المهاتما غاندي../ ومسيرة اللاعنف " الساتياغراها"سلام مرادولد موهانداس كارامشاند غاندي في 2 تشرين الأول عام 1869 في بلدة صغيرة اسمها بورباند. والمهاتما لقبه ومعناه: الروح العظيمة.
"سيكون صعباً على الأجيال القادمة أن يصدقوا بأن إنساناً كهذا، بدمه ولحمه، قد سار على هذه الأرض" انشتاين. كما وصف غاندي صديقه (رومان رولان) بأنه "نصف إله زائل سيقود إنسانية جديدة إلى طريق جديدة".
إن غاندي أكبر زعيم سياسي أنجبته الهند في العصر الحديث، فهو مصلح اجتماعي وإنسان كبير، ومواطن عالمي وبطل من أبطال السلام، وممثل لروح الشرق.
ولد غاندي في أسرة طيبة وعاش مناضلاً، ومتقشفاً، كانت عائلته محافظة ولها باع طويل في العمل السياسي، حيث شغل جده ومن بعده والده منصب رئيس وزراء إمارة بور بندر، أمضى غاندي طفولة عادية ثم تزوج وهو في الثالثة عشرة من عمره بحسب التقاليد الهندية المحلية ورزق من زواجه بأربعة أولاد.
داعية اللاعنف
وهب الزعيم الهندي حياته لنشر سياسة المقاومة السلمية أو اللاعنف واستمر على مدى أكثر من خمسين عاماً يبشر بها.
أسس غاندي ما عرف في عالم السياسة بـ"المقاومة السلمية" أو فلسفة اللاعنف (الساتياراها). وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آن واحد ملخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق وتكوينه قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف.
وقد أوضح غاندي أن اللاعنف لا يعتبر عجزاً أو ضعفاً، ذلك لأن "الامتناع عند المعاقبة لا يعتبر غفراناً إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعلياً". وهي لا تعني كذلك عدم اللجوء إلى العنف مطلقاً، "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله".
فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتل من جهة وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية تمهيداً للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه.
أساليب اللاعنف
تتخذ سياسة اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضها منها: الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت. ويشترط غاندي لنجاح هذه السياسة تمتع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر.
كتب أثَّرت في غاندي
تأثر غاندي بعدد من المؤلفات كان لها دور كبير في بلورة فلسفته ومواقفه السياسية منها "نشيد الطوباوي" وهي عبارة عن ملحمة شعرية هندوسية، كتبت في القرن الثالث قبل الميلاد واعتبرها غاندي بمثابة قاموسه الروحي ومرجعاً أساسياً يستلهم منه أفكاره.
إضافة إلى "موعظة الجبل" في الإنجيل، وكتاب "حتى الرجل الأخير" للفيلسوف الإنكليزي جون راسكين الذي مجد فيه الروح الجماعية والعمل بكافة أشكاله، وكتاب الأديب الروسي تولستوي "الخلاص في أنفسكم" الذي زاده قناعة بمحاربة المبشرين المسيحيين، وأخيراً كتاب الشاعر الأمريكي هنري ديفيد تورو "العصيان المدني"، بالإضافة إلى تأثر غاندي بالبراهماتية التي هي عبارة عن ممارسة يومية ودائمة تهدف إلى جعل الإنسان يتحكم بكل أهوائه وحواسه بواسطة الزهد والتنسك وعن طريق الطعام واللباس والصيام والطهارة والصلاة والخشوع والتزام الصمت يوم الاثنين من كل أسبوع...؛
وعبر هذه الممارسة يتوصل الإنسان إلى تحرير ذاته قبل أن يستحق تحرير الآخرين.
صيام حتى الموت
قرر غاندي في عام 1932 البدء بصيام حتى الموت احتجاجاً على مشروع قانون يكرّس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، مما دفع بالزعماء السياسيين والدينيين إلى التفاوض والتوصل إلى "اتفاقية يونا" التي قضت بزيادة عدد النواب "المنبوذين" وإلغاء نظام التمييز الانتخابي.
مسيرة الملح
في عام 1930 اختار غاندي قضية ضريبة الملح واحتج عليها، وهي قضية لم تقلق البريطانيين في البداية، لأنها كانت تبدو بسيطة، الملح كان يستخرج من البحر، لكن الحكومة البريطانية هي التي كانت تستخرج الملح في الهند وتبيعه وتحقق منه أرباحاً طائلة. قال غاندي إن الملح مُلك للهند، وإنه سيعمد إلى خرق القانون المتعلّق بالملح.
في البداية، طلب غاندي أن يناقش المسألة مع رئيس الحكومة البريطانية في الهند، وهو نائب الملك، رفض نائب الملك المناقشة اعتقاداً منه أن الموضوع ليس مهماً، وفي 12 آذار 1930 بدأ مع أتباعه مسيرة طولها 322 كيلومتراً من بيته إلى البحر لاستخراج الملح، وطوال 24 يوماً، تابع شعب الهند وبقية العالم مسيرته، وكانت الآمال كبيرة، وعلى مرأى من آلاف الحاضرين، مشى غاندي في البحر وغرف حفنة من الملح.
لقد كان هذا العمل، الذي ينطوي على التحدي، إشارة موجهة إلى الأمة، وعلى امتداد سواحل الهند، بدأ الناس باستخراج الملح بطريقة غير قانونية.
وكتب غاندي قائلاً: "إنني أطلب تعاطف العالم في هذه المعركة الرائدة بين الحق والقوة".
قضى غاندي وشعب الهند سنوات عديدة زاخرة بأعمال الاحتجاج قبل أن يغادر البريطانيون الهند في النهاية.
حزنه على تقسيم الهند
بانتهاء عام 1944 وبداية عام 1945 اقتربت الهند من الاستقلال وتزايدت المخاوف من الدعوات الانفصالية الهادفة إلى تقسيمها إلى دولتين بين المسلمين والهندوس، وحاول غاندي إقناع محمد علي جناح الذي كان على رأس الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته لكنه فشل.
وتمّ ذلك بالفعل في 16 آب 1947، وما إن أعلن تقسيم الهند حتى سادت الاضطرابات الدينية عموم الهند وبلغت من العنف حداً تجاوز كل التوقعات فسقط في كلكتا وحدها ما يزيد عن خمسة آلاف قتيل، وقد تألم غاندي لهذه الأحداث، واعتبرها كارثة وطنية، كما زاد من ألمه تصاعد حدّة التوتر بين الهند وباكستان بشأن كشمير وسقوط العديد من القتلى في الاشتباكات المسلحة التي نشبت بينهما عام 1947/1948.
وأخذ يدعو إلى إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين طالباً بشكل خاص من الأكثرية الهندوسية احترام حقوق الأقلية المسلمة.
وفاته
لم ترُق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، واعتبرتها بعض الفئات المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، وفي 30 كانون ثاني 1948 أطلق أحد الهندوس المتعصبين ثلاث رصاصات قاتلة عليه فمات عن عمر 79 عاماً.
أرَّخ نهرو لذكرى وفاة غاندي بكلمات جميلة نختم بها المقال. وهي الكلمات التي نعاه بها جواهر لال نهرو بالراديو ساعة وفاة غاندي.
"لقد خبا النور من حياتنا، وانتشر الظلام في كل مكان. فلم أعد أعرف ما أقوله لكم ولا كيف أقوله، لقد اختفى زعيمنا المحبوب (بابو) أبو الشعب من بيننا، لقد قلت أن النور قد خبا من حياتنا ولكنني أخطأت، فإن هذا النور الذي سطع على البلاد لم يكن نوراً عادياً، إن النور الذي أنار حياة هذه البلاد سنوات عديدة، سوف يظل يضيئها سنوات عديدة أخرى. وسوف يبقى ماثلاً أمام أعين الناس بعد ألف عام، يراه العالم أجمع، ويدخل السكينة على قلوب لا حصر لها، فإن هذا النور، كان يمثل الحق في صورته الحية، فلقد أقام هذا الرجل الخالد بيننا يحمل رسالة الحق الخالدة، ويذكرنا بالطريق المستقيم، ويقود هذا البلد العتيد نحو الحرية".