كما رأينا سابقاً لم يكن لليهود دولة في العالم وإنما كانوا مشتتين في أوروبا وآسيا وأفريقيا بنسب مختلفة واشتهر اليهود في الدول التي كانوا يعيشون بها بالعمل بالتجارة الربوية وكانوا يقومون بمداينة الحكومات والأفراد بالربا مما ضاعف أموالهم عاما بعد عام حتى تصبح الدول أو الأفراد عاجزين عن السداد وكان مجال عملهم هذا يسمح لهم بكثرة التدخل في الشؤون السياسيه للدول التي كانوا يعيشون بها فتولد كره لليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها .
خلال الثمانينيات من القرن التاسع عشر والفترة ما بعدها، تأزمت حالة المجتمعات اليهودية في أوروبا، وخاصة في شرقي أوروبا ( المنطقة التي سكن فيه أغلبية اليهود في ذلك الحين )، حيث تعرضت لاضطهاد مكثف من قبل سلطات الإمبراطورية الروسية خاصة بعد أن قامت الحكومه الروسيه بإعدام أعداد كبيره من اليهود بعد حادثة اغتيال القيصر الروسي الكسندر الثاني عام 1881م ، ولسياسة اللاسامية من قبل حكومات أوروبية أخرى. هذا بالإضافة إلى نمو الإيديولوجية القومية في أوروبا (التي بلغت ذروتها عند "ربيع الشعوب" عام 1848م) .
كل هذا أدى إلى بلورة الصهيونية، وهي إحدى الحركات القومية اليهودية المقامة آنذاك. حددت الحركة الصهيونية منذ نشوئها هدفا لها هو جمع جميع اليهود في بلاد واحدة تصير موقع دولة يهودية، وفضلت "إيرتس يسرائيل" ( أي فلسطين ) كبلاد تقام فيها هذه الدولة اليهودية لاعتبارها وطن اليهود الأزلي.
نشأت الصهيونية في فترة تعزز فيها التأثير الأوروبي في الشرق الأوسط، حيث استولت بريطانيا على مصر ووسعت حدودها وجعلتها جزء من الإمبراطورية البريطانية وكذلك أقامت عدد من الحكومات الأوروبية مندوبيات وقنصليات في فلسطين الخاضعة للسلطة العثمانية. فاعتبرت هذه الحكومات أيضا فلسطين بلاداً متعلقة بالشعب اليهودي، كما يتبين من خطاب نابليون بونابرت في نيسان 1799 عندما حاصر جيشه مدينة عكا، ومن وعد بلفور الصادر من قبل حكومة بريطانيا في عام 1917، وكذلك من مراسلات حسين مكماهون التي قال فيها المندوب البريطاني هنري مكماهون عن منطقة فلسطين أنه "لا يمكن أن يقال أنها عربية محضة" ( السير مكماهون، 24 تشرين الأول 1915)، وكانت الحكومات الأوروبية تشجع بشكل ما الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي بدأت تتكثف منذ ثمانيات القرن التاسع عشر إثر دعوة الحركة الصهيونية، والتي أدت إلى تأسيس تجمعات يهودية جديدة في فلسطين، خاصة في منطقة السهل الساحلي، حول القدس وفي مرج ابن عامر
في هذه الأثناء برز على الجانب اليهودي أكبر المروجين للفكرة الصهيونية , زعيم جديد من النمسا استطاع بدهائه كسب ود اليهود يدعى ثيودور هيرتزل
يعد هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة , وكان قد رسم سابقاً سياسات الاستيطان اليهودي المبرمج فقال في "يومياته" عام 1895عن بعض هذه السياسات ما يلي :
[ يتوجب علينا أن ننتزع الملكية الخاصة لأراضي فلسطين من أيدي ملاكها ، وينبغي أن يكون ذلك في لطف وفي منتهى السرية والتكتم والحذر الشديد ، وعلينا أن نقوم بتهجير السكان المعدمين ـ الفلسطينيين ـ عبر الحدود ، بعد أن نسد أمامهم كل مجال للعمل في بلادنا ـ فلسطين ـ بينما نحاول تأمين استخدامهم وتشغيلهم في بلدان العبور ] .
وقد نشر كتابه ( دولة اليهود ) سنة 1896م والذي ضمنه آراءه في المسألة اليهودية والحلول السياسية التي يرتئيها لها ،فهو يرى أن السبيل الوحيد لحل المسألة اليهودية هو جعلها قضية سياسية تبحث جدياً في الأوساط اليهودية والمحافل الدولية ولإقامة دولة اليهود يدعو هرتزل في كتابه إلى إنشاء مؤسستين :
- الأولى جمعية اليهود : وهي تقوم بالمهام العلمية والسياسية ،وينبغي لها الحصول على اعتراف أكبر عدد من اليهود ومن الدول المستقلة بها كسلطة لإقامة دولة ،وتهدف إلى الحصول على السيادة على البلد الذي ستقام فيه دولة اليهود ،وإنشاء أجهزة ومؤسسات هذه الدولة قبيل إنشائها وإرسال المندوبين لدراسة إمكانيات البلاد والتخطيط لاستغلالها واستيطان اليهود فيها.
- والمؤسسة الثانية :الشركة اليهودية وعدها كشركة مساهمة ،تؤسس فروعاً لها في كل مكان يسمح لها فيه بذلك وتعمل على تصفية أملاك اليهود وحقوقهم المالية في الدول التي يعيشون فيها ،وتقوم الشركة بعد ذلك بنقل اليهود إلى البلاد التي ستقام فيها الدولة اليهودية وتحصل الشركة على رأس مالها من طرح أسهمها للبيع في الأسواق المالية.
لم يحظ كتاب دولة اليهود باهتمام كبير في الأوساط اليهودية أو غيرها عند صدوره ،ولكن رغم ذلك تجمع حول هيرتزل جماعة من المؤمنين بالفكرة الصهيونية من اليهود وغيرهم الأمر الذي جعله يسعى لمقابلة ملوك وزعماء عصره وحملهم على تأييد فكرته لإقامة الدولة اليهودية , ففي عام 1896م حاول ثيودور هيرتزل عن طريق صلاته مع دوق بادن الأكبر الحصول على إذن لمقابلة القيصر الألماني غليوم الثاني - وهو صديق للسلطان عبد الحميد - وشرح فوائد المشروع الصهيوني للقيصر علّه يساعد اليهود في إقناع السلطان ولكن القيصر الألماني تهرب لعلمه بموقف عبد الحميد الرافض . وفي أيار عام 1896م قابل ممثل البابا في فيينا ولكنه لم يجن أي فائدة من مقابلته بعد أن رفض ممثل البابا تأييد فكرته ، وفي منتصف حزيران من عام 1896م سافر هيرتزل إلى اسطنبول في محاولة لمقابلة السلطان ،فلم تتح له الفرصة ، وقد قابل الصدر الأعظم ،وعرض في هذه الزيارة دفع مبلغ عشرين مليون ليرة لتسوية الأوضاع المالية في تركيا ،على أن تصبح فلسطين لليهود ،ولكن عرضه قوبل بالرفض ،وعلم هيرتزل بعد ذلك أن الصدر الأعظم رفع تقريراً إلى السلطان لا يؤيد فيه المشروع ،بل لا يعتبره مشروعاً جدياً فاضطر إلى إجراء محادثات مع بعض الوزراء فقط دون فائدة ،وفي منتصف تموز من العام نفسه قابل اللورد روتشيلد الذي رفض تأييده .
أدرك هيرتزل بعد هذه الجهود التي بذلها عدم إمكانية استمرار نشاطه الفردي ،إذ أن مفاوضاته كفرد مع الأخرين لم تؤد إلى نتائج ملموسة ،مما جعله يفكر في إقامة جمعية اليهود التي تحدث عنها في كتابه وذلك على شكل مؤتمر صهيوني
المؤتمر الصهيوني الأول 1897م :
فكرة عقد مؤتمر صهيوني عام لم تكن من بنات أفكار هيرتزل ، إذ كانت موضوعاً للنقاش قبل هذا الوقت بعدة سنوات ولذلك عقد أكثر من اجتماع تحضيري للتداول في عقد المؤتمر خلال النصف الأول من سنة 1896م ،ولم يتأخر هيرتزل نفسه عن اللحاق بالركب فاتصل بزعماء صهاينة ويهود في بلدان عدة طالبا تأييدهم وأرسل مبعوثين للقيام بالدعاية للفكرة ، وعين أخرين لتنسيق أعمال الإعداد للمؤتمر ، قررهواة صهيون في رومانيا الانضمام لهيرتزل في دعوته لعقد المؤتمر ووافق الهواة في روسيا أيضاً على حضور المؤتمر ، وعارض عقد المؤتمر جزء من هواة صهيون في ألمانيا وكل جمعياتهم في بريطانيا، وقد كان من أسباب معارضة هواة صهيون البريطانية لعقد المؤتمر خوفهم أن تمنع السلطات التركية إقامة المستوطنات اليهودية في فلسطين .
ابتدأ التحضير الجدي لعقد مؤتمر صهيوني مع مطلع سنة 1897م ، وكان مقرراً عقده في ميونيخ ، بيد أن المعارضة الشديدة من قبَل التجمُّع اليهودي هناك والحاخامية في ميونيخ حالت دون ذلك ، إذ أعلنت رابطة رجال الدين اليهود في ألمانيا أن هذا المؤتمر يناقض الدعوة المسيائية ،ولذلك أطلق عليهم هيرتزل حاخامي الاحتجاج .
أدت هذه المعارضة إلى نقل مكان المؤتمر إلى بازل في سويسرا ، وافتُتح المؤتمر يوم الأحد 29 آب 1897م في صالة الاحتفالات التابعة لكازينو بلدية بازل. وأصر هيرتزل أن يرتدي الحاضرون الملابس الرسمية ( معطفاً طويلاً ورباط عنق أبيض ربما لتأكيد انتمائهم للحضارة الغربية الحديثة، وابتعادهم عن الجيتو - المجتمع الممغلق - ) .
،وقد حضره ما بين 200 و250 مندوباً ،يمثلون خمس عشرة دولة ، ( من الصعب تقرير من حضر كمراقب ومن حضر كمندوب ). وكان معظم المندوبين من جمعية أحباء صهيون ونصفهم من شرق أوربا . ولكن حتى الذين أتوا من الغرب كانوا هم أيضاً من أصل أوربي شرقي. أما من ناحية التكوين الطبقي، فقد كان معظم المندوبين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة وكان ربعهم رجال أعمال وصناعة وأعمال مالية. وأما الفئات الثلاث التالية ، فقد كانت من الأدباء والمهنيين والطلبة. كما كان هناك 11 حاخاماً، والباقون من مهن مختلفة. وكان بينهم المتدين وغير المتدين والملحد، كما كانوا يضمون في صفوفهم بعض الاشتراكيين .
وأعد هيرتزل برنامج المؤتمر، وصمم ماكس بودنهايمر الزعيم الصهيوني الألماني شارته، وهي درع أزرق ذو حواف حمراء كُتبت عليه عبارة: "تأسيس الدولة اليهودية هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية"، وفي وسطه أسد يهودا، وحوله نجمة داود واثنتا عشرة نجمة إشارة إلى أسباط إسرائيل. افتتح هيرتزل المؤتمر بخطاب قصير أكد فيه أن الهدف من المؤتمر هو وضع الحجر الأساس للبيت الذي سيسكنه الشعب اليهودي في المستقبل معلناً أن الصهيونية هي عودة إلى اليهودية قبل العودة إلى بلاد اليهود ، ثم تبعه الدكتور نورداو فألقى محاضرة وصف فيها أوضاع اليهود في أكثر من مكان في العالم ،ثم تعاقب على الكلام خطباء عدة , فقدموا تقارير عن أوضاع اليهود في بلدانهم ،وفي اليوم الثاني للمؤتمر قدم نورداو مشروع قرار يحدد أهداف الحركة الصهيونية ، طالباً من المؤتمر اعتماده ،وبعد نقاش غير طويل أقر المؤتمر أهداف الصهيونية المعروفة منذ ذلك الوقت باسم برنامج بازل وهو على النحو التالي :
1- إنشاء دوله يهودية في فلسطين تجمع اليهود من شتاتهم حول العالم.
2- إنشاء المنظمة اليهودية العالمية.
3- تقويه الروح القومية بين اليهود.
4- الاهتمام بنشر وتدريس اللغة العبرية بين جميع يهود العالم.
5- إنشاء معهد عالي للدراسات العبرية في يافا يهتم بدراسة التاريخ العبري وآدابهم العبرانية.
6- وضع شعار العلم الرسمي الرسمي للدولة اليهودية ونشيدها الوطني.
7- أن يدفع كل يهودي يعتنق المبادئ الصهيونية مبلغ يدعم به الحركة الصهيونية.
اتجه هيرتزل إلى ألمانيا طالباً مساعدتها في إقامة دولة يهودية في فلسطين , وبعد محاولات عدة نجح في مقابلة القيصر الألماني وذلك أثناء زيارته لاسطنبول عام 1898م،وفي هذه المقابلة طلب منه التوسط لدى السلطان لحمله على الموافقة على قيام شركة يهودية صاحبة امتياز بتوطين اليهود في فلسطين وجوارها ،وبعد انتهاء زيارة القيصر للسلطان العثماني ذهب هيرتزل إلى القدس والتقى القيصر هناك ،حيث تلقى رداً فاتراً من القيصر الذي أوضح له أن المشكلة بحاجة لمزيد من الوقت والتفكير،الأمر الذي جعله يدرك أن وساطته لدى السلطان لم تجد نفعاً
نتيجة لموقف القيصر الألماني فكر هيرتزل في الاتصال مباشرة بالسلطان عبد الحميد للحصول على موافقة الدولة صاحبة السيادة الفعلية على فلسطين على الهجرة اليهودية إليها .فركز جهده على مقابله السلطان عبدالحميد الذي أصر على رفض المقابلة
ومن أجل ذلك اتصل بنوري باشا المدير العام لوزارة الخارجية التركية ووعده بأن يدفع له مبلغاً من المال كرشوة مقابل مساعدته في مقابلة السلطان ، ومن ناحية أخرى اتصل هيرتزل بأستاذ جامعي يهودي يدعى فامبيري له علاقة شخصية بالسلطان ليسهل له هذه المقابلة وتوسط بحكام الدول الأوربية التي ضغطت بواسطة سفاراتها في استانبول على السلطان كي يقابل هيرتزل وقد أثمرت هذه الجهود ،فدعي هيرتزل في أيار عام 1901م لمقابلة السلطان
شاور السلطان عبدالحميد وزرائه الذين أشاروا عليه أن يقابل هيرتزل , فتقابل السلطان عبدالحميد بثيودور هيرتزل الذي طلب من السلطان بعطف وخبث :
السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين , وأن يكون لهم مكان مستقر لهم في الحج (فسر على أن يكون مستعمرة يهودية).
ولم يتطرق هيرتزل إلى قيام دولة لهم في فلسطين .
وافق السلطان عبدالحميد بشروط وهي :
1- أن لا تكون هجرة اليهود إلى فلسطين والسماح لهم بالهجرة إلى آسيا الصغرى وما بين الرافدين بعد موافقة دولهم على تهجيرهم
2- أن تكون الهجرة بشكل إفردي.
3- أن يتجنسوا بالجنسية العثمانية وأن يخدموا كجنود في الجيش العثماني وأن يطبق عليهم ما يطبق على الرعايا العثمانيين .
فرفض هيرتزل العرض .
غادر هيرتزل إلى الزعماء الأوربيين يحاول كسب تأييدهم حسب مايريد ومالم يعلنه لعبدالحميد ولم ييأس من رد السلطان بل زاد لديه الأمل فبعث إلى السلطان عبدالحميد وفد يضم ثلاثة من أكبر رجال اليهود هم المحامي عمانوئيل مزراحي قره صو ممثل سالونيك في مجلس النواب العثماني وجاك قمحي وهو رجل بنوك تركي هام جداً يعرف بلقب " روتشيلد إستانبول " وليون كوهين وهو شقيق موسيه كوهين من كبار رجالات الدونمة وذهب هؤلاء إلى قصر يلدز , وهو مقر حكومة عبد الحميد في استانبول طالبين المقابلة وجهاً لوجه مع السلطان عبد الحميد شخصياً لعرض المشروع عليه , فرفض السلطان أن يقابل الوفد وطلب من وزيره الخاص تحسين باشا أن يقابلهم , قابل تحسين باشا الوفد وأصرعلى معرفة ما يريدونه لينقله للسلطان حرفياً فعرضوا عليه مايلي :
1- تسديد اليهود لكافه الديون المترتبة على الدولة العثمانية
2- يقوم اليهود ببناء اسطول بحري كهدية للدولة العثمانية
3- تقديم قرض بدون فائده بقيمة 35 مليون ليرة ذهبية لدعم ميزانية الدولة
4- تقديم هدية للسلطان عبدالحميد وهي مبلغ 5 مليون جنيه استرليني (سري)
كل هذه المغريات مقابل أمرين هما:
1-السماح لليهود بالذهاب إلى فلسطين في أي يوم من السنة
2-ان يقوم اليهود ببناء مستعمره قرب القدس يسكن بها أبناء جلدتهم أثناء الحج.
وحينما نقل تحسين باشا ما سمعه إلى السلطان عبد الحميد رفض السلطان هذه المطالب بشكل كلي , وأجابه قائلا : قل لهؤلاء اليهود الوقحين : (( أنصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع ، إنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من هذه الأرض فهي ليست ملكي بل ملك للأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها ففلسطين فتحها عمر بن الخطاب. سوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا، إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً -فضلاً عن 150مليون ليرة إنكليزية ذهباً- فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلن أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي والخلفاء العثمانيين , وتلك الديون لم تشكل يوما عاراً وعبئاً على الدولة لذا لا تحاولوا وليحتفظ اليهود بأموالهم وملايينهم , وإذا ما مزقت يوماً دولة الخلافة فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الدولة الإسلامية ، وهذا أمر لا يكون ، إنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة .. ))
وقد أرسل عبد الحميد بعد ذلك إلى ممدوح باشا ناظر الداخلية مكلفا إياه بالاتصال برؤوف باشا وهو متصرف القدس لكي يقوم فوراً بالتحري عن اليهود في فلسطين ولاسيما في القدس وحولها بحيث لا يبقى منهم إلا الزائرين للحج ولفترة محدودة. في مقدمتهم عمانوئيل مزراحي قره صو
. بعد أن يأس هيرتزل من قيام دولة يهودية في فلسطين أرسل في 3 أيار عام 1902م برسالة للسلطان عبد الحميد يعرض فيها إنشاء جامعة علمية ومدارس زراعية في فلسطين تستوعب الشبان الأتراك الذين يضطرون إلى الدراسة في أوربا حيث يتشبعون هناك بالمبادىء الثورية المناهضة لحكم السلطان , وأن يمولوها وأن يكون أساتذتها من اليهود , رفض السلطان عبدالحميد ذلك لأنه يدرك أن هذا الطلب سوف يكون بداية الدولة اليهودية . في تموز عام 1902م زار هيرتزل اسطنبول للمرة الأخيرة حيث لوح بمشروعه في أفريقيا فجاءه الرد النهائي من السلطان بالرفض .
عندئذٍ لجأ زعماء الصهيونية الى بريطانيا التي كانت تحتل مصر آنذاك و المجاورة لفلسطين , وكانت بريطانيا في نظر اليهود القوة الأولى في العالم و القادرة على تحقيق هدفهم الصهيوني , ومن تركيا توجه هيرتزل إلى بريطانيا حيث اجتمع بمئير روتشيلد وأقنعه بالتوسط لدى الحكومة البريطانية لحملها على منح المنظمة الصهيونية امتيازاً لتوطين اليهود في العريش وشبه جزيرة سيناء وفي قبرص ، وفي تشرين الثاني 1902م دُعي هرتزل لمقابلة وزير المستعمرات البريطاني تشمبرلين ،وقد أجابه تشمبرلين بما يفيد صعوبة استيطان قبرص ، وبخصوص الاستيطان في سيناء والعريش طلب منه أن يتوجه إلى وزارة الخارجية البريطانية لأن هذه المنطقة تابعة لها ، وعلى أثر ذلك قام هرتزل بتقديم مذكرة إلى وزير الخارجية البريطاني ( لاندسون ) شارحاً فيها مشروعه ، ثم قابل الوزير واتفقا على أن ترسل المنظمة الصهيونية مندوباً إلى مصر لمقابلة اللورد كرومر المعتمد البريطاني لمصر ، وفي القاهرة اتفق كرومر مع موفد المنظمة الصهيونية على أن تقوم المنظمة بإرسال بعثة لدراسة طبيعة المنطقة ، وفي أوائل شهر شباط 1903م وصلت البعثة للعريش لدراسة المشروع , كما سافر هيرتزل الى مصر للتفاوض مع الحكومة المصرية و المندوب السامي في مصر فعقدت لجنة انكليزية - مصرية ( أجبر المصريين على ذلك ) وافقت على مطالب هيرتزل وأذنت لهم بريطانيا بذلك بسبب :
1- إصرار بريطانيا على غرس وطن غريب اللغة والدين في العالم العربي لوجود حركات الجهاد الإسلامي ضد بريطانيا فهي تريد إشغالهم باليهود في فلسطين
2- قدم هيرتزل تعهدات خطية أن يكون حارس للمصالح البريطانية في البحر الأحمر والخليج
ثم اختار العريش عاصمة له لأنها ميناء على البحر المتوسط , ولقربها من الحدود الشامية مما يسهل القفز على فلسطين
خططت سيناء ووضعت الخرائط وواجهتهم مشكلة المياه فاقترحوا سحبها من نهر النيل لتغذية المزارع .
عندها اعترضت الدولة العثمانية فهدد السطان عبدالحميد الدول الأوربية بأنهم إن لم يخرجوا اليهود فانه سيقوم باستنفار القوى الإسلامية ضدهم . وخوفاً من الرأي العام الإسلامي وخاصة مسلموا شبه القارة الهندية وأفريقيا .. قررت إرسال جيش لإخراج اليهود من سيناء . خافت بريطانيا بعد هذه المعارضة على مصالحها في مصر فرفضت طلب هيرتزل بحجة أن المياه المسحوبة من النيل ستضر مصر .
كان هيرتزل قد رفض سابقاً عرض اللورد روتشلد باستيطان أوغندا إلا أنه في عام 1903م عرض تشمبرلين على هرتزل أوغندا بديلاً عن قبرص وسيناء والعريش , ورد هرتزل على هذا الاقتراح قائلاً : إن القاعدة الصهيونية يجب أن تكون في فلسطين أو بالقرب منها وبإمكاننا فيما بعد ان نستوطن أوغندا أيضاً ،إذ لدينا جماهير كبيرة من الكائنات البشرية المستعدة للهجرة .
ولما كان هرتزل قد فقد الأمل في تنفيذ مشروع العريش , وفي ضوء ما حدث لليهود في مجزرة كيشينيف في روسيا 6-8 نيسان 1903م ، فقد قبل هذا المشروع وقام بعرضه على المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقد في بازل في 26 آب 1903م ،ولكن المشروع قوبل بالمعارضة واتهم هرتزل بالخيانة ، وارتفعت أصوات في المؤتمر تصرخ قائلة : انتحار ، مجرم ، خيانة . لكن ما لبث أن عرض مشروع إرسال بعثة لاستكشاف أوغندا وحصل على أغلبية الأصوات ، وفي كانون الأول عام 1904م ذهب فريق من الخبراء اليهود إلى شرق أفريقيا ، توفي هيرتزل في تموز 1904م ، ومرت الحركة الصهيونية بوضع حرج للغاية ، إذ برزت مشكلة البحث عن القائد البديل للحركة ، بالإضافة إلى اشتداد الخلاف بين مؤيدي مشروع أوغندا ومعارضيه من جهة أخرى ،وفي أيار عام 1905م صدر تقرير من بعثة استكشاف أوغندا يفيد بأن المنطقة المقترحة لا تصلح للاستيطان الجماعي فقررت اللجنة التنفيذية الصهيونية بالإجماع رفض مشروع أوغندا
وتولى زعامة الحركة الصهيونية بعد هيرتزل الدكتورحاييم وايزمان
- دعت بريطانيا إلى مؤتمر سريٍّ عُقد في لندن عام 1905م، حضرته جميع الدول الاستعمارية، وهي: إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وبلجيكا، وهولندا، كان هدف بريطانيا من عقد المؤتمر هو تشكيل جبهة استعمارية من الدول الأوربية؛ لمواجهة التوسع الاستعماري الألماني، ولتحقيق بعض الأهداف التوسعية في إفريقيا وآسيا.
شكَّل المؤتمر لجنة عليا توالت اجتماعاتها حتى عام 1907م، وأطلق عليها "لجنة كامبل".
اتخذت اللجنة قرارات بتوطيد الاستعمار في المناطق التي تسيطر عليها الدول المشتركة في المؤتمر، واستعرض المؤتمر الأخطار التي قد تتعرض لها الدول الاستعمارية، وهي الدولة الإسلامية.. وقرروا العمل على إسقاطها. ومن أجل منع قيامها مستقبلاً، رأوا أن الخطر القادم إنما يكمن في المنطقة العربية التي هي نقطة التقاء بين الشرق والغرب، وموطن أية صحوة إسلامية قادمة؛ ولمواجهة هذا الخطر قرر المؤتمر زرع الكيان الصهيوني بين إفريقيا العربية وآسيا العربية وليكون حليفاً للاستعمار الغربي. مع العلم أنه في عام 1898م عقد في بازل المؤتمر الصهيوني الثاني برئاسة هيرتزل واتخذ ثلاثة قرارات هي : إسقاط السلطان عبد الحميد - إسقاط الخلافة الإسلامية - منع قيامها مستقبلاً.
خلع السلطان عبد الحميد الثاني
في أواخر عام 1908م أعلن أنور باشا من الجيش الثالث العثماني في سالونيك العصيان على السلطان عبد الحميد وأنضم إليه العديد من الضباط وخصوصاً منتسبي جمعية الإتحاد والترقي ، ولم تبدأ سنة 1909م حتى كان الانقلابيون قد سيطروا على مدينة سالونيك وعلى قطعات الجيش الثالث المتمركزة فيها .
- الحادثة الرجعية: وقعت في إستانبول في31 آذار 1909م وهي مجزرة كبيرة "افتعلها" الاتحاديون ونسبوها لأجهزة عبد الحميد الأمنية . وكانت هي السبب المباشر في خلع السلطان وفيها تمكن الانقلابيون من التمهيد واحتلال ثكنات العاصمة لاسيما بعد انضمام "المقدونيون / السالونيكيون" إليهم .
- بعد السيطرة على العاصمة , بتاريخ 24 نيسان 1909م , تشكل وفد رباعي مؤلف من :
- المحامي عمانوئيل قره صو : وهو يهودي والزعيم الحقيقي لجمعية الإتحاد والترقي .والذي أعطاه البارون اليهودي الألماني "فون هرش" متعهد سكة حديد بغداد عام 1905م , مبلغ أربعمائة ألف ليرة إنكليزية ذهبية من أرباح ذلك الامتياز بهدف صرفها على الإطاحة بعبد الحميد "الذي منحهم هذا الامتياز" . فقام بتحويل هذه الأموال إلى أيوب صبري أحد أعضاء "جمعية الإتحاد والترقي" وتم صرف هذه الأموال على أحداث المجزرة التي عرفت بـ " الحادثة الرجعية "
وقد فاخر عمانوئيل قره صوه بهذه الحادثة ضمناً وبالاتحاديين بشكل ظاهر عندما قال : إن الاتحاديين نفذوا بأربعمائة ألف ليرة انكليزية ما لم ينفذه عبد الحميد بخمسة ملايين .
- آرام بك : وهو أرمني وهو عضو في جمعية الاتحاد والترقي وعضو مجلس المبعوثان العثماني / مجلس النواب .
- طوبطاني أفندي : وهو آرناؤوطي وهو عضو في جمعية الاتحاد والترقي وعضو مجلس المبعوثان .
- حكمت بك : وهو كرجي / جورجي وهو عضو في جمعية الاتحاد والترقي .
وقام هذا الوفد بزيارة رسمية إلى السلطان عبد الحميد في قصره ، وأعلموه بقرار جمعية الإتحاد والترقي خلعه عن العرش ، وتنصيب محمد رشاد الخامس سلطاناً بدلاً منه
وبعد نجاح " الإتحاد والترقي " بالإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م أصدر " الاتحاديون " تشريعاً يقضي ببيع جميع الأراضي السلطانية في الدولة العثمانية بالمزاد العلني
وما لبث طلعت باشا , أحد أبرز أقطاب اللجنة الثلاثية الحاكمة بعد الانقلاب {طلعت وأنور وجمال} أن كشف عن الوجه الحقيقي لجمعية الاتحاد والترقي بالنسبة إلى فلسطين وتوطين اليهود فيها وذلك في مقابلة له مع صحيفة يهودية ألمانية :
{ إن تركيا تؤيد توطين اليهود في فلسطين وان القيود الحالية سترفع وستكون الهجرة دون قيد أو شرط في حدود استيعاب البلد للمجموعة المهاجرة ونظامهم الاقتصادي وثقافتهم الخاصة ضمن الإطار العام للقانون العثماني }
نفي السلطان عبد الحميد الثاني إلى سالونيك ووضع تحت الإقامة الجبرية ومن هناك أرسل سراً إلى شيخه محمود أبو الشامات الشاذلي في دمشق خطاباً وشرح له الأسباب الحقيقية وراء خلعه عن عرش السلطنة العثمانية ونفيه إلى سالونيك. وقال فيه : أن السبب الرئيسي وراء خلعه كان رفضه بيع الأراضي الفلسطينية لليهود عامة، ولليهود المقيمين في فلسطين خاصة. وأن جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تحكم تركيا آنذاك دبرت خديعة واقعة الحادثة الرجعية لتكون مبررا لخلعه عن السلطنة.
وبعد مرور حوالي مئة عام على هذه الرسالة قام عمار أبو الشامات حفيد الشيخ أبو الشامات بتسليم النص الأصلي للرسالة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وأطلع وكالة أنباء جيهان التركية على نسخة منها
ويقول عمار أبو الشامات : أنه قد عرضت عليهم مبالغ ضخمة خلال العقود الماضية من أجل الحصول على هذه الرسالة، ولكنهم رفضوا، وبعد مرور مائة عام قرروا تسليمها إلى رئيس الجمهورية.
لقد قام سلاطين العثمانيين بدور كبير في الحفاظ على فلسطين، ولكن بعضهم لم يقم بما يجب عليه تجاهها، وبعضهم وقع في أخطاء شديدة كانت سبباً في دخول اليهود فلسطين،
وهذه بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض سلاطين العثمانيين :
- في عهد السلطان عبد المجيد امتلك اليهود أول قطعة أرض في المدن الفلسطينية عام 1854م وهي القطعة التي أقيم عليها "حي مونتيفوري".
2- في عهد السلطان عبد العزيز منحت الحكومة اليهود قطعة أرض أقيمت عليها مدرسة "نيتر" الزراعية بالقرب من يافا سنة1870م.
3- أرهقت الدولة الفلاحين الفلسطينيين بالضرائب، فعجزوا عن دفعها، فاستولت الدولة على أراضيهم وباعتها في المزاد العلني سنة1869م فاشتراها أغنياء دمشق وبيروت الذين لا تربطهم بها رابطة فباعها هؤلاء لليهود بعد ذلك.
4- في سنة1868م أهدى السلطانُ عبدُ العزيز "فردريك ويلهم" ولي عهد بروسيا بيمارستان صلاح الدين ( مستشفى صلاح الدين بمصطلح اليوم ) أو جزء منه، وأنشأ عليها الألمان كنيسة المخلص.
5- أهدى السلطان عبد الحميد للإمبراطور "غليوم الثاني" سنة1898م قطعة أرض على جبل صهيون، بنى عليها الألمان "كنيسة نياحة العذراء". وهذا يدل على التفريط في أرض المسلمين وإعطائها لأعدائهم دون مقابل.
6- ازدياد الهجرة اليهودية السرية والعلنية في عهد السلطان عبد الحميد مع عدم اتخاذ إجراءات حاسمة لمنع ذلك خاصة مع انتشار الرشاوى والفساد في موظفي الدولة.
- يتبع -