منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: سنوات النحس

  1. #1

    سنوات النحس

    قصة " ســــنوات الــــنحــــس"


    منذ أن ولدتني أمي،وبعد صرختي الأولى،تدحرجت في دروب الحياة،باكيا من ظلم الأقران،فقد كنت نحيف البنية،وكانت الأمراض تجد ضالتها ومرتعها في جسدي العليل،لم أكن بكاء ولاشاكيا،فقد كنت أخفي الامي ووخزها القوي بداخلي،فمنذ صغري منحني الله ذكاء وموهبة ونبوغا،واحساسا مرهفا،ولم اكن قادرا على أن أبوح لوالدي بمعاناتي لأني أعرف أنهما فقيران،فابي يكدح من الصباح الى المساء مقابل أجر زهيد،اما أمي فقد كانت تعاني من مرض الصرع المزمن،ولايداهمها المرض اللعين الا بالليل،فتصدر شخيرا كالثور المذبوح،وتنتفض انتفاضة المحتضر،فيبدأ صدرها في الارتفاع والانخفاض بشكل قوي،ولصغري سني لم أكن أعرف الا ان امي تعيش لحظات الإحتضار القاتلة،كنت أبكي في جوف الليل،وأخرج أمام عتبة بيتنا والدنيا قر، فأشرع في البكاء،فمرض أمي مخيف وقاس على طفل صغير مثلي،وفي الغد أذهب للمدرسة كالفرخ الدائخ،وما إن أجلس على الكرسي حتى اغرق في نوم عميق،فينهال علي المعلم بالضرب والركل والرفس،وكانت هذه الطينة من المعلمين من الفقهاء الذين لم يلتقوا تكوينا حديثا نظرا لمحدودية مستواهم الدراسي من جهة،ولحاجة الدولة الملحة للمعلمين بعد الاستقلال،وخروج المستعمر الفرنسي من المغرب،لم يكن في مقدوري ان أشرح للمعلم أن أمي مريضةـ ولم يكن هو يكلف نفسه عناء السؤال عن وضعيتين ومراعاة نفسيتي خصوصا أنه يرى بأم عينيه بقع زرقاء تحت عيوني من شدة السهر والمرض.
    ظل المرض اللعين يعا ود أمي،ولسوء الحظ ان حالة الغيبوبة أصبحت تلازمها ليل نهار،ونظرا لغياب الوالد،كنت ارفض الذهاب الى المدرسة،كانت المسكينة تعرف حبي للدراسة والتعلم،وتحاول المقاومة لكي تبدو أمامي في كامل صحتها لتقول لي:
    - اذهب يابني،لاتخشى شيئا ان مرضي عابر يأتي ويروح،وانا أحمد الله على كل حال.
    - لن أذهب يا أمي هل أتركك لوحدك،ومن سيمنحك جرعة ماء اذا جاءتك الغيبوبة.
    كنت أبكي بشكل هستيري،فهذا المرض لازم أمي سنين طويلة الى اليوم،ومرضها تحول بالنسبة لي الى عقدة،فقد تابعت دراستي الاعدادية والثانوية والجامعية بمعجزة،فقد كنت أنتظرحلول يوم السبت والأحد بفارغ الصبر لرؤية امي وزيارتها،فهي بالنسبة أعز شيء في الوجود أطال الله في عمرها ومنحها القوة والصحة والسعادة وراحة البال.
    مرت أعوام على تلك السنوات العجاف من طفولتي المرة،حيث لم يكن هناك دواء لأغلب الامراض من بينها مرض الصرع،والأنكى من ذلك أننا كنا نعيش في حي شعبي،يؤمن قاطنوه بالشعوذة والسحر والخرافات،ومن كثرة الاقتراحا ت حمل أبي وجدتي أمي الى زيارة الأولياء والأضرحة والقيام بالرقي الشرعية والغير الشرعية،ولم تكن أمي لتشافى من مرضها بل ازدادت حالتها تأزما،بسبب الصفعات التي تلقتها من فقهاء الشعوذة وزعمهم ان هذه الحركات ستخرج الجني الذي يسكنها،فكانت حالتها تزداد سوءا مع تلك الأنواع الغريبة والكريهة من البخورالتي لم تكن تشفيها بقدر ما كانت تخنقها.
    مرض أمي صاحبني في يقظتي ومنامي،في صبحي وممساي،وأصبح أمر شفائها هو الشيء الوحيد الذي يهمني في هذه الحياة،الى أن ظهر في سماء حياتي قلب مشتعل بالحب،متقد بالغرام،فبدل وحشتي أنسا،وكراهيتي الى حب،كان اسمها نعيمة ولكن يلقبونها بنعمى،جسد فاتن،وعيون عسلية،ونهود كالرمان،وشعر حريري أسود كالليل البهيم،في عزاليأس تلقفتها كهبة من السماء،وحلت على روحي العطشى فروت جذبها وسقت ظمأها وأشفت غلة قحط قديم،وجفاف مميت ،كانت نعمة حقيقية حلقت بي في سموات العشق،ونهلنا من معين الحب الذي لا ينضب،شربنا من رحيق الأقداح المعتقة،وسكرنا بلامدام،كانت بالنسبة لي كل شيء،منحتها نصوصي الإبداعية الاولى،قرأ ت على مسامعها قصائد غزل تصف جمالها وحسنها ورشاقتها واستدارة قدها،كنت لا أنام دون أن امر من أمام منزل عائلتها،أحظى بابتسامة من شفتيها ونظرات حب من عينيها،ووعد بالوصال غدا،عرف الكل بقصة حبنا وقالوا في السر والعلن:
    - نعمى لجمال وجمال لنعمى.
    أجمعوا على ان هذه القصة ليست لها سوى نهاية واحدة الزواج.
    في يوم ربيعي،سماؤه زرقاء ونسيم عليل،جاء من يخبرني أن زوجة المستقبل في أحضان رجل عجوز داخل سيارته الفارهة،هرولت نحو المكان فاذا بالخائنة كما وصفوها لي عارية،وقد برزت كل مفاتنها،وضحكاتها المجلجلة التي اعرفها كما اعرف نفسي وصل صداها الى قلبي فغرس الخنجر المسموم فيه.
    صعب أن تخذلك امرأة بدون سبب وأن تطعنك من الخلف،ومن شدة الصدمة،وفي وقت وجيز،فقدت خمسة وعشرون كيلو من وزني،وأصبت بانهيار عصبي،واصبحت مدمنا على تناول اقراص ومسكنات ،ولما لم تؤتي أكلها شرعت في شرب الخمر،وكل أنواع المسكرات ودخنت الحشيش والسجائر كل هذا بسبب امراة زانية مستهترة.
    بالرغم من كل هذه الظروف الملعونة أنهيت دراستي العليا بتفوق،وحصلت على الدكتوراه بميزة: حسن جدا،وكنت الأول في دفعتتي،وانتظرت بشوق ولهفة تعييني استاذا في الجامعة،لكن مرت سنون طويلة،وتسربت جحافل من الشيب الى رأسي دون أن احصل على عمل، اعتصمت مع رفاقي قرب البرلمان،أشبعنا البوليس ضربا وركلا،وقدموا المتزعمين منا الى المحاكمة وانا بينهم وقضيت ثلاث سنوات في السجن بتهمة"العصيان والتمرد واهانة المخزن"
    خرجت من السجن،وأنا احمل معي أمراضا شتى "مرض السكري اللعين،والحساسية والقلب" وعند باب السجن وجدت في انتظاري زميلة لي كانت من المعتصمات معي قرب قبة البرلمان،وكانت حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة،عانقني وبكت بحرقة وهي ترى ارتعاشة يدي كالمقرور،شاهدت صورا حية عن جسد كان ينبض بالحياة ويرفل في الحرية، وتحول الى شبح أكلته سياط الجلاد وبرودة الجدران المخيفة كما يأكل الصدأ الحديد،عانقتني والدموع في عينيها،قالت لي:
    "هذا لقاء ليس بعده فراق،وتوحد ليس بعده شتات"
    فرحت كما لم أفرح من قبل وقلت في نفسي:"هاهو الله قد عوضني عن سنوات الخيانة والضياع في هذه المثقفة ،وأي رجل صاحب سوابق عدلية تقبله غادة حسناء وترضاه بعلا لها"
    اتفقنا على الزواج في غضون الأسبوع المقبل،وشدت الرحال الى مدينة الدار البيضاء كي تزف اليهم بشرى الميثاق الشريف الذي سيجمعها بمن أحبه قلبها،
    في ذلك المساء كنت انتظر مكالمتها لي،للاطمئنان بأنها وصلت بخير،واذا بخبر نزل علي كالصاعقة نقلته قناة الاخبار مفاده ان حافلة متجهة الى مدينة الدار البيضاء قد اصطدمت بشاحنة،وكانت الحصيلة الاولى موت ثلاثين مسافرا،لم اصدق الخبر،وطرت الى مكان الحادثة،ودلوني على اقرب مستشفى نقل اليه الجميع،عرضوا علي الموتى،ارتعدت فرائصي وانا ارى شابة تشبه حبيبة قلبي،تفحصت ذراعها،كان بقعة وحم بيضاء تكسو الذراع،صرخت بقوة:
    انها هي ماتت حبيبتي دون ان نفرح بليلة زفاف رائعة وبقصة زواج خالدة.
    ضمها القبر،وعدت أدراجي حافيا باكيا أشعت الرأس.
    كانت صدمتي قوية،ومن عجزي على التحمل،نقلوني الى مستتشفى الأمراض العقلية مكثت هناك لمدة ثلاث سنوات،بعدها أفرج علي،وعدت لممارسة حياتي الطبيعية،لكن الصغار كانوا يتعقبونني في الشوارع مرددين"والهبيل والحمق"
    لم أتحمل هذا الوضع وهجرت مدينتي،قلت في نفسي:" ارض الله واسعة ولن تضيق بي"
    عملت صباغا كنت أصبغ الفيلات الفاخرة كانوا يتعاطفون معي حين عرفوا أنني اتوفرعلى مؤهلات علمية عالية،ولما تعبت من هذه المهنة،عملت سائق طاكسي،ودون ان ادري دس أحدهم كيلو من الحشيش في صندوق السيارة،وفي تفتيشية لرجال الدرك عثروا على الحشيش وحين سألوا الركاب لمن هذا الممنوع صمتوا،وقضيت عقوبة حبسية أخرى تجاوزت السنتين،وبعد خروجي من السجن،عملت مستخدما في فندق،وتعرفت على استاذة كانت تتردد عليه،وبعد فترة تعارف قصيرة تفاهمنا وتزوجت بها،لم نكمل سنة على زواجنا حتى عثر عليها رجال الأمن مقتولة في ضواحي المدينة،كان المتهم الوحيد في هذه النازلة أنا،وشهد الجيران كذبا أنني كنت دائما في خلاف وشجار مع زوجتي،وكانت روايتهم دليل على ثبوت الجريمة علي،وحكم علي بالمؤبد لأقضي ما تبقى من عمري بين قضبان حديدية قاسية وجدران رهيبة،ولارفيق لي في هذه الرحلة غير حقن الانسولين وأقراص الامراض العقلية.

    خا لد عبد اللطيف/ قصبة تادلة.

  2. #2
    السلام عليكم
    قصة ربما كان فيها سردية حكائية لكنها اظهرت جانب الضعف الانساني بقوة..
    كم نحتاح ان يزيننا الايمان كي نكون اقوى
    اعتبر النص رواية صغيرة لعامل الزمن
    تحيتي لك
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3
    هو الانسان ذاك الضعيف المتشتت وربما ايمانه العميق كان دواء لم يفكر به جديا
    مررت وتركت تحيتي

المواضيع المتشابهه

  1. الوحش 👹
    بواسطة أسامه الحموي في المنتدى فرسان التجارب الدعوية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-27-2018, 04:04 AM
  2. ضفدع الوحش
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان العلوم العامة.
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-16-2016, 04:19 AM
  3. سرب الوحش
    بواسطة أ . د . محمد جمال صقر في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-29-2015, 04:07 PM
  4. أنا الوحش
    بواسطة الدكتور حسام الدين خلاصي في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 08-02-2010, 07:37 AM
  5. الوخز بالإبر - (Acupuncture):
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الطب البديل.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-06-2006, 01:14 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •