نشرات الأخبار المتلفزة واللغة العربية

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيكما أنه لا يمكن لمطعم مهما كان طعامه لذيذاً أن يغدو مشهوراً رائجاً ما لم يكن مدخله نظيفاً أنيقاً، وأثاثه فاخراً مرتباً، وعمَّاله أنيقين لطفاء، كذلك فإن مؤسسات الإعلام لا يمكن لها أن تستقطب الآراء وتجني الاهتمام ما لم تسع إلى إخراج أخبارها بصورة جيدة ممتعة...

وكما أن أنواع الطعام يمكن صفُّها بشكل يسرُّ الجائع ويُجوّع الشبعان، كذلك فإن الأخبار الإعلامية يمكن رصفها بأسلوب يمتِّعُ المستمع ويجذب غير المهتم...
وإن المحرك الأكبر الذي يتحكم بنجاح وجودة أي عمل إعلامي مقروء أو مسموع هو اللغة؛ اللغة الجيدة والمبدعة هي التي ترفع من شأن العمل أو تقلل منه.
اللغة هي الوعاء الذي نصبُّ فيه كل ما لدينا من آراء وأخبار وبرامج... وبالتالي فإن الاهتمام بها وجعلها أنيقة يعطي الإعلام دفعاً معنوياً كبيراً، ويقدم للمتلقي متعة وفائدة. وإنه لمن الممتع جداً أن نجد بعض العاملين في الإعلام، ممن تمرسوا بهذه المهنة قد اهتموا بلغتهم واعتنوا بها حتى غدت لغة راقية رائقة، جعلت منهم أعلاماً كباراً في فن الإعلام، فاغتنوا وأغنوا المؤسسات التي يعملون فيها بوابل مدرار من العطاء النافع البناء.
ولا يفوتني أن أَذكُرَ وأُذكِّر بأن معظم النجاحات الإعلامية القديمة التي حصلت في ظل الإمكانيات الضحلة الإذاعية والتلفزيونية، كان تعتمد جُلَّ اعتمادها على اللغة الجزلة... اللغة الفكاهية الترفيهية؛ أو اللغة الأنيقة الزاهية...
فاللغة عنصر أساسي في أي عمل إعلامي، وهي سلاح قوي يسعى إليه الجميع من أجل كسب المعركة الإعلامية.
إنما أسوق هذا الكلام لأقول إنه لما يؤلم بعض الألم إهمالُنا الجزئي أحياناً لبعض شؤون لغتنا العربية في بعض المواقع الإعلامية... صحيح أن إعلامنا المقروء والمسموع يفخر بإنجازاته البديعة على الصعيدين العربي والعالمي، وهو إعلام ناجح راقٍ يزهو بلغته الأنيقة... لكنه- والحق يقال- لا يتبختر بهذه اللغة في كل المجالات... إذ ما زالت نشرات الأخبار تعاني من ثغرات هنا وهناك...
نحن نرتكب خطيئة كبرى بإهمالنا تحقيق مبادئ الجودة اللغوية في هذه النشرات... وينبغي أن نقوم بتعديل الكثير من أساليبنا اللغوية في طرح هذه النشرات... إذ هناك الكثير من الأخبار التي يمكن التحكم بلغتها على نحو أفضل.
لعله ينبغي علينا أحياناً أن نعيد النظر فيما نحن عليه من تباطؤ لغوي بهذا الشأن... وإن أشد ما يدفع المرء إلى النهوض بإمكانياته وتطويرها هو المنافسة الجادة، تلك المنافسة المتمثلة في الاقتباس والتقليد والمماثلة والمطابقة... والتي هي سرٌّ من أسرار النجاح الكبير في كل المجالات وعلى كل الصعد.
لا ضير في أن نتعلم ونقتبس ونقلد ونسابق...
كما أسلفت، نحن نرتكب خطيئة كبرى بإهمالنا العناية باللغة في نشراتنا الإخبارية، إذ ينبغي أن تكونَ لغةُ نشراتِ الأخبار لغةً عربيةً أنيقةً رقيقة، لغةً تلفتُ النظرَ وتجذبُ المستمع، لغةً تخففُ من جفاف الخبر، وتحمل المتلقيَ على التمتعِ بالاستماع الشغوف ؛ حينما يتلقى الخبرَ بحلةٍ قشيبةٍ من التأنق المتميز...
صحيح أن هناك أخباراً متساوية متساوقة ؛ لا يمكن تعديلها لغوياً لأن معانيها تعادل مبانيها، أي أنها تقدم خبراً وحيداً غير مترابط مع نثريات أخبارية أخرى، ولكن تبقى هناك مجالات كثيرة للتحكم بلغة نشرات الأخبار.
إن نظرة عامة إلى محطات الأخبار العالمية المتلفزة والإذاعية تلفت النظر بوضوح إلى أنها تحقق نوعاً من أنواع الجودة الإعلامية الشاملة المتمثلة في أربعة عناصر:
1- اللغة الإعلامية الأنيقة.
2- الديكور الإعلامي اللافت.
3- الموسيقا المرافقة (أحياناً).
4- لهجة المقدِّم الجذابة.
فضلاً عن أن هناك بعض المحطات حينما تريد أن تقدم خبراً سعيداً تقول: اليوم نبدأ نشرتنا الإخبارية بخبر سار...
أي إنها عدا عن كونها تصنع مقدمة عامة للنشرة الإخبارية كلها... تصنع أيضاً إطاراً خاصاً لكل خبر على حدة، فإذا أرادت أن تزف خبراً مفرحاً مثلاً، فإنها تقول:
اليوم نبدأ نشرتنا الإخبارية بخبر سار.
وإذا أرادت أن تُعلم الناس بخبر وفاة فنان عزيز فإنها تقول: عزيزٌ على هذه المحطة أن تنعى إليكم نبأَ وفاة الفنانِ ( )، بدلاً من أن تزف إليكم كعادتها آيةً من وحي فنه، أو درةً من غوص فكره. إذ إنه من غير اللائق أن يتم طرح الخبرين السعيد والحزين ضمن إطار واحد، وفي لغة واحدة... إن في هذا استخفافاً بالجمهور... حتى في النشرات الجوية فإن بعض المحطات تستخدم في أوائل فصل الشتاء لغة زاهية جداً في عرض درجات الحرارة وأحوال الطقس، فتقول:
(لعلَّكم قد جهزتم أنفسكم اليوم للخروج في نزهة صباحية لطيفة، تخفف عنكم متاعب الحياة، وتنقلكم إلى جو من التناغم يضفي على محياكم بعضاً من البهجة... لكنه من الأفضل لكم اليوم أن تجلسوا بجانب المدفأة وتتمتعوا بفاكهة الشتاء لِما تجنيه لنفوسكم من متعة فريدة، إذ إن درجات الحرارة المنخفضة قد لا تأذن لنا اليوم بالنزهة المعتادة...).
لعمري أن لغة كهذه، لو أتيح لها أن تُستخدم في معظم نشراتنا الإخبارية ؛ فإن ذلك سيجعل نفسَ المتلقي أقرب إلى الإقناع ؛ وأقدر على زرع اليقين، والوصول إلى الطمأنينة والسكينة...
وهكذا نجد أن اللغة الراقية المتمكنة هي السلاح الأقوى القادر على التحكم بالعقول والسيطرة على الأرواح.
وغيرُ خافٍ على أحد ؛ أن هذا العمل يتطلب جهوداً فريدة متميزة، وصلاحيات محددة، واطلاعاً مستمراً، حتى يبقى العمل الإعلامي يدور في فلك المواكبة التامة والمنافسة المستمرة... ويسعى نحو الارتقاء المستمر نحو الهدف الأعلى.
وهكذا حتى تغدو نشراتُ أخبارِنا نشراتٍ فريدةً ؛ تصاحبُ بل تسابقُ نشراتِ الأخبارِ العالميةَ.
حقاً... إن إعلامنا يحتاج أحياناً إلى لغة عربية عميقة جزلة، تأخذ بالنفوس وتفتح القلوب.