الخلوة الرمضانية ــ الصيام امتناع عن الطعام... والصوم امتناع عن الكلام... والكلام والطعام كلاهما يشغلان الجسد ويتعبان الروح ويرهقان النفس... وكلما تخلص الجسد من الرواسب؛ ونقي الدم من الشوائب؛ سمت الروح إلى عوالم راقية، وارتقت النفس إلى أماكن عليا...من هنا فإن اجتماع الصيام والصوم معاً يجعلان الجسد يتخفف من تناول الطعام؛ فتتوقف فيه العمليات الفيزيولوجية الداخلية، وترتاح الأعضاء الداخلية من عمليات الهضم والاستقلاب... ويرتاح اللسان من الكلام... ويتغير التفكير، وتتبدل أوامر الدماغ لتتجه اتجاهاً آخر... وتنشط الروح... وتتأهب النفس، فينطلق الإنسان هائماً في الفضاء؛ متحرراً من صفات دنيوية وضيعة؛ ليكتسب صفات سماوية رفيعة...على أن هذه الحالة الروحية الممتعة... لا تحلو ولا تطيب إلا إذا نأى الإنسان عن الآخرين... واختلى بنفسه ليدخل في عالم بديع من التأمل والتفكير... فيما يسمى بالخلوة الرمضانية... تلك الخلوة التي لا يصل إليها المرء الذي يصوم عن الطعام والشراب فقط...يفترض بالصوم الحقيقي أن ينقل المرء إلى عالم آخر من التأمل والوعي الداخلي، ويجعل الصائم يذهل عن اسمه وعن جسمه... ويغوص في بحار عميقة من التأمل الواعي الذي يقود إلى الانسجام الفكري مع الخالق والخلق ويدعو إلى السلام والطمأنينة والأمان...إنها الخلوة التي تعيد تصفية الحسابات مع الذات وتعيد محاسبة الجسد الذي أرهقته السنة الماضية بكل موبوءات الإثم الأثيم... حتى إذا ما فرغ المرء من هذه الخلوة الرمضانية المباركة انطلق في كل يوم مستمرا بعملية الصفاء ليخلق حوله نوعا من الإلفة والوداد... فيتآلف مع أخيه في حماس رمضاني إيجابي... حتى وهكذا يستمر ثلاثين يوماً... حتى لتغدو تلك المحبة عنواناً حياتياً ونهجاً حيوياً ينطلق من خلال وحيه وهداه إلى الأشهر الأخرى فيجعلها كلها رمضان...ألا ليتنا (جميعاً) ننعم بهذه القيم الروحية الرمضانية العليا علّنا نصل إلى منابع الحكمة الإلهية التي تسبغ علينا رداءً من التسامح والتوادد والتراحم يجعلنا نعي المعاني الحقيقية للعبادات الإلهية.وما أمتعها من خلوة تدخل في خلايا الدماغ وتنصهر في بوتقة النفس وتتغلغل في حنايا الجسد فترقى به ليقارب مصاب الروح فيمتنع عن عمل سيء وقول مريب وتصرف شائن، وإلا فأية فائدة نجنيها من صومنا الجسدي إذا ظلت جوارحنا مفطرة، وماذا يغنينا صيام أجسامنا عن طعام وشراب إذا لم تصم نفوسنا...صوم الجسد يسمو بالروح وينهض بالنفس... أما صوم الجسد فقط فهو خدعة كبرى نمارسها على أنفسنا لنقنعها بأننا صائمون...