ونحن نحتفل بذكرى ميلاد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ننظر ونتدبر في أمره الذي من أجله أنزله الله علينا ، فنجد إنه صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أنه باب الهداية والسبب في العناية ، وإذا آمنا به وصدقناه واتبعناه واتبعنا النور الذي أُنزل معه كنا يوم القيامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين

ولكن الأمر الهام وهو الذي يجعل المرء في دهشة من أمر نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم هو أنه جاء بنظام محكم سديد لصلاح البشرية في كل أطوارها ومراحلها ، صلاح الفرد في نفسه وصلاح الأسرة في المنزل وصلاح البيئات والمجتمعات ، إن كان في النواحي السياسية أو في النواحي الاقتصادية أو في النواحي التشريعية والقانونية أو حتى في الأمور الترويحية ، لم يدع صغيرة ولا كبيرة من أمر البشرية إلا وجاء فيها بالنظام المحكم السَّديد والهدي القرآني الرشيد

وستكشف لنا الأيام صدق هذا الأمر الذي قلناه فإن البشرية منذ بعثته صلى الله عليه وسلم يفكر المفكرون ويشرع المقنِّنون ويضع النظم الفلاسفة والحكماء والقائمون بالأمور ، فيكتشفون عيوباً في النظم البشرية وثغرات في القوانين الوضعية ، فيرجعون إلى النظام السديد والقانون الرشيد فيجدون أنه لا يصلح لجميع العبيد إلا ما جاء به النبي الرشيد صلى الله عليه وسلم

ففي هذه الأيام تتشدَّق دول الغرب بحقوق الإنسان ويجعلون من أنفسهم أنبياء يطالبون البشرية بحقوق الإنسان ولكنهم يطبقونها بميزان له كفَّتان: من واصلهم أعانوه ومن رفض نظامهم قاطعوه وسلَّطوا عليه الحروب التي لا تحتملها دولته ، أما حقوق الإنسان التي جاء بها النبي العدنان صلى الله عليه وسلم وشرعها في خطبة الوداع فما زالت هي النبراس المضئ لكل البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها

وهي التي قال في بعض بنودها صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلاَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلاَّ بِالتَّقْوَى إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}{1}

وقد حرَّم فيها صلى الله عليه وسلم الاعتداء على الأموال والاعتداء على الأعراض والاعتداء على الأجساد وقد قال في ذلك المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام مخاطباً الأمة كلها من بدئها إلى الختام: {كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى? الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: مَالُهُ، وَعِرْضُهُ، وَدَمُهُ}{2}

إلى بقية هذه الوثيقة التي نقلوها وطوروها بحسب لغة العصر وادّعوا أنهم صانعوها ولكن كذبهم ظهر في عدم فلاحهم في تطبيقها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بها ، ولو نظرنا إلى المُثل والأمثلة لتطبيقها في عصره وعصور أصحابه الكرام لعجزنا وعجز الوقت عن استيعاب بعضها فضلاً عنها كلها

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمناهج السدية لإصلاح جميع البشر ففي ميدان الاقتصاد جعل سعي التاجر رسالة إنسانية لنفع العباد والبلاد ، فالتاجر يسعى لجلب تجارته ليس للربح فقط وإنما ليجلب السعادة لمن حوله من أهل مجتمعه فيرضيهم فيرضى الله عنهم ، هدفه الأول هو هذه الرسالة ثم بعد ذلك يجعل لنفسه هامش ربح يبارك الله فيه وإن كان قليلاً فيجعله كثيراً ، وكان لهذا لا يغش ولا يخون ولا يداري عيب بضاعته بل لابد أن يُظْهر عيبها ويُعرَّفها للمشتري كما أمر الحَبيب صلى الله عليه وسلم

هؤلاء التجار الصادقون في منهج النبي المختار بصدقهم وآمانتهم وهديهم في تجارتهم وحسن تعاملاتهم فتحوا بلاداً كإندونيسيا والفلبين والصين وكثير من دول إفريقيا ليس بالكلمة ولا بالعظة ولا بالمسجّلات وإنما بالتعاملات التي ورثوها عن هذا الدين الحنيف الذي جاء به النبي الشريف صلوات الله وسلامه عليه

أما في عصرنا فقد أصبح همَّ التاجر الربح المادي ولذلك نجد الجشع والسُّعار المادي يجعله لا يتورع في غشّ ولا يتهاون في سبيل الحصول على المال بأي وسيلة من الوسائل الدنيوية ولا يلتزم بالأوامر الإلهية فبدَّل الله حالنا ، وذهبت الثقة في التعامل من بيننا ولن ترجع إلا إذا رجعنا إلى هدى قرآننا وتعاليم نبينا صلى الله عليه وسلم

وهكذا الأمر في كل الأمور وأنبه وأقول فى كل الأمور فادرسوا مناهجه السديدة وطرقه الرشيدة في كل أمر من الأمور تجدونها لا تعتمد فقط على الخبرة ولكنها تعتمد أيضاً على صلاحية القدرة ، قدرة الله الذي صنع والذي أبدع والذي يعلم مالا نعلم عن مصالحنا في الدنيا وسعادتنا في الآخرة


{1} رواه أحمد في مسنده عن جابر في خطبة الوداع
{2} خرَّجه أحمد في مسنده وابن شهاب في مسنده عن أبي هريرة