قصيدة النثر
وشيء عن الحداثة ..

بهجت عبدالغني الرشيد


دائماً كنت أتهم نفسي بقلة الخبرة والفهم وأنا اقرأ ما يسمى بـ ( قصيدة النثر ) ، حتى وجدت أن الدكتور عبدالعزيز حمودة صاحب الثلاثية النقدية ( المرآة المحدبة ـ المرآة المقعرة ـ الخروج من التيه ) كان يشاركني هذه التهمة لنفسه ، يقول ( وطوال تلك السنوات كنت انحي باللائمة على جهلي وتخلفي عن اللحاق بركب الدراسات الأدبية والنظريات النقدية الحديثة ) (1) .
ومن المؤكد كذلك أن هناك الكثير من يشاركنا هذه الإشكالية في فهم هذا النوع الجديد من الكتابة .. حتى ارتفعت الشكوى من الإبهام الذي يكتنف النص الشعري الحداثي .
إنني أفهم جيداً لماذا أتعثر في فهم القصيدة العربية القديمة مثلاً ، إن فهمها يحتاج بكل بساطة إلى معرفة جيدة باللغة التي كان الشعراء يكتبون بها قصائدهم .. ولكن ما يسمى بـ ( قصيدة النثر ) مكتوبة بلغة سهلة معاصرة ، لكن فهمها وفك طلاسمها وألغازها يبدو شبه مستحيلة ، أقلاً بالنسبة لي ..
وعلى هذا الصعيد يتهم الدكتور عبدالله الغذامي مناوئ الحداثة بأن مشكلتهم تكمن في ( قصور المعرفة .. ويتجلى ذلك بعدم فهمهم للجديد ، وهذا مرض متأصل فيهم ، والإنسان عدو ما يجهل ، حتى أن الواحد منهم لا يجسر على إنشاد قصيدة واحدة ) ، وأن هؤلاء ( لم يفهموا الشعر الحديث فناصبوه العداء ) ، أو أنهم يحاولون ( استجلاب الشهرة عن طريق مناصبة الرواد العداء والطعن عليهم ) (2) .
لكن من الواضح أن إشكالية الفهم قد أصيب بها أصحاب الاختصاص أيضاً ، من أدباءُ وشعراء ونقَّاد وأساتذة متخصِّصون في الأدب والفنون ، يقول الدكتور وليد القصاب : ( ومن الواضح عُوار كثير من هذه الادِّعاءات والمزاعم ـ أي اتهام الجماهير العربية بأنها أمية وبأن ثقافتها سطحية أو تقليدية تراثية ـ ، فغموض غالبية الشعر الحديث غير مقصور على العامة، بل شكا منه الخاصة ، بل خاصة الخاصة في أحيان غير قليلة ، وادِّعاء أن ذوق الجماهير تقليدي لا يُسِيغ الجديد يدحضه ما استُقبِلت به موجات التجديد الأصيلة من حظوة وتقدير ، وغموض الشعر الذي يتحدَّث عنه النقد هو الغموض الإيجابي الأصيل ، ولا علاقة له بهذا الهذيان المحموم الذي يغرق فيه شعر هذه الأيام ) (3) .
ويقول الدكتور عوض القرني : ( لقد عرضت إنتاج بعض هؤلاء الحداثيين على أساتذة الأدب في كلية اللغة العربية ، لعلي أجد عندهم ما لم أجده في كتب اللغة والأدب حين وقفت عاجزة عن السماح لهذا الأدب بالدخول في دائرة الفكر المعقول ، فضلاً عن الأدب الراقي الجميل المؤثر في النفوس ، والمؤجج للعواطف ، فوجدت أولئك الأساتذة أكثر حيرة ) (4) .
ولكن هل يأتي هذا الغموض في أدب الحداثة اتفاقاً ، أو يأتي ضمن قصدية مسبقة لأصحاب هذا الأدب ، حتى يجعلوا من التبسيط جريمة ، كما يقول الدكتور عبدالعزيز حمودة عندما أراد تبسيط الموضوع وهو يشرح البنيوية والتفكيك : ( سوف نقوم بارتكاب جريمة التبسيط ، والتبسيط ، سواءً جاء مخلاً أو غير محل بالمعنى جريمة لا تغتفر في حق البنيوية والتفكيك ) (5) .
ولنستمع إلى الحداثيين أنفسهم وهم يكشفون عن هذا السر وراء الغموض في أدبهم ، ومن ( فمك أدينك ) ..
يقول الذي تولى كبره أدونيس :
حَيْثُ الغُمُوضُ أَنْ تَحْيَا
حَيْثُ الوُضُوحُ أَنْ تَمُوتْ
ويقول محمود درويش متباهيًا بانعدام التواصُل :
طُوبَى لِشَيْءٍ غَامِضٍ
طُوبَى لِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْ
ويقول في موضع آخر :
لَنْ تَفْهَمُونِي دُونَ مُعْجِزَةٍ
لِأَنَّ لُغَاتِكُمْ مَفْهُومَةٌ
إِنَّ الوُضُوحَ جَرِيمَة

ويقول سعيد السريحي : ( إن هذه الأبواب الإبداعية ذات طبيعة تجعل من الغموض ضربة لازب ) (6) .
ويقول : ( ومن هنا أصبح من الصعب علينا أن نتفهم القصيدة الجديدة ، بعد أن تخلت عن أن يكون لها غرض ما ، وأصبحت اللغة فيها لا تشير أو تحيل إلى معنى محدد ، وإنما هي توحي بالمعنى إيحاءً بحيث لا تنتهي القصيدة عند انتهاء الشاعر من كتابتها ، وإنما تظل تنمو في نفس كل قارئ من قرائها ، حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لها من القراء ) (7) .
ويقول : ( إن ظاهرة الغموض التي من شأنها أن تعد السمة الأولى للقصيدة الجديدة ، نتيجة حتمية أفضت إليها سلسلة من التطورات التي طرأت على العلاقة المتوترة بين الشاعر المبدع والقارئ المتلقي ) (8) .
يقول عبدالله نور : ( الشعر يفهم ليس بشعر ) (9) .
يقول أحمد كمال زكي : ( لو أننا وقفنا عند ظاهرة واحدة من ظواهر الشعر الجديد ، وهي الغموض ، وقد أصله سعيد عقل وأدونيس أحد شيوخ المجددين ، لرأينا العجب العجاب ) (10) .
وكالعادة فإن هذا الغموض ناتج عن تقليد أعمى للغرب ، فهم الذين بدؤوا أول مرة .. وقد كان ( جاك لاكان في مقدمة من تعمدوا الغموض إلى درجة تدفع قارئه إلى درجة اليأس .. . وهو يعتبر الغموض فضيلة تؤكد استقلالية اللغة وقدرتها على الإيحاء والإحالة المستمرة من ناحية ، وتحرر العقل من ناحية أخرى . أما الوضوح فهو رذيلة لأنه يرسخ بعض المفاهيم الخاطئة عن اللغة ) (11) .
ويتساءل المرء هنا : لماذا هذا الغموض ؟ وما الهدف منه ؟
يقول البعض إن الغموض ليس وليد اليوم ، وليس خاصية ينفرد بها شعر الحداثة ، بل هو أمر مشترك بين القديم والجديد ، وإن كان أكثر ظهوراً في الجديد .. ومن ثم فإن هذا الغموض ليس حالة سلبية بل هي ايجابية ..
ومن الوهلة الأولى يبدو الكلام منطقياً جداً ، فلغة الأدب وخاصة الشعر هي ( لغة غامضة بطبيعتها ، لأنها تعتمد على الإيماء والرمز ، وعلى التلويح دون التصريح ، فدلالاتها ـ بسبب من هذا ـ مكسوَّة بثوب من الشفافية والستر ، يُوحِي بها ولا يُجَلِّيها ، ويُشِير إليها ولكنه لا يمسِّك بها .. وينبع هذا الغموض في العادة من كون اللغة الأدبية ـ كما هو من المعروف الذي لا يخفى ـ لغةً مجازية تصويرية ، في حين لا تحفل اللغة العادية بالمجاز والتخييل ، فتبدو ـ من غير شك ـ أوضحَ وأظهر ، وأقل حاجة إلى التأمُّل والغوص ، والجهد والكدّ ، من لغة الأدب ) (12) .
لكن أفعلاً هؤلاء يريدون هذا الغموض الطبيعي الذي يكتنف الأدب العربي منذ القدم ، أم أنهم يريدون غموضاً آخراً فيه ( تغميض الكلام ، وطلسمة العبارة ، وإبهام المعنى ، والإغراب في اشتقاق الألفاظ والكلمات على نحوٍ لا تُسِيغه قواعد اللغة العربية ، ولا ذوقها الموسيقي الجميل ، ولا ذوق الثقافة العربية عامَّة ) (13) .
أظن أن الثاني هو ما يريدون ، لا سيما وأن هؤلاء يحملون شعارات مثل ( الفن للفن ـ الأدب للأدب ـ أنا أكتب لنفسي ) ، في تسويغ صارخ لعدمية التواصل بين أدب الحداثة والمتلقي ، وبالتالي نفي القارئ بعيداً وإخراجه من معادلة العمل الفني ، بل واحتقاره ، ولذلك فلا ضير عندئذ في التسابق إلى التغامض الذي في أحسن حالاته آية على فوضى المعنى ، وفي أسوء حالاته آية على اللامعنى .
فالأدب صار عند هؤلاء يحدث نفسه .. كالمجانين .. وصار ثرثرة فارغة .. عبثاً لا طائل من ورائه ..
ولذلك وجب الفصل والتمييز بين الغموض الأصيل الذي هو كما يقول أبو إسحاق الصابئ : ( وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه ) (14) .
أي الغموض الذي هو نقيض المباشرة والسطحية ، وليس نقيض البيان والتواصل ، الغموض الذي يعطيك المعنى ، نعم بعد مماطلة ، ولكنه سيعطيك المعنى على أية حال ، نعم عليك أن تكون غواصاً ماهراً متقناً للإبحار في هذا العالم ، مثل ما يقول الجرجاني : ( فإِنك إِذا قرأتَ ما قاله العلماءُ فيه وجدتَ جُلَّه أو كلَّه رمزاً ووَحْياً وكنايةً وتعريضاً وإيماء إلى الغرض من وجهٍ لا يفطنُ له إلاّ من غَلغل الفكرَ وأدقَّ النظرَ ) (15) .
ولكنك ستعود أخيراً بالمعنى الثمين ، لا أن تغرق في قعر اللامعنى ..
الغموض في تراثنا لا يعني الطلاسم والألغاز والأحاجي ، ولا يعني تعويذة سحرية لا يفكها إلا الساحرات الثلاثة التي تسكن إحداها خلف الجبال السبعة والأخرى خلف البحار السبعة والثالثة خلف الجزر السبعة .
الغموض في تراثنا هو ( عدوُّ التعبير المبتَذَل الرخيص ، والكلام المتداول المطروح الذي لا جهد فيه ، ولا مهارة ، ولا فن ) (16) .
أما غموض هؤلاء فألغاز وطلاسم ، الوضوح عندهم جريمة ، وتحتاج معجزة إلى فهمهم ، وأنّى لنا بالمعجزات وقد ختمت النبوات والرسالات !
لا يعطونك معنى أبداً ، لا يدرك الإنسان ماذا يريد الواحد منهم في قصيدته أو مقطوعته أو نثريته ..
ويقولون على المتلقي أن يكتشف هو المعنى من النص ، عليه أن يحاول ويحاول إلى أن يفهم ..
وهذا صحيح إن كان المعنى مخفياً ومختبئاً خلف النص ، ولكن كيف يمكن اكتشاف معنى لنصٍ لا معنى له أصلاً !
هكذا سرقوا المعنى .. قتلوا المعنى ، وأدخلونا في ( حالة من الفوضى الكاملة ، ( تيهاً ) لا نهائياً يعد بضياع لا ينتهي ) (17) ، وبدل من أن يضيئوا لنا شموعاً من النصوص حتى نرى الدرب من خلالها ، إذا هم يقومون بعملية عكسية تماماً ، يضعونا في زاوية معتمة قاتمة ، وإن أية محاولة للخروج منها تعد تخلفاً ورجعية ..
يقول الحداثيون : أنه إذا كان الواقع مأساوياً وأسوداً فلا بد أن يكون الأدب كذلك غامضاً ..
وان صحّ هذا القول ، فهل من المعقول إذن إن ينجرف الأدب وراء العصر وأمراضه وغموضه وفوضويته ، أو عليه أن يكون عوناً للإنسان ووسيلة لسعادته ، وهل على الأديب أن ينزوي تحت جحيم الحصار والقهر إلى غابات الإبهام والغموض السوداء ، وأن يتقوقع حول نفسه ، أو يكون حلاً للمشكلة دافعاً العجلة نحو صنع حياة أفضل وأجمل ، لا أن يكون هو مشكلة ، أو يكون سبباً في زيادة العمى عمىً والضياع ضياعاً والتيه تيهاً ..
ويبرر الدكتور عبدالله الغذامي هذا النوع من الأدب بقوله : ( وهم لو عقلوا لعرفوا أننا نعيش في عصر غير عادي ، وهذا يتطلب ـ فيما يتطلب ـ شعراً غير عادي ) (18) .
ولكن هل الشعر غير العادي يجب أن يكون على النمط الحداثي ـ بكل فوضويته وغموضه واللامعنى الذي يحمله ـ حتى يكون مسايراً للعصر غير العادي ؟
ألا يمكن أن نكتب أدباً غير عادي في هذا الزمن غير العادي ، خارج سرب الحداثة ؟
وهو القائل : ( إمّا أن يكون المثقف حداثياً أو لا يكون مثقفاً ) .
والغذامي هنا يريد أن يدفعنا إلى تلك الزاوية الحرجة لنوافق على الحداثة التي يريدونها ..

ما الهدف من هذا الغموض ؟
هل يمكن اختصار الجواب بالقول إن الهدف هو صناعة العربي على النموذج الغربي ..
ولكن إذا كانت الحياة في الغرب معقدة وفوضوية ، وتعاني من الخواء الروحي والتخمة المادية ، والنمط الميكانيكي للحركة اليومية ، والتفكك الأسري ، وطغيان الفردية ، والفوضى الفكرية والسلوكية تحت شعار الحرية ، والأمراض النفسية الفتاكة ، إذا كان هذا كله قد أفرز في الغرب آداباً وفنوناً معتلة ، فما معنى أن نختط لحياتنا في الشرق تصوراً شبيهاً لما يجري في هذا الغرب ؟ (19) .

ويختصر الدكتور عبدالعزيز حمودة المشهد بقوله : ( إن الأزمة ليست أزمة مصطلح ، بل أزمة واقعين ثقافيين وحضارتين مختلفتين ) (20) .






ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
المصادر

(1) المرأة المحدبة من البنيوية إلى التفكيك ، عبدالعزيز حمودة ، سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ، 1998 ، ص 14 .
(2) الموقف من الحداثة ، عبدالله محمد الغذامي ، ط2 ، 1991 ، ص39 ـ 40 ، 44 .
(3) الغموض واحتقار القارئ ، وليد القصاب .
موقع الدكتور وليد قصاب - شبكة الألوكة
(4) الحداثة في ميزان الإسلام ، عوض القرني ، ص25 .
(5) المرآة المحدبة ، ص177 .
(6) الحداثة في ميزان الإسلام ، ص27 .
(7) المصدر نفسه ، ص28 .
(8) مجلة الراصد الإسلامية ، العدد الخامس و الثلاثون ـ غرة جمادى الأولى ، 1427 هـ ، ص10 .
(9) الحداثة في ميزان الإسلام ، ص27 .
(10) المصدر نفسه ، ص27 .
(11) الخروج من التيه " دراسة في سلطة النص " ، عبدالعزيز حمودة ، سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ، 1990 ، ص44 ـ 45 .
(12 ) ينظر : الغموض واحتقار القارئ ، وليد القصاب .
موقع الدكتور وليد قصاب - شبكة الألوكة
ا(13) المصدر نفسه .
(14) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ، أبي الفتح ضياء الدين نصرالله بن محمد بن محمد بن عبدالكريم الموصلي ، تحقيق : محمد محيي الدين عبدالحميد ، المكتبة العصرية ـ بيروت ، 1995 ، 2 / 393 .
(15) دلائل الإعجاز ، أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني ، تحقيق : محمد التنجي ، دار الكتاب العربي ـ بيروت ، الطبعة الأولى ، 1995 ، ص330 .
(16) الغموض واحتقار القارئ ، وليد القصاب .
موقع الدكتور وليد قصاب - شبكة الألوكة
(17) الخروج من التيه ، ص45 .
(18) الموقف من الحداثة ، ص14 .
(19) مفهوم الأدب الإسلامي ، نجيب الكيلاني ، من كتاب مدخل إلى الأدب الإسلامي ، الموسوعة الشاملة ـ الإصدار الخامس، ص16 .
(20) المرآة المحدبة ، ص33 .