الجمهورية الأرمنية الفتية 1918 ـ 1920 بقلم آرا سوفاليان
ولدت جمهورية أرمينيا الفتية الحرة المستقلة بعد 600 سنة من العذاب والاستعباد والاضطهاد والمجازر المروعة، واستعاد الأرمن دولتهم ولكن بعد بذل بحر من الدماء.
لقد حدث انهيار تام بعد توقف المعارك فلقد افترش المتعبون الأرض ولم يتمكنوا من استيعاب ما حدث، فئة قليلة من الجنود ومعظمهم جرح أكثر من مرة، وعتاد مستهلك ومتهالك، والجوع والفقر والمرض يعصف بشعب تحول بشبابه وشيبه ونسائه وأطفاله تحول الى محاربين، كان يستفاد من مشوهي الحرب والجرحى في طور الشفاء وقبل الاعاقة وكذلك الأطفال كان يستفاد منهم في استعادة الفوارغ وحشوها من جديد، جموع من البشر بلا بيوت وبلا طعام وأسر متهالكة متهدمة ضاع أغلب أفرادها، ويعتقدون جميعاً انهم كلهم أقرباء، وحّدتهم أخوة الدم، مليون واربعمائة ألف انسان نصفهم لاجئون هربوا من ارمينيا الغربية وهم أشباه أحياء، والآخرون كانوا هناك وبعضهم وصل للمساندة من الاطراف الشرقية وآخرون من أرمن جورجيا ومن ارمن القوقاز، ومثلهم من أرمن ايران، وبعض أرمن روسيا، وبعض العائدين من سوريا والعراق وبعض الهاربين من الجيش الانكليزي والفرنسي الذين قرروا العودة للكفاح ليموتوا من أجل قضيتهم بدلاً من أن يموتوا من أجل قضية الحلفاء، وبعض من تحرروا من معسكرات الإبادة من النساء الأرامل وما بقي من أطفالهم على قيد الحياة، الكل وجدوا انفسهم انهم محصورون في يريفان وضواحيها وحول بحيرة سيفان، وفي مساحة لا تتجاوز الـ 12000 كيلو متر مربع، وتعفنت جراحات الجرحى وعصفت بالبقية المجاعات والأوبئة.
ان تقدم الجيش الأرمني في معارك الاستقلال تلك المعارك التي كان الانسان الارمني يقاتل فيها على مبدأ قاتل أو مقتول وركوب صهوة الموت وتشكيل الكتائب الانتحارية التي روعت الجيش التركي أدت الى هدنة مودروس وتوقفت الحرب وتنفس الاتراك الصعداء، كان همّ تركيا الأوحد تأكيد الهدنة وايقاف الحرب واستنزاف جنودها دون ان تعلم ان الطرف المقابل كان ايضاً في حالة مروعة.
هدنة مودروس وقواعد فك الاشتباك، أدت الى رفع مساحة ارمينيا من 12000 كم الى 56000 كم، واضطر الاتراك الى الانسحاب تنفيذاً للاتفاق، وتنفس الشعب الصداء وبدأت حملات الاغاثة والمساعدات تتدفق على ارمينيا من أرمن المهجر وأهمهم أرمن اميركا.
وفي ايام عرفت الديمقراطية تتالت أربع حكومات بذلت جهود جبارة وحققت نتائج مذهلة.
تشكلت وزارة الدفاع وأوجدت مبدئياً 24000 مقاتل من الشباب اليافعين كما هي الحال في الجيوش الأخرى، وقامت وزارة التربية بجهد مخيف في عهد الوزير نيكول أغاباليان حيث استطاع أغاباليان رفع عدد الطلبة في العام الثاني للجمهورية بزيادة قدرها 272% عن العام الأول وكذلك زاد عدد المدارس بمعدل 244 % أما عدد المدرّسين فلقد زاد الى 190% وتم في خطوة مبكرة جداً قياساً بزمن تأسيس كل جامعات العالم، تم تأسيس جامعة يريفان.
وعانت وزارات المال والاقتصاد والصناعة والتجارة والزراعة مصاعب هائلة في تدبير أمور الدولة لأن الحرب دمرت كل شيء واستنفدت كل شيء، فالشعب كله عاطل عن العمل والكلّ مهجّر، والكلّ بدون مأوى، والمجاعة تحالفت مع الأوبئة لتحصد الناس، ولكن الإرادة والتصميم والحكمة حققت المستحيلات، ففي العام التالي لإعلان الاستقلال وهو العام 1919 وبفضل التخطيط الصحيح والدعم الحكومي، بدأت الورشات بالعمل في الزراعة والتصنيع الزراعي ثم بالثروة الحيوانية، ثم بالصناعات الخفيفة وبدأت عجلة الحياة والانبثاق من جديد بالدوران وبدأ التصدير، وكان عدم وجود خزينة أو موارد للدولة او متخصصين في الجهاز الاداري يجعل من هذا النجاح معجزة غير قابلة للتصديق...ولكن...فلقد حدثت المعجزة.
تم الاستفادة القصوى من تبرعات أرمن المغترب الذين قدموا المال والغذاء والكساء والدواء، وتم تشغيل أكثر من 100000 من اليتيمات ومن الأرامل في المشاغل والمعامل على مختلف أنواعها، وتم تشجيع توظيف رؤوس الأموال مهما كانت صغيرة وخاصة تلك الواردة من الخارج في الصناعة والزراعة، مما خفضّ معدلات البطالة وأوجد فرص عمل جديدة، وكانت الجهود في مجملها جبارة وكانت النتائج طيبة...لأن الجميع نحّى المصلحة الشخصية ووضع مصلحة الأمة نصب عينيه مهما كانت النتائج.
ادرك القائمون على الحكومات الأرمنية المتتالية ان الطريق الوحيد للخلاص وللنهضة هو اتباع النظام الديمقراطي البرلماني الحرّ ضمن قواعد الحرية والعدالة والمساواة، وتعدت المقاييس المتبعة تلك المقاييس المعمول بها في اوروبا وأميركا، فالانتخابات التشريعية اوصلت 3 نساء الى عضوية البرلمان في حين كانت معظم النساء الأوروبيات والاميركيات محرومات من حق الاقتراع والانتخاب، وقام هذا المجلس بعمل تشريعي هائل رغم نقص المتخصصين، وهذا يذكّر بكريكور أوديان المشرّع والعالم الفذ الذي وضع معظم التشريعات والقوانين بالاضافة لدستور السلطنة العثمانية وكوفئ على جهوده المخلصة أعظم مكافأة.
بتاريخ 10 آب 1920 تم التوقيع على معاهدة سيفر بين تركيا والحلفاء وفيها اعترفت تركيا بجمهورية ارمينيا، ووافقت على إحالة مسألة ترسيم الحدود الى تحكيم الرئيس الأميركي وودورد ويلسون وايجاد منفذ بحري لأرمينيا.
في 13 تشرين الثاني 1920 صدر القرار التحكيمي للرئيس الأميركي وبموجبه أصبحت مساحة ارمينيا 160 ألف كيلو متر مربع وبإستعادة الأقضية السبع ( كارس وآرداهان وفان وموش وارزروم وارزنغا وطرابزون) صار لأرمينيا منفذ على البحر الأسود.
وهذا ما انجزته قيادة ارمينيا الحرة خلال عامين ونصف من الاستقلال، والوثائق التاريخية تؤكد هذه الانجازات وتدعمها، اما النهوض الاقتصادي والفكري السريع وما صاحبه من الظروف المؤلمة المرافقة كان ولا يزال يعتبر أمراً عجائبياً، وخلد الشعب الأرمني أسماء العظماء الذين تولجوا مهام القيادة ونقلوا الشعب الارمني وجمهوريته الفتية الى برّ الأمان.
واليوم وبعد 70 سنة من الحكم الشيوعي السوفياتي، وبعد ان بزغ فجر البروسترويكا ومحاولاته الجادة للتصالح مع التاريخ والحقيقة، فلقد هب الشعب الارمني مطالباً إعادة الاعتبار لهؤلاء الذين ضحوا بحياتهم من اجل وطنهم وشعبهم، فذاقوا ما ذاقوه من الاتراك أولاً ومن الشيوعيين ثانياً وماتوا بصمت ولكن بكبرياء.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
الاثنين 27 05 2013
arasouvalian@gmail.com