معركة الينابيع

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
- بحيرة طبريا .. يقطعها نهر الأردن -

***
" أيها الحُرمون .. تكرّم بالجفاء..!
و يا جبل الشيخ .. إن كانت فيك بقايا عزة الشّـام ، فأمسك علينا لعنة الماء ..! "

***
على حصير من قشٍ بالٍ، كان ينام عليه جدي .. لفظت " ريحانة " أنفاسها الأخيرة ..!

ريحانة .. لم تكن سنواتها الستُّ قد أكملت بعدُ نصابها.. لكن إسهالا حادا فعل فيها فعله الخبيث .. مزّق أحشاءها الرقيقة .. و قطّع أمعاءها الرطبة اللينة .. و جعلها لأربعة أيام سريعة تتقيأ من فمها الصغير لعابا غريبا كان في أغلب الأحيان يأتي ممزوجا بدم خاثر .. حتى غدونا في اليوم الخامس و قد جعلت الحمّى وجهها الملائكيّ يجف و يتشقق كأن مسحة خريف قد عبرت عليه .. قبل أن تجتث بعنف روحها بعد الظهيرة .. و تذر بيتنا الطوبي الصغير كله يسبح من الفجيعة .... في العـدم.

أي صبر كان سيعزي فؤاد أمي و قد فرغ من الحياة عن آخره .. و ملأ خواءُ الأسى رئتيها حتى غدت الأنفاس تحتبس عنها كل حين، فنظن من ازرقاق وجهها أنها ستهلك في كل مرة ؟
ريحانة .. كانت الوحيدة التي تحمل في وجهها خطوط أبي .. بملامحه السمراء .. قبل أن يختفي منذ أزيد من ثمان سنوات في سجون الإحتلال.. و يخلف لنا مع الجوع و العوز، قصص الزنزانات المخيفة و سلاسل التعذيب .. يسمعنا حسيسها في كل ليلة أصواتَ السجانين الملثمةِ وجوهُهُم.. و صريرَ المقاصل الهابطةِ إلى أسفل قاطعةً أعناق السجناء .. و أزيز الرشاشات عندما يختلط بصرخات المعدَمين و هم يصفَّفُون تباعا على جدار الموت.

و هكذا الحياة هنا ..فرغت من كل أعراف الجمال، حتى لم يعد لغير الألم نصيب فيها..و إذا أنت راودتك نفسك بذكرى.. فجزاء الآثـم سوء المشاهد.

ماتت ريحانة .. و أكيد سيسأل عنها "حَسُّون" و هو صديقها الوحيد الذي تلعب معه..
و إن كان حسّون فتى مجنونا لا يعقل.. إلا أن ريحانة كانت تحبه كثيرا .. خصوصا عندما يركض مغامرا على حافة الحوض الإسمنتي الكبير المحاذي لحارتنا، الممدود بأنابيب من بحيرة طبريا، فاتحا يديه كالصليب و هو يضحك و يسترسل في حركاته البهلوانية التي توحي بأنه سيلقي بنفسه في قاع الحوض.. فتخفي ريحانة عينيها بأطراف أصابعها، ثم تصرخ عليه بأعلى صوتها:
- احذر أيها المغفل .. إن سقطت هناك .. فلن نشرب الماء ثانية.

هكذا كانت جدتي تقول، لتمنعنا عن المخاطرة باللعب على ضفاف البحيرة مخافة أن يسقط أحدنا هناك فيهلك غرقا. كانت تختلق لنا هذه الكذبة البيضاء، التي كنا نؤمن فعلا أنها الحقيقة الوحيدة : " إن سقطت في الحوض يا شقي، فستأخذ الأنابيب روحك، و تترك جسدك ليتعفن، فيأسن به الماء، و يحرم الناس من الشرب و النبات من الري .. !!".

و هكذا كبرت فينا هيبة الحوض .. ليكبر فينا الخوف من البحيرة.. و تظل طبريا لوحة دهشة يقربنا منها سحر الجمال و يشدنا إلى الخلف منها .. خوف مكنون.

لم أكن أستطيع أن أعوض لحسّون ريحانته.. لكنه لم يكن يملك خيارا آخر غيري.. كان لزاما عليه أن يلعب معي رغم أنه لا يحبني كثيرا و لا يأبه لكلامي،لأنني الولد الوحيد الذي ذهب في تلك الفترة إلى طبريا.. ثم عاد منها على قيد الحياة ..!
كثيرة هي الأشياء التي لم نكن نفهمها عندما تشرق شمس كل يوم على ضفاف البحيرة..!
و كثيرة هي الأسئلة التي يحملها كل واحد فينا إلى فراشه .. عند الغروب، لتكون إدام نومه.
القادمون من " الحـولة " .. كانوا يقولون إن الأرض قد ابتلعت كل الماء الذي كان فيها.. فمتى سينتهي عطش هذا الساكن تحت الأرض ؟ و إلى متى سيظل يحترف ظلم الظلمات، و في الصعيد تسلب الحياة من الحلوق العطشى ؟

العم " بشار ".. كان دائما يصرخ عند الصخرة العالية وقت الغروب، و نحن مختبئون خلف الأشجار نستمع إليه في ذهول و هو يذرف دموعا:
" أيها الحُرمون .. تكرم بالجفاء ..!
و يا جبل الشيخ .. إن كانت فيك بقايا عزة الشام، فأمسك علينا لعنة الماء ..! ".

كانت الدواعي التي تدفع العم بشار إلى الصراخ هكذا على الجبل .. تستفزنا، و تأز فضولنا، فلم نكن نسمع أبدا أن في منطقتنا شيخا قد اشترى جبلا، فصار يسمى عليه.
ثم إنه من المفروض أن يصرخ العم بشار قائلا : يا شيخ الجبل .. لا أن يصرخ : يا جبل الشيخ...

لكننا لم نكن مجبرين على فهم كل شيء، فلم تكن تلك مهمتنا على كل حال.

انقطعنا عن الحوض لأيام .. فليس طبيعيا أن يلقى أحد مصرعه كلما ورد الحوض..

كانت جدتي حريصة على أن أكون بجنب حسّون دائما و إن لم يكن أخي، حتى أفك حزنه، و دهشته لفراق ريحانة..
لكنني كنت أكثر حرصا منها في اكتشاف ما يحدث في حارتنا، و لأنني الأكبر سنا من بين إخوتي كلهم، فقد قررت الرحيل إلى الحولة، حتى أرى بأم عيني ما حدث، و أسائل الأرض عن الماء الذي هاجر منها، حتى لـم يعد في المزارع غير برك مبعثرة، تستفز بمنظرها المقزز قلوب المزارعين.
صحيح أن انقطاع الماء هناك، ضرب من الخيال الذي لم يكن له علاقة بالموت الذي زرع الرعب فينا منذ أيام.. لكن هذا لم يكن أكيدا إلى تلك اللحظة، و قد شهدنا زحف السوء إلينا من كل البقاع.. حتى كان الحوض الذي هو مصدر الماء الوحيد، آخر ينابيع الهلاك.
ثم إنهم يقولون إن هذا الشبح ولد في يوم جاف .. و أن في روحه نفخة من الصيف.. فمن يدري.. ؟ لعله يزحف من تحت الأرض نحونا و ينفث الرمض في حوضنا لنرحل من هناك عن مضض، فيأتي على طبريا بما فيها.

كل شيء هنا يعلن عن شيء .. و هنا – دون الأرض كلها – نـار وقودها ... الماء!

و بين الخيط الأبيض و الأسود، كانت عيوني قد تفتحت على سفرة مسترقة إلى الحولة..
سفرة إلى حقيقة .. أول ما فيها، إعلان مسبق عن مرارة.

كان أكيدا جدا أن جدتي لا يمكن أن تقبل بذلك أبدا.. خصوصا أن حسّون كان في حاجة إلي ليستعيد طفولته التي هَمَّ موت ريحانة أن يئـدها وأدًا .. لكنه كان في حاجة إلي أكثر حتى لا يزداد جنونا.

غير أن الزمن كان يفكر بطريقة مخالفة.. و نحن إذ كنا نغرق في العطش، و ننشد في الحياة عروقا يبللها ماء غير آسن.. كان حسّون قد انتهى من طقوس العتاب التي لقنه إياها العم بشار و هو لا يدري .. فصار يتعبّد بها عند الصخرة العالية كلما غادرها .. ليملي عليه الطفل الدفين كيف تصبح السذاجة حرفا يكتب الحقيقة.

لا يمكن لهذه المأساة التي ضربت في غمرات التراب أن تجد لها منتهىً.. غير أن تفقد طبريا عذريتها كلها..
هكذا خطر ببال حسّون في لحظة أخالها لحظة "عقـل" .. عندما حمل آخر أنفاسه.. ثم ألقى بنفسه في بحيرة طبريا، ليتعفن ماؤهم، كما عفنوا ماءنا.. و تَصدُق فيهم مقولة جدتي..
هي لحظات لم تطل مسافتها .. حين طرق الطارق بابنا، و قد تأبط الخبر.. لنوقن أن أعقل الجنون في أكثر العقل جنونا.. و ننسخ في الذاكرة زمنا، بزمن أكثر إيلاما، ما زال يستفز الروح بنوباته كلما حبحبت فيروز من صندوق المذياع القديم تعيـدني:

" ... وَبَعْدَا الشَّمْس بْتِبْكِي..
عَ البَابْ و مَا تَحْكِـي..
يَحْكِي هَوَى بْـلادِي..
خِذْنِي.. خِذْنِي..خِذْنِي... عَلَى بْلادِي.."



- زهير يونس -
.
.