(محادثات التقارب) وما بعدها..
سوسن البرغوتي
يعكف عباس حالياً لإيهام الشعب الفلسطيني خاصة والعربي عامة، أنه جاد بمفاوضات مع الوسطاء الأمريكان، وكأنهم محايدون ويستطيعون إرغام "الإسرائيليين" على فعل ضاغط ليسوا بوارده، للوصول إلى ما يرضي (طرفي النزاع). إلا أن المفاوضات ليست غير استمرارية وإدمان التنازلات، للخروج بنتائج سلبية ومدمرة لما بقي من الثوابت. مغزى توجه عباس للحضن الأمريكي مباشرة، اختزال الطريق بين "تل أبيب" وواشنطن، كونهما طرفاً واحداً، الذي يسيطر على مسار ما يُسمى بالمفاوضات. إلا أن الهدف من هذه الجولة، ليست إعادة فتح قنوات للتوصل لحل ما كما يوحي عباس، بقدر ما هي إلزام السلطة، بالاعتراف بـ(يهودية دولة إسرائيل)، مما يعني أن القدس عاصمة أبدية لهم، والشروع بتهجير فلسطيني الداخل، على أمل التزام "إسرائيل" بتلك المسماة الدويلة الفلسطينية. تدرك السلطة تماماً أن استعادة كل أراضي الضفة والقطاع والقدس، غير وارد، كما تعلم علم اليقين، أن "إسرائيل" لن تسمح بقنبلة مؤقتة صاحبة سيادة واستقلال بشتى المجالات بجوارها، فضلاً عن غض الطرف عن المستعمرات التي تلتهم الضفة والقدس معاً.
إذاً ما هي أهداف عباس؟
* إطالة عمر السلطة المحلية برئاسته، وعدم تعرضها للانهيار المحتمل ما بعد جولة المفاوضات أو (محادثات التقارب) .
* دعم الدول المانحة والعربية الجانحة للتطبيع الشامل، مقابل طمأنة العرب من حرب متوقعة، تتصاعد وتيرتها بين الفينة والأخرى، ويهبط مؤشر إمكانية حدوثها، كلما بدت المفاوضات بحالة مستقرة ومستمرة.
* استقطاب المعارضة داخل بقايا منظمة انتهت صلاحياتها منذ اتفاقية أوسلو، حين أدت مهمتها بالاعتراف الرسمي بـ"إسرائيل"، وإغرائهم بالمال السياسي كالعادة.
* تضييق الخناق على الشعب بالضفة تحديداً والتحكم بقوته اليومي والرواتب.
* الحصول على موافقة شكلية بوجود سلطة إدارية وليست تنفيذية لأي قرار سياسي أو أمني يخص المناطق التي ستنسحب منها "إسرائيل" ظاهرياً.
* تسويق التقارب مع الفصائل المقاومة، مع الاستمرار بملاحقة عناصرها، أي اعتماد أسلوب المناورة، والمد والجزر.
* توظيف البعد القومي، بغطاء مؤسساتي (المنظمة)، التي ضمها لمكتب الرئاسة، وأن مرجعيته الإجماع العربي الرسمي.
* إلهاء الشعب وإشغاله وتحويل اهتمامه من قضيته الأساسية، إلى توجيه طاقاته بتأسيس مؤسسات مدنية، تحت ذريعة الانفتاح والازدهار المأمول، والمتحكم بها الدول المانحة.
* أن المقاومة "السلمية" الوسيلة الأنجع، على سبيل المثال لا الحصر، حملة المقاطعة ضد منتجات المستعمرات في الضفة، والارتباط والتنسيق مع الاحتلال بكافة المستويات والمجالات، جار على قدم وساق، وبهذا تُعتمد كنهج وبديل عن المقاومة المسلحة.
المفاوضات المحكوم عليها بالفشل بعد مرات ومرات، سوف تعتمد سلطة رام الله سيناريو تصعيد التصريحات ضد "إسرائيل"، والعودة إلى الجولات في البلاد العربية والغربية، بهدف المشاورات، وفتح الحوار المقنن والمشوب بالضغط المالي مع فصائل المنظمة أو المكتب الإداري للرئاسة، لا فرق. لكن هل الضغوط المستمرة، ستؤتي ثمارها؟ خاصة أن "إسرائيل" تعمل بالمقابل باتجاه آخر:
* شطب فلسطين كوحدة جغرافية وتاريخية من القاموس العربي والإسلامي، واعتبار جيوب إدارية هي دويلة فلسطين، وحسب.
* استمرار الحصار حتى إسقاط حكومة حماس، لتوحيد (شطري الوطن) تحت قبضة الاحتلال وأجهزة دايتون.
* تمكين الجبهة الداخلية، واستعطاف العالم، أن "إسرائيل" مهددة من الجوار.
* انتظار ما سيحدث في أفغانستان والعراق، وكيف ستواجه أمريكا وتنهي معركتها مع المقاومة في البلدين، وتوتير الأجواء الدولية، بشأن الملف النووي الإيراني.
إلى هنا يبدو المشهد أنه يسير حسب المتفق عليه، إلا أن ثمة أطرافاً فلسطينية مقاومة وخصوم لعباس نفسه داخل السلطة المحلية، ينتظرون انتهاء المهلة، قد تطول أو تقصر، حسب المخططات "الإسرائيلية" أعلاه، للانقضاض إما على السلطة، أو استقالة عباس، وتسليم زمام الأمور لأحد خصومه المرغوب بهم أمريكياً و"إسرائيلياً"، بإعلان وصول المفاوضات إلى حائط مسدود، أو اللجوء إلى المرونة والمصالحة، لتفويت الفرصة على خصومه، بإقحام حماس ثانية بموضوعة الانتخابات وما شابه. الاحتمال الأخير ضعيف جداً حسب المعطيات، ولم يعد ثمة بارقة للحفاظ على خط الرجعة، فقد استنفذ كل رصيده الشعبي وداخل حركة فتح نفسها، فمنهم من انضم لفياض وآخرون وصلوا إلى أنه حالة ميؤوس منها، فما بالك بالنسبة لمن اقترب نفاذ الصبر لديهم. كما أن علاقاته مع الأردن، وفي خضم الحديث عن "الوطن البديل"، وتصريحاته السابقة، عن أن ستة ملايين لاجئ فلسطيني، لن يعودوا إلى "الدولة" العتيدة، لأنهم يهددون وجود "اسرائيل"، أوجد شرخاً واضحاً، وكذلك مع دول الممانعة، ومصر منشغلة بأمورها الداخلية.. كل المؤشرات تدل على أن عباس لن يصمد طويلاً رغم محاولته انتهاج سياسة المناورة تارة والصدام تارة أخرى.