نعم , هكذا هو الإنسان . بتركيبه المذهل , وطبائعه المتناقضة,حقّاً أمره يدعو للتفكير المعمّق والتأمّل الطويل.إذا ألّم به كرب , أو أصابه مكروه أو أحاطت به شدّة أو مسّه ضرّ في نفسه أو ماله أو عياله,تراه على حالة تستدر العطف والرحمة . وإذا تغير الحال , تراه على حالة أخرى يمشي على الأرض وله وئيد . فتعجب لهذا التناقض الّذي تراه , لكن تعال معي , نفكّر , نتأمّل بعمق لعلّنا نجد تفسيراً لهذا التناقض الغريب . والملاذ الآمن لنا هو القرآن الكريم , الّذي عرّفنا بأنفسنا ,وقرّب لنا الكثير من أحوالنا , لنفهمها فهماً صحيحاً , هذه واحدة من اللطائف القرآنية نعالج من خلال النظر المعمّق فيها هذا الموضوع , مع الآية الثالثة والثلاثين من سورة الرّوم نمضي باحثين عن طلبنا ونسأل الله التوفيق . يقول الله تعالى :( وإذا مسّ النّاس ضرّ دعوا ربّهم منيبين إليه ثمّ إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربّهم يشركون . )كل الناس هكذا بشمول وإطلاق عرضة للبلاء الّذي يستتبع حصوله ضرراً في نفس أو مال أو عيال , المرض تتخلله الآلام والآهات والتي قد يطول أمدها , مع ما يبذل من المال عبر مسيرة طلب الشفاء والتطلّع لعودة الصحة والعافية . الفقر والقحط الذي قد يسببه التواكل والكسل أو المرض أو البطالة أو الجفاف . الهزال الشديد الذي يسببه المرض . والبلاء مفردة من مفردات الخلق وجد بخلق الله ليحقق مراد الله أداء لمهمته الّتي كلّف بها . إنّه سنّة من سنن الله أخضع لها عباده جميعاً , فخاطبهم بهذا الخطاب فقال : ( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين . ) ما ذكره الحق تعالى أمثلة للبلاء الّذي أمضاه سنّة كونية. والبلاء منشأ الضرّ وسببه . لعلّنا نقترب من أسوار الفهم الصحيح لهذا التناقض الّذي نجده واقعاً مشهوداً في بني البشر , عندما ندرك السرّ الكامن وراء مس الضر لهذا الإنسان . بداية لابدّ من التأكيد أن الّذي ساق الضرّ للإنسان , هو الله خالقه ومولاه , فقال : ( وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله ...) إذاً مصدر الضرّ من الله , لا نرتاب في ذلك أبداً . وإذا عرف المصدر ,نكون بذلك قد قطعنا بعض الطريق لفهم ما نحن بصدده . ما المهمّة الّتي كلّف الله بها هذا الجندي من جنوده ؟ مهمة الضرّ , الّذي يمسّ الإنسان , التّقويم والتّهذيب وتمحيص الإيمان . كما أنّه منبّه للإنسان , ليعود إلى جادّة الصواب,ويتوب إلى الله توبة صادقة تمحو كل ذنوبه صغيرها وكبيرها . ورحم تاج الدّين بن عطاء الله السّكندري حيث قال : ( من لم يسق إلى الله بملاطفات الإحسان سيق إليه بسلاسل الامتحان . ) فمن الناس من لم يجذبه لطف الله وإحسانه , وتواتر نعمه إليه , وتسكره النعم الّتي يتقلّب فيها , فيبتعد عن خالقه وتشغله عنه النعم , ويأبى الله ذلك , فيخضعه لألوان من البلاء والضرّ تجذبه إليه بعد طول شرود . فيستقيم سلوكه ويقوى إيمانه . ويدرك السرّ من خضوعه للبلاء ويعلم أنّه رحمة من الله وأي رحمة ! وإزاء الضرّ الّذي يصيب الإنسان الناس فريقان :
الفريق الأول - المؤمنون :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هؤلاء موقفهم من البلاء والضرّ الناجم عنه موقف إيجابي روحه الصبر لله وبالله احتساباً لما أعدّ للصابرين من الأجر والكرامة . ( ...وبشّر الصّابرين.الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . ) فصبر النبي صلى الله عليه وسلم على ما ألّم به من ألم الحمى والصّداع الشديد والوعك , حتى إنه كان يقول ( وا رأساه ) و ( إني أوعك كما يوعك رجلان منكم . ) وكذلك صبر عمران بن حصين رضي الله عنه على ألم المرض ثلاثين عاماً حيث منّ الله عليه بالشّفاء وأكرمه بسلام الملائكة عليه في الطرقات . بل كانوا يؤنسونه في وحدته . وهكذا هم أهل هذا الفريق صابرون محتسبون يلجؤون إلى الله بذلّة وانكسار قلب وتواضع يدعونه أن يمنّ عليهم برفع ما نزل بهم من ضرّ وبلاء . وما أجمل هذا الدّعاء الّذي يحمل أكمل معاني التواضع والانكسار لله ( وأيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الرّاحمين . فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ وآتيناه أهله ومثلهم معهم...) ونهج هؤلاء الاستقامة والثبات بداية ونهاية .
الفريق الثّاني – الكفرة والمشركون :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
هؤلاء لا يعرفون الله خالقهم ومولاهم إلاّ إذا أحاط بهم الكرب ونالهم من الضرّ ما نالهم , عندئذ ترى القلوب منكسرة والعيون دامعة والألسنة تجأر بالدّعاء,والله يحدّثنا عن حالهم فيقول : ( وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلاّ إيّاه فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعرضتم وكان الإنسان كفوراً . ) أهل هذا الفريق متذبذبون , فهم مع أهوائهم ماضين في زمن الرّخاء , ومع ربّهم في أوقات الشدّة والكرب واشتداد الضرّ .وهذا موقف سلبي ينتهي بهؤلاء إلى شرّ العواقب ديناً ودنيا وآخرة.فهم مع الله في الشدة وعاكفين على أوثانهم في الرّخاء والسعة , فهم يغالطون أنفسهم ويتنكّرون للحق ويجانبون الصّواب , لأنهم مشركون وكفرة , لا يرجى منهم أي خير . أمّا عن سرّ التناقض هذا فراجع إلى التنوع في عالم البشر من جهة , وإلى وجود الاستعداد الفطري من جهة أخرى ( إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً . ) فهو لديه الاستعداد لهذا وذاك ولله في خلقه شؤون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ