القرن الثالث عشر للميلاد، فيما تظل سيرة الزرقالي مرتبطة بعكوفه على إعداد وإصدار سفر جليل آخر حمل اسم «جداول طليطلة ويمثل واحدا من أدق حسابات البيانات الفلكية إضافة إلى إنتاجه واحدا من أوائل التقاويم في العالم باسم «كتاب الجداول» (وبالمناسبة يشير المؤلف بحق إلى أن كلمة تقويم - روزنامة في لغات العرب وهي «المناك» مستقاة من كلمة «المناخ» العربية).
والمهم أن كتاب - تقويم النابغة الأندلسي جاء عبارة عن سلسلة من الجداول التي تتيح للمستخدم أن يحدد بدقة بداية الشهور الإسلامية والفارسية والرومانية والقبطية. كما أن الجداول ترصد وتتنبأ بكسوف الشمس وخسوف القمر وتسمح للمرء أن يحدد بدقة أيضا مواقع الكواكب في أي يوم من أيام السنة.
نابغة أشبيلية
ما زال المؤلف يواصل سياحته الفكرية في ربوع الأندلس الإسلامية ليتحول بالبحث من مدريد وطليطلة إلى أشبيلية، الحاضرة التي ارتبط اسمها بالوزير الشاعر المعتمد بن عباد الذي كان يأوى إلى مكان يعرف باسم «وادي الطلح» لكثرة أشجاره وصفاء ينابيعه وسجع حمائمه التي كانت تتخذ أعشاشها بين أفنانه وأغصانه.
لا عجب أن يقول أمير شعراء العروبة شوقي إذ نفاه المستعمرون الانجليز إلى الأندلس في العقد الثاني من القرن العشرين مخاطبا الحمام في وادي الطلح: يا نائح الطلح أشباهٌ عوادينا
نشجي لواديك أم نأسى لوادينا؟
أشبيلية احتوت بدورها نابغة أندلسيا آخر اسمه نور الدين البطروجي ويعرفونه في المتون اللاتينية باسم «البتراجيوس». ولد في بلاد المغرب الأقصى بعد عقود قليلة من رحيل سلفه المجريطي ونزح إلى أشبيلية مفعما بكل ما وعاه من علوم المشارقة وإخوانهم المغاربة وفي مقدمتهم كان الحسن بن الهيثم رائدا لعلوم الضوء والبصريات،
وبدوره استطاع تنقية وتصحيح أعمال ونظريات بطليموس مما شابها من أخطاء وما خالطها من أوهام وأساطير. وبدوره أيضا ترجمت أعماله العلمية إلى اللاتينية على يد باحث من اسكتلندا اسمه مايكل سكوت عاش وأنتج ترجماته في جزيرة صقلية إذ كانت تحت حكم المسلمين.
المسلمون الموسوعيون
ولأن أهل العلم في تلك المراحل العفيّة من تاريخ الحضارة الإسلامية كانوا موسوعيي النزعة بمعنى أن يجمع الفرد منهم بين دراسة الرياضيات والفلك، وأحيانا الطب والفلسفة وأحيانا بين هذا كله وبين التفقه في أحكام الشريعة وعلوم الدين، إلا أن واحدا منهم هو الأشهر من سلسلة العلماء المسلمين الذي يستعرض مؤلف كتابنا سيرتهم وعطاءهم الفكري: اشتغل بالفلك لكن شهرته وذيوع صيته ارتبطا أساسا بمجال الفلسفة،
هنا يحدثنا مؤلف الكتاب في إكبار وإعجاب واضحين عن «أفيروس» كما يعرفه الأوروبيون حتى أيامنا هذه، وهو بالطبع فيلسوف الأندلس أبو الوليد ابن رشد المولود في قرطبة في عام 1126 لميلاد. ويقدم كتابنا لسيرته قائلا: يتمحور جوهر معتقداته حول منهج يدعو إلى حرية التفكير والتخلي عن المناهج التقليدية التي درج الناس على اتباعها، ومن ثم فقد عاود التركيز على عقلانية أرسطو، وبذلك لم يكن نهجه الفلسفي ليبعد كثيرا عن نهج مُعاصره في بلاد المشرق، عمر الخيام.
ولكن تأثير ابن رشد الأندلسي المسلم كان عميقا لدرجة أن تأثر به إعلام عصره حتى من غير المسلمين وكان في مقدمتهم مُعاصره أيضا الفيلسوف اليهودي ابن ميمون ثم العلامة المسيحي توما الأكويني ويكفي أن يأتي في مستقبل الأيام رسام عصر النهضة رافاييل لكي يضمه إلى لوحة «مدرسة أثينا» عن حكماء الدنيا وباعتبار ابن رشد واحدا من أعظم فلاسفة الإنسانية عبر التاريخ.
عرف ابن رشد كيف يحدق به الخطر وكيف يقارب حافة المخاطرة، شأن أي مفكر جسور يجرؤ على تحدي التقليد ويرفض مجاراة العرف القديم المتبع، في عصره تعرض لنقد لاذع من العلماء المحافظين (ولا يزال هناك من يأخذ عليه بعضا من أفكاره وطروحاته) وكان أن فارق قرطبة إلى مراكش وخاض مناظرات شتى في مواجهة ناقديه وحاسديه ومنافسيه لكنه نجح في الانقطاع للفكر والتأمل والتدوين،
رغم أن عصره كان حافلا بالمتقلبات والاضطرابات. ومن خلال شروحاته المسهبة وتعليقاته الضافية وإضافته النقدية المستنيرة إلى كتابات المعلم الأول أرسطو ـ كما يسمونه، فقد دخل ابن رشد تاريخ الفكر الإنساني تحت اسم «المعلم الثاني اعترافا بفضل مفكر مسلم مستنير من بلاد الأندلس.
وبدوره ترجمت أعماله إلى اللاتينية فكان أن حفزت العلماء الأوروبيين على تعلم العربية من أجل اكتشاف المنبع الأول والأصول الأساسية لهذا الفكر المستنير، وكان أن عبرت أفكاره مع غيره من بناة الحضارة الإسلامية جبال البرانس فاجتازت بذلك حدود فرنسا ومنها إلى سائر أصقاع أوروبا.
وما أن وافى القرن الثالث عشر حتى رصد الملك الفونسو الحكيم بندا ماليا خاصا لترجمة أعمال هؤلاء المفكرين المسلمين وفي مقدمتهم الحسن بن الهيثم إلى الأسبانية، ومن ثم كانت ترجمة هذه الأعمال إلى اللاتينية لدرجة أن ظل علماء الفلك وأساتذة الرياضيات يتسابقون ـ كما يؤكد المؤلف ـ على اقتناء ولو نسخة واحدة منها.
عصر النهضة في أوروبا
رحل ابن رشد قبل نهاية القرن الثاني عشر بسنتين، وجاء القرن الثالث عشر ليشهد تأثيرات الفيلسوف الأندلسي المسلم ومعه تلك الكوكبة التي عرض لها مؤلف كتابنا فيما تناولناه من فصول، جاء ليشهد الخيوط الأولى من بزوغ شمس المرحلة الجديدة التي تسلمت فيها قارة أوروبا مشاعل الحضارة الإنسانية، مرحلة عرفت حرفيا بأنها «الرينسانس» بمعنى الميلاد الجديد، وبمعنى انبعاث ـ استعادة التراث الإنساني النفيس الذي أودعته في ذاكرة الإنسانية حضارة اليونان الإغريقية ثم حضارة الرومان اللاتينية.
وما كان لهذا التراث أن يبعث ويحيا من جديد كي يشكل الأساس الوطيد لنهضة أوروبا بعد ظلمات القرون الوسطى لولا أن حافظ على أضواء هذه المشاعل الحضارية علماء ومفكرو وفلاسفة ومترجمو العالم الإسلامي على امتداد فترة زمنية طويلة ومباركة وحافلة بدأت في مطالع القرن التاسع وامتدت حتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد.
وإذا كان المأمون العباسي قد أمر ببناء مراصده الفلكية الرائدة سنة 829 ميلادية في بغداد العراقية وفي تدمر السورية وغيرهما فقد امتد شغف المسلمين بعلوم الفلك. ورغم ما مر على العالم الإسلامي بعد ذلك من مواجهات ومحن ليس أقلها غزوات الإعصار المغولي المنطلق من أواسط آسيا فقد استجمعت الحضارة الإسلامية إرادتها وطاقاتها فإذا بعام 1259 يشهد بناء أكبر مرصد فلكي في عالم ذلك الزمان على الإطلاق
وهو الذي أشرف على تصميمه وتشييده محمد بن الحسن الطوسي المولود في عام 1201 وقد عاش الرجل بدوره وسط دوامات النوائب التي حاقت بالعالم الإسلامي، وتحوي سيرته الشخصية عددا من المآخذ والسلبيات. بيد أن الذي بقي منها هو جوانبها الفكرية كعالم ضليع في مجال الفلك والهندسة والرياضيات بشكل عام مع نهج مبتكر اتبعه الطوسي في مجال التأثر العلمي والتفاعل مع ثقافات الأمم الأخرى.
وبينما ظلت الحضارة الإسلامية منذ عصر المأمون تتأثر وتفيد من منجزات الحضارات القديمة في الهند وفارس واليونان والرومان، تطلع الطوسي إلى آماد وآفاق أبعد وربما عبر طريق الحرير القديم عبر آسيا فكان أن أفاد كثيرا من منجزات حضارة الصين.
شغف مقدس
رغم الظروف السلبية التي أحاطت بالطوسي، إلا أنه استطاع مع تلاميذه ومساعديه مواصلة مسيرة العلم والبحث ـ منطلقين من هذا الشغف المقدس بالتأمل الموضوعي في آلاء الكون وعبقرية خلقه بحيث ارتبط اسمه بجعل حساب المثلثات علما قائما بذاته في مضمار الرياضيات، وبحيث استوفى بحوثه من الهندسة في مجال الزاوية القائمة فضلا عن بحوث أخرى عن خواص الفلزات ونظرية التلوين وكتابات أخرى في علوم الطب وفي الفلسفة والأخلاقيات.
صحيح أن إيقاع الحوادث وتحولات الزمان بدأت تصيب بسلبياتها كيان العالم الإسلامي، إلا إن التاريخ ما زال ينصف كل هذه الإسهامات والاجتهادات، يعلق مؤلف كتابنا (ص 149) قائلا: رغم أن بغداد اجتاحها إعصار التتار. ورغم أن القاهرة بدأت في زمان الطوسي ومعاصريه تشعر بالقلق خشية من غزو مغولي ثاني يأتي ليعصف بالحضارة والتقدم.
ورغم كيان الأندلس الذي كان يتهاوى في ظل دويلات الطوائف ويترنح تحت ضربات أوروبا التي كانت تستعد لاستردادها بعد قرون من الحكم الإسلامي، ورغم أن فارس أصبحت في ذلك الحين خاضعة للنفوذ المغولي، إلا أن الطوسي سيظل له فضل الاستمرار رغم كل هذه المحن،
منطلقا من إصرار عجيب على أن يواصل مسيرة العلم والبحث الإسلامي، بحيث ظل متوهجا ونافعا ومثابرا ومجتهدا في مباحث وتخصصات شتى، إلى أن حان الأجل وآذنت ساعة الرحيل - شأنه في ذلك شأن النجم الذي كان قد شاهده متوهجا الباحث المصري الشاب ابن رضوان من منارة مسجد الحاكم في القاهرة ثم ما لبث أن عاينه وقد خبا ضياؤه بعد أن طوته الآفاق وكان ذلك كما أسلفنا من قبل في سنة 1006 للميلاد.
عرض ومناقشة: محمد الخولي