ثرثرة على كرسي الحلاقة
قصة قصيرة
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*
ترك يده مرفوعة للحظات، عندما ألقى السلام على الحاضرين في الصالون، عيناه تتبعان إشارة بتلقي التحية منه، إلى أن رفعت يدي رداً على تحيته، أتبعتها بابتسامة وترحيب بقدوم (أبي عوض) ، أنزل يده من محاذاة رأسه لتستقر مسبلة جانبه، ومن ثم تعبث بجهاز الموبايل.
يدخل للقلب بلا استئذان لبساطته التلقائية في تعاطيه مع الآخرين، إن كان يعرفهم أو لا يعرفهم فيبادر بسؤالهم عن أحوالهم، ويبدأ بالدخول في موضوع ما، أو فيما يجول بخاطره.
قاطعته عندما شَبك بحديث جانبي مع شاب كان يجلس بجانبه: كيف حالك ( أبو عوض )، أهلاً، ما أخبار ( الفل أوبشن ) ؟
- الابتسامة ملأت وجهه الأسمر المتغضن بخطوط امتدت إليه من مرارة الأيام ، فحفرت مساربها بعمق على جبينه وخدّيْه: ( الفل أوبكشن ) تمام مئة في المئة.
العقد السادس من العمر، أعتقد أن ( أبا عوض) تجاوزه بقليل من السنوات، أتصوّر أنها دون الخمس، ولكن المرح و روح الشباب تتزاحم مع عوامل أخرى لتجعله يتقبل كل مزح بروح رياضية، و كما عبّر لي كثيراً عن رأيه، أنه لا شيء في هذه الحياة يستحق منا التعصيب و الزعل، رغم كثرة المعطيات المعيقة للمرح و التفاؤل.
مصطلح ( الفل أوبشن ) وبلفظ أبو عوض ( الفل أوبكشن)، تستهويني نبرة لفظها منه، وهي تقع على سمعي بسهولة، رغم كراهيتي لاستخدام الكلمات الأجنبية وإدخالها في الكلام فيما بيننا، وهذا المصطلح يطلقه ( أبو عوض ) على العديد من الأشياء التي يستخدمها في حياته، مثله في هذا كمثل أبي هايل وهو يطلق كلمة ( المَجْحِي ) على أشياء كثيرة، بحيث أن من لا يعرف طريقته تلك في التعبير و الكلام، يظنها مسبّة وشتيمة، وقفت حائراً بين هاتين الكلمتيْن، وأجدني اقترب تحبباً إلى الكلمة العربية المَجْحِي، وهي تعبير عن إصابة الشيء بلعنة جحا، وأنفر من تلك الكلمة الغريبة عن روحي وقلبي.
انتهيت من الزبون الذي كان بين يديّ على كرسي الحلاقة، التفتُّ ثانية إلى ( أبي عوض ) وقد بقي وحده بعد خروج الشباب، قلت له : " تفضّل يا شيخ ".
- أبو عوض: زاد الله فضلك، يا أبا محمد، والله تعبان من الحياة والعمل، ولا راحة لأمثالنا إلا في القبر.
- صدقت، سيّدي، كأنك نسيت يا رجل، أن لقبي أبو هاشم، واسمي محمد.
- أبو عوض: آه، لا تؤاخذني فالعتب على الذاكرة، يا رب يرزقك بمحمد، كما أتمناه لك.
- سلمك الله.
- أبو عوض: الصحبة بيننا لم تتعمق بالشكل المطلوب، فلو أنك تخدمني ببنت حلال سورية، فأنا أريد الزواج على سنة الله ورسوله، ولا أريد الحرام، و في المدينة كل شيء مباح بالفلوس ومتاح بسهولة، بلا تعب وعناء، ولكنني بأول حياتي ما مشيت درب الزلق، ففي هذا العمر أولى بي أن أصون نفسي، وقد سبق لي أن عرضت الموضوع عليك بقصد مساعدتي، ولكنك ( طنّشت ) ولم تلق بالاً لطلبي، و ( الفل أوبكشن ) تمام، هناك من البنات من يطلبن الستر في ظلِّ زوج تعيش معه، ويحميها من صروف الدهر.
- سامحني، في الحقيقة أن علاقاتي الاجتماعيّة محدودة، ولو تذكر أنني اعتذرتُ منك سابقاً بخصوص هذا الموضوع، وليس بمقدرتي، كرامة لله اعذرني، أتمنى أن أسدي لك خدمة ذات قيمة، لو أنني أستطيع.
- أبو عوض: على كُلٍّ اعملْ جهدك، ولا تقصر، فإن الزواج بثانية موّال يدور في رأسي من زمان.
- إن شاء الله، ولا أظنّ أنني قادر على ذلك.
سادت لحظة صمت في المحل، إلا من صوت طقطقة المقص، وهدير محركات السيارات العابرة للطريق الرئيسي من أمام الصالون. في هذه الأثناء انتهيت من قص الشعر ونفض بقاياه ( بالشيسوار ), و قلت : " نعيماً يا ( أبا عوض )". ثم تناولت علبة ( الجِلْ ) السوداء، وأخذت منها قطعة على رأس اصبعي، رائحتها زاكية، وقرّبتها من أنفه، استنشق بعمق وهزّ رأسه علامة الرضا و السرور.
- أبو عوض، ابتسامة عريضة على اتساع وجهه : " ربي يعطرك من عطر الجنّة "، اسمحْ لي أن أجلب لك مشروب بيبسي، إكراماً لك، أنت تستحق كل خير، وهذا تعبير عن محبتي لك، ومن أجل أن نجلس ونتحادث.
- لك ما تريد، مع خالص شكري.
عمّان
16 \ 5 \ 2015