وطني .. مسارح أقمار وظباء

الباحث عبدالوهاب محمد الجبوري

بعد عمر مضى وآخر المحه في قسمات امـرأة تأخذ شكل بلادي ، تأبطت ذراع الفــرات وأنا تائه في وهم التلاقي .. اسأل النيل والخليل وبردى وكل البراري : من اسقط وطني الغالي ؟ من وضعني في السلاسل وباعني عبدا ، وثمني في الحانات الحمراء كأس وابتسامة من ثنايا عاهرات يتمطين فوق أحزان القمر ؟
منذ الأزل كان المجد مهري ، وأناشيد الله اكبر وبغداد ... تزرع الأقمار في وجه السماء ، كنت أتبختر فارسا بين الرجال وبحد السيف احمي وطني ... واليوم ..... بقايا من بني قحطان تتغنى بانغراس الحراب في حبل الوريد ، وأنا الوحيد ... لم ادر أين أريد .. أين .. إلى قريب أم بعيد ؟ أأشق جوف الأرض أم أسمو بأجنحة تطير ؟ فانا الغريب في كل واد .. أنا المشتت في كل البلاد .. اطوي السهاد على السهاد .. وأنا وحيد .. قيدي شديد ..
اسأل جثث الصديقين التي كانت مخاضا تسهر حتى الفجر ، للمجد تصنع ، وأسطورة شعب يسطع .. فبدا لهم وطني كالنسر العالي .. لكن خونة العصر أسقطوه ، أحاطوه دموع تماسيح وأذيال سحالي ..
كان وطني أسطورة من ذهب أو كان كحمّال الحطب يزرع جراحاته سنابلا تخضرّ في جسدي ، تورق نرجسا
في مقلتي كي أضيء درب أمتي ..
كان وطني يترك قدمه تسير وتجر أخراها معه فيتلظى على حسرات سنبلة ما نزلت عن مشنقة حتى رأى أختها معلقة ، وأنا أقرا مرارتي في عينين سابحتين في بحر من أجزاء قتلى وبقايا ثكلى وأقوامٍ سكارى وأسرابِ عصافير تغتسل من الموت على مرمى جسد من حبيبتي ، حاملا ثقل غصتي وطفل مات قسرا فاعذروني ،
قصتي غرفة نوم مكتظة ، فكيف يتسنى لي أن أتحقق من انساب القتلى وأحفاد القتلى ما زالوا يتجهون إلى القتل من الموصل حتى البصرة ؟ وبينما الأعراب سادرون ، صامتون ، مسكونون باللعنة ، يقيد المغول الأرجل والأعناق ويرجمون من لا يعبد ملتهم سبيا أو غدرا، فإن قلت هذا ظلما أو قسوة لفقوا الألفين عذرا ... وان قلتُ سئمتُ الســجن صاحوا ، قلتَ نكرا .... قاتل الله قوما عبدوا من دون الله آلهة أخرى ، فزعموا التنكيل خيرا ...
باسمه المحفور في قلبي ، وطني ينادي ( يوسف )(*) الجاثم في الجب .... يعقوب بكاء سرمدي(**) .. و آه لا تواسي بالتعابير جراحي و( احمد )(***) الضاحك أمسى في بريد الموت طردا .. أيتها البراري والقمم الحمراء .. كان في العمق نداء ... قاتل منذ آلاف السنين ، وبقايا من بني قحطان أسرى في سجون العصر ... آه من بقايا امة حمقاء تجثو كل يوم لغاز يؤدي ركعته الواهنة على مواقيت شمس صفراء ..
أما أنا فقد سئمت الهوان والعيش فوق جمر من شقاء ، فيا ألوية الله دكّي عروشهم ومزقي على ثرانا كل الأعداء ، فغيثك سيظل طوع بنانك هديرا تضج به الأنواء ..
وأنت يا وطني ، يا دفق الاشذاء .. يا كل الطهر .. ستعود بكل صبابات الأمس تتفجر .. كل عروقي تتفجر موجة بشر .. لتطل على التاريخ من جديد ، خفق بنود وجلال منابر .. وسيوفا راعفة وحنين مزاهر ، وصوامع في بحر مآذن تحيا ، وبيوتا تعمر باسم الله الإنسان شموخ معابر ... كنت حرفا يتألق في القلب دفقا اخضر ، ينساب ، يشب على الآلام ويكبر .. (ما كانت صحراؤك جرداء ولا كان جناها شوكا .. ما كانت أفكا ، ما كانت خيلاء ولا كانت خيلا جامحة من غير عنان ... كانت تنبت كل نهار حرفا .. تنبت كل نهار سيفا .. كانت جنات وعيون ومسارح أقمار وظباء .. كانت مرتعا تكتظ بها الأشواق وأحداقا تهيم بملحمة العشاق .. كانت صحراؤك كل العالم ... كانت تشتد وتنتفض .. كانت تتسامي وتنخفض .. كانت تُرهق .. كانت تُدمى .. كانت تَعرق .. تتألم كانت تتمزق .. كانت تتزلزل تتشقق ، كي يولد في الأرض الإنسان ) ..
كل شيء يزول يا وطني ويبقى الغراب ينوح في الفتن .. كل شيء عداك يمضي .. ويمضي ..
فقد شاءت الأقدار أن تبقى وحيدا ، تتلظّى على الرمال ، كسيف بدأ يتهجى من جديد .. خارطة الأسماء والجهات الأربعة .. فاتلُ ما تيســــــــر من كلـــمات ربك ولا تتـــــبع من مات قلبه ( واتبع هواه وكان أمره فرطا ) (****):
سلاما يا فيض الري
فيض الحب ، وفيض الخير ..
سلاما يا أغلى أيام العمر ، وكل العمر ..
يا كل العمر ..

****
(*) يوسف هو خال محمد ولدي ما زال معقلا في سجون الاحتلال وهو رمز لكل المعتقلين العراقيين والفلسطينيين وكل المجاهدين في سجون الاحتلال وأذنابهم ..
(**) هذا التعبير رمزي لكل أم عربية ماتت حسرة على ولدها الذي لم تره منذ اعتقاله ، وهنا الحديث يدور عن والدة أم محمد التي توفيت قبل أكثر من شهر حسرة على ولدها المعتقل ..
(***) احمد هو ابن أختي الذي استشهد وهو يجاهد في سبيل الله والوطن وهو واحد من عشرة شهداء لشقيقات ثلاث غادرونا مع إخوتهم شهداء الوطن والأمة في كل زمان ومكان .. رحمهم الله
(****) الآية 28 – سورة الكهف

******
العراق في 1/ 2 / 2010