العلبة الطائرة
قبل عقود، لم تكن العلب والمعلبات منتشرة بهذا الشكل المنتشرة به اليوم. فقد كانت العبوات التي يتناقلها أبناء الريف مكونة من قش (سلال) أو خيش (أكياس) أو جلد (شكوة، زق، قربة، جود) أو من الخشب، أو الفخار (جرة، بقسة، شربة) الخ. ونادرا ما كانت العبوات المنتشرة مصنوعة من المعادن.
وعندما ظهرت العبوات المعدنية، كان من يحصل على واحدة منها يُنظر إليه بعين الحسد، وكان هو يبالغ في استعراضها، فقد كان يحفظ بداخلها القهوة أو السكر أو الشاي، وعندما يأتي إليه بعض الزوار، كان يُعد الشاي أو القهوة أمام زواره، وعندما يحين استخدام ما بداخل تلك العلبة، يرفعها أمامهم بين يديه كما يرفع رئيس لجنة انتخابات صندوق الاقتراع لتتأكد اللجنة من خلوه من أوراق انتخابية مزورة، ثم يستخرج ما يريد من العلبة بعد أن تأكد أن زواره قد حفظوا شكلها جيدا. وتدور في رؤوسهم تساؤلات عن الكيفية التي حصل صاحبهم بها على تلك العلبة، وما هي محتوياتها الأصلية من حلوى قبل أن تحال لوظيفتها الجديدة.
كانت النسوة عندما تلد إحداهن، تأخذ زائراتها بأيديهن بعض البيض أو أفراخ دجاج أو حمام مطهوة، وكانت تلك الهدايا لها فائدة ووظيفة اجتماعية باعتبار أن المرأة (في حالة النفاس) لا تستطيع القيام بأعمال المنزل بشكل طبيعي.
بعد ثورة المعلبات الهائلة، وما رافقها من ثورة مناسبات، فمن تطهر ابنها ومن تُخطب ابنتها ومن تصبغ بيتها ومن تشتري تلفزيونا ملوناً، ومن ترجع من (زعلها) لزوجها، كلها مناسبات أصبحت جديرة بوقوف الصاحبات والقريبات بجانبها.
ونظرا لاختفاء الديوك والدجاج البياض من البيوت، ونظرا لتكاسل النسوة في إعداد الطعام في تلك المناسبات الكثيرة، وجدت النسوة ضالتهن في (علب) الحلوى التي غزت الأسواق.
لم يكن من الضروري، التهام محتويات العلبة، من قبل أفراد الأسرة التي تتلقى مثل تلك الهدايا، فكان بعضهن يحتفظن بتلك العلب لرد زيارات المجاملة للأخريات، وتحرص الواحدة منهن ألا تعيد نفس العلبة الى من أحضرتها.
ذات يوم فقد أحدهم جواز سفره، وبعد معاناة المسائلة الطويلة من الدوائر الأمنية، راجعه أحدهم وكان يقيم في بلدة تبعد أكثر من ثلاثمائة كيلومترا، أنه وجد جوازه في علبة (حلوى) مع بعض الوثائق.. لقد سافر جواز سفره في علبة طائرة من بيت الى بيت ومن مدينة الى أخرى!