إحصاء 1962م جرّد الأكراد السوريين من جنسيتهم..
الطفل الكردي يُولد بهموم ومآسٍ تمتد طوال العمر
لافا خالد
مجموعة من الأكرادحينما تم التوقيع على اتفاقية حقوق الطفل ظن الكثيرون حينها أنهم تخلصوا من أزمة؛ إلا أنها ولدت أزمات كثيرة! إذ سارعت دول وبلدان للتوقيع على تلك الاتفاقية التي بدت حينذاك مبادرة طيبة، وتفاءل الكثيرون بمستقبل ينعم بطفولة أكثر أماناً، ولكن كثيرين وجدوا أنفسهم خارج صياغة تلك المبادئ.. كيف، وأين، ولماذا؟
يروي «حسين عمر» معاناته في تسجيل أطفاله في الدوائر الرسمية، وهو من المواطنين الكرد الذين جُرِّدوا من جنسيتهم، بموجب إحصاء عام 1962م، يقول: «ما كنت أدري أنني أمضيت طفولتي، ولي بعض الحق في هذه الحياة، وأن هؤلاء البشر الذين وقعوا على الوثيقة شملوني في بعض بنودهم؛ لكن حينما وجدت نفسي محروماً من أبسط حقوقي، أوشكت أن أعي وهماً كاذباً أنني تسللت من حدود دولة أخرى؛ لذلك لم يمنحوني ورقة تثبت انتمائي لهذا الكون، وهذا البلد.
تجريد من الجنسية
وقد انفرط هذا العقد المستعصي حينما أدركت - وبكل أسف بعد فوات زمن كان ثقيلاً ولا يزال - أن الكثير من بنودهم كانت تستثنيني حينما كنت طفلاً، وها هي اليوم تشمل أطفالي الذين ولدوا دونما ذنب، لأب كردي سوري جُرّدَ من جنسيته بين عشية وضحاها، وكانت النتيجة أطفالاً لا حقوق لهم؛ فلم تثبت أوراقهم حتى هذه اللحظة في الدوائر الرسمية، الأمر الذي يدفعني إلى القول بأن كل تلك المواثيق كانت وما زالت هراءً وخواءً، وتستحق أن يُضْرَبَ بها عُرض الحائط، طالما أن ثمة أطفالاً كثيرين - وهم بالآلاف - ظروفهم لا تشبه ظروف الأطفال الآخرين، وتتمايز عنها كثيراً».
ويتابع حسين: «من قال إن للطفل حقوقاً؟! أليست العدالة التي تشمل الجميع ولا تستثني فرداً واحداً، ولو في مجاهل الإسكيمو، هي عدالة رأسها الظلم، وذيلها الإرهاب؟! منذ أربعة أعوام ما زلت تائهاً في الدوائر الرسمية؛ كي أثبت نسب أطفالي إليَّ، المطلوب مني مع تسجيل أطفالي كلٌ على حدة: إضبارة رسمية، وقرار محكمة، وضبط من عند الشرطة، وشهود يؤكدون نسب الطفل، وموافقة الأمن السياسي في المحافظة، وفي «دمشق» أيضاً، وووو...إلخ.
العملية معي لا تزال مستمرة منذ أربعة أعوام، وحتى هذه اللحظة فإن أطفالي مجهولو النسب، ولا أعلم إلى متى تنتهي المأساة، فقط نسوا أن يطلبوا فحص الحمض النووي لإثبات نسب أطفالي إليّ، ومن ثم: من قال إن للطفل حقوقاً؟! قد يكون ذلك لمن هم أبناء الأسياد والأغنياء والمحسوبين عليهم، أما من هم في الرقاب، وأبناء السبيل مثلي، فلا ورب الكعبة، لا حقوق؛ بل إنها واجبات من عيار ثقيل جداً».
وهذه صورة واحدة، من بين مئات المشاهد اليومية التي تتزايد وتتفاقم معاناتهم، وتستمر مع كل يوم يمضي عليهم، مع العلم أن المواطنين السوريين يسجلون أطفالهم في نصف ساعة أو أقل، حتى حين التسجيل في المدرسة تتمايز ظروف أبناء المجردين من الجنسية عن غيرهم.
الرواية المفقودة
يقال إن أجمل الأطفال ذاك الطفل الذي لم يولد بعد، ولكن ذلك لا ينطبق على الطفل الكردي عامة، والمجرد من الجنسية خاصة، حتى قبل وبعد ولادته؛ الطفل الكردي يأتي للدنيا حاملاً همومه وأوجاعه، ويدفع فاتورة أشياء كثيرة تفوق عمره وزمنه كثيراً.
وتبدأ دوامة مشكلة الطفل الكردي المجرد من الجنسية، أو (المكتوم) بأن المولود لا يسجَّل مباشرة على اسم والديه كالمواطنين، وإنما يجب أن ترفع دعوى إثبات نسب من والدة الطفل بموجب توكيل رسمي لمحامٍ، ووجود «إخراج قيد» للطرفين إضافة إلى «شهادة مختار»، و«شهادة ولادة» للطفل، و«ضبط عند الشرطة»، ومن ثم يتم إقامة الدعوى أمام المحكمة الشرعية، ويتم تحديد موعد للجلسة، ليحضر الأب ومعه الشهود الذين سيحلفون ويشهدون بنسب الأطفال لذاك الرجل.
ولا تقتصر إجراءات المحاكمة على هذا الحد، إنما يلجأ البعض من القضاة إلى إدخال الأولاد البالغين في الدعوى، ليقبلوا بالطفل أخاً أو أختاً لهم! وأي غياب لأحدهم يزيد من مدة حسم هذه الدعوى! ويحدث أحياناً وجود أحدهم خارج المحافظة للدراسة أو العمل، فيضطر إلى المجيء أو يتم إبلاغه بواسطة أحد أفراد أسرته، وإخطاره للمرة الثانية، وهذا ما يؤخِّر حسم الدعوى لوقت أطول!!
أما بعد أن يتم حسم الدعاوى أمام القاضي الشرعي، فيتم أخذ قرار المحكمة ومعه ضبط الشرطة، وإخراج القيد الأصلي للأب والأم، وصورة من هوية الشاهدين على شهادة ولادة الطفل، ويتم إرسالها إلى المديرية؛ ليتم التحقيق من قبل أقسام الأمن السياسي في المناطق، وتتحول لـ«دمشق» أيضاً، وفي طريق الذهاب والعودة يستغرق الأمر زمناً ليس قليلاً.
الحرمان من أبسط الحقوق
وتصل التكاليف لعشرات الآلاف! الأمر الذي يرهق كاهل هذه العائلات الفقيرة أساساً، وهو ما يدفع ذاك الأب إلى أن يقول: «أطفالنا ليسوا أجمل الأطفال؛ لأنهم يعيشون البؤس منذ الولادة! هو طفل بائس تعيس محروم من أبسط حقوقه! مما يدفع الكثير من الآباء للتفكير ألف مرة قبل أن يقدموا على إنجاب طفل لهم؛ فالأمر مرهق من نواح كثيرة!!
فمن الناحية القانونية، غير مسموح للمواطنات السوريات الزواج من «الأجنبي» المصنّف وفقاً لإحصاء عام 1962م، وإلاّ فلا الزواج ولا الأطفال معترف بهم قانوناً، ويبقى في سجلات هؤلاء المواطنات بأنهن «عازبات»، مما ينعكس بالتالي على أطفال ظروفهم ومعيشتهم ستبقى غامضة، كذلك يؤثر على تفاقم نسبة العنوسة عند الفتيات اللواتي لا يحملن الجنسية؛ فالكثيرات منهن لا يتزوجن على خلفية المصاعب الكثيرة التي تلي الزواج، وخاصة فيما يتعلق بإثبات نسب الأطفال.
هناك مادتان في الجزء الأول من اتفاقية حقوق الطفل بشأن الجنسية.
فالمادة (7):
1- تعطي الطفل حق التسجيل بالسجلات بعد ولادته فوراً، ويكون له الحق منذ ولادته في اسم، والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقّي رعايتهما.
2- تكفل الدول الأطراف إعمال هذه الحقوق، وفقاً لقانونها الوطني والتزاماتها بموجب الصكوك الدولية المتصلة بهذا الميدان؛ حيث يُعَدُّ يعتبر الطفل عديم الجنسية في حال عدم القيام بذلك.
والمادة (8):
1- تتعهد الدول الأطراف باحترام حق الطفل في الحفاظ على هويته، بما في ذلك جنسيته، واسمه، وصلاته العائلية، على النحو الذي يقره القانون، وذلك دون تدخل غير شرعي.
2- إذا حُرم أي طفل بطريقة غير شرعية من بعض أو كل عناصر هويته، تقدم الدول الأطراف المساعدة والحماية المناسبتين؛ من أجل الإسراع بإعادة إثبات هويته.
حقوق الطفل الكردي
وفقاً لممثل «سورية» في لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة فإنه «في ظل قانون الجنسية رقم 276 لعام 1969م، يعد الطفل سورياً، إذا ولد في «سورية» أو خارجها لأب سوري، أو ولد في «سورية» لأبوين غير معروفي الجنسية، أو ولد في «سورية» لأبوين أجنبيين لا يمكن للطفل الحصول على جنسيتهما، وفقاً لذلك لا يمكن أن يكون في «سورية» طفل لا يتمتع باسم أو جنسية».
لكن واقعياً الأمر مختلف تماماً، فوفقاً للقوانين الحالية يكتسب الطفل الكردي صفة (المكتوم) في إحدى حالتين:
- إذا كان أحد أو كلا والديه مكتوماً.
- إذا كان الوالد مكتوماً، أو أجنبياً والأم مواطنة «سورية».
هؤلاء الأطفال من الفئتين المذكورتين أعلاه غير مسجلين في السجلات الرسمية ولا يكتسبون أي جنسية، على الرغم من أن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته (24) يؤكد مايلي:
- يسجل كل طفل فور ولادته، ويكون له اسم.
- لكل طفل الحق في أن تكون له جنسية.
كما أن في حرمان الطفل الكردي من جنسيته السورية انتهاكاً للمادة السابعة من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989م التي صادقت عليها «سورية» في يوليو عام 1993م، وتنص هذه المادة على أن: «يسجل الطفل فور ولادته، ويكون له الحق منذ ولادته في اسم، والحق في اكتساب جنسية».
الموضوع بات مؤرقاً فأعداد الأطفال (المكتومين) في «سورية» يزداد باطّراد، مع زيادة النمو السكاني، ويقدر عددهم حالياً وفقا لمصادر كردية بنحو خمسة وعشرين ألف طفل، وفي ظل التغيرات الحاصلة لا بد من إعادة النظر في الكثير من الأمور، ومنها الأمور التي تعقّد إجراءات تسجيل طفل، من حقه أن يتمتع بحق الجنسية، وليس بحق تسجيل اسمه فقط في سجلات ما يعرف بأجانب محافظة «الحسكة».>