لماذا لم يكن فيليكس عربياً؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

في مساء الرابع عشر من أكتوبر من عام 2012 حبس مئات الملايين عبر العالم أنفاسهم وهم يتابعون عبر شاشات الفضائيات والانترنت المغامر النمساوي فيليكس بومغارتنر وهو يقدم على خطوة جريئة غير مسبوقة في تاريخ البشرية تمثلت في القفز من حافة الفضاء من على بعد تسعة وثلاثين كم من سطح الأرض.

تكللت قفزة فيليكس بالنجاح، واستطاع تحطيم أرقام قياسية إذ سجل نفسه كأول إنسان يتمكن من اختراق جدار الصوت بجسده دون محركات، كما حطم أعلى رقم قياسي في السقوط الحر..

كان فيليكس مجنوناً في نظر الملايين الذين يتابعونه كما كان عباس بن فرناس مجنوناً يوماً ما، لكنه بعد دقائق فقط تحول إلى بطل سجل اسمه في التاريخ وقدم للعلماء هديةً تمكنهم من تطوير أبحاث علوم الطيران، ليضيف بذلك لبنةً صغيرةً في طريق طويل من البحث العلمي المتراكم.

السؤال الأهم أمام مغامرة فيليكس:

ما الذي يدفع شخصاً إلى الإقدام على خطوة كهذه تحفها المخاطر من كل صوب، بل ما الذي يخلق هذا الاهتمام أصلاً في نفس هذا المغامر، وكيف خطر على باله أن يفكر في هذا الاتجاه قبل أن يأتيه الإلهام؟؟

فيليكس لم يكن صناعة نفسه، فهو شخص عادي ليس عالماً، كل ما أوتيه هو الرغبة في المغامرة والبحث عن الجديد، وهو ما خلقته فيه البيئة التي نشأ فيها..

المغامرة تتطلب نفسيةً تحب التجديد وتتطلع إلى الخروج من أسر الروتين، وكسر المألوف، فتظل الرغبة في الخروج عن المألوف ملحةً على صاحبها حتى يتمكن فعلاً من ترجمتها إلى سبق يضيف جديداً إلى حياته وتستفيد منه البشرية.

الثقافة هي التي ترتب أولويات المرء، ففي ثقافة ترحب بالجديد لا بد أن يجِدَّ المرء في البحث عن هذا الجديد حتى يعثر عليه، أما في ثقافة تحرم التساؤل، وتُكفر من يفكر، وتعطي إجابات جاهزةً تفسر كل غوامض الكون فيشعر المرء في كنف هذه الثقافة بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن عليه أن يعيش حياته كما يعيشها الآخرون..

كل إنسان في فطرته ميل للبحث والتساؤل والخروج عن الأنماط التقليدية، لكن البيئة هي التي تقتل هذه الفطرة، فالأطفال قبل أن تلوثهم ثقافة المجتمع يتميزون بالسؤال عن كل شيء، لكن الكبار يسخرون من أسئلة الأطفال ويزجرونهم عن التمادي فيها فيطفئون هذه الروح مبكراً مما ينشئ طفلاً يخاف من التساؤل والخروج عن الأنماط الجاهزة حتى لا يتهمه المجتمع بالتفلسف أو الجنون..

إن ما يصنع المغامرة هو الشعور بأنه لا يزال هناك ما يمكن إضافته للبشرية، وهذا ما قاله فيليكس نصاً: "أذهب لأبين أنه ما زال هناك تحديات ينبغي التغلب عليها، ويجب أن لا نغفل عن محاولة تحقيقها".

أما في مجتمعاتنا العربية فإن أصدق وصف أستحضره في هذا السياق هو ما ذكره يوسف زيدان في رواية ظل الأفعى إذ يقول في وصف بلادنا:

إنها بلاد الإجابات، الإجابات المعلبة التي اختزنت منذ مئات السنين، الإجابات الجاهزة لكل شيء، وعن كل شيء، فلا يبقى للناس إلا الإيمان بالإجابة، والكفر بالسؤال. الإجابة عندهم إيمان، والسؤال من عمل الشيطان! ثم تسود من بعد ذلك الأوهام، وتسود الأيام، وتتبدد الجرأة اللازمة والملازمة لروح السؤال..

هكذا إذاً يقتل الإبداع بتحريم السؤال وإطفاء روح الجرأة والمغامرة..

لكن فريقاً من بني قومي لا يكتفون بألا يساهموا في مسيرة التقدم البشري فيصمتوا ويراجعوا أنفسهم، بل إنهم لعقدة النقص التي تسكن نفوسهم يسارعون إلى التقليل من شأن أي إنجاز بشري، فعقبوا على هذه المغامرة بالقول- ويا لبؤس ما قالوا-: إن الرسول محمداً سبقه بألف وأربعمائة سنة حين صعد إلى سدرة المنتهى ليلة المعراج!!

هكذا إذاً نزج باسم النبي الكريم والقرآن العظيم لتبرير فشلنا وإخفاقنا وعجزنا الحضاري فنسيء إلى نبينا وديننا بدل أن نرفع ذكره في العالمين..

إن هذا المنطق الساذج يكشف مدى غيبوبتنا الحضارية ويظهرنا بمظهر المعادي لأي تقدم بشري، فنحن بهذا المنطق نقلل من شأن أي إنجاز يصل إليه البشر بحجة أننا سبقناكم إليه، وإذا كنا قد سبقناهم بالفعل إلى هذه الإنجازات فلماذا لا يظهر أثرها في حياتنا، إن العبرة ليست بنرجسية فارغة، بل هي فيما يلمسه البشر من نتائج عملية عليها بصمتنا..

الخلط بين العلم والغيب هو خلط ساذج، فالقرآن ليس كتاباً علمياً ، والمعجزات التي حدثت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها اكتشاف قوانين فيزيائية، أما هذه التجارب والمغامرات فهي التي تنتمي لعالم الشهادة ويمكن قياسها والاستفادة منها والبناء على نتائجها..

إن حقيقة رسالة الدين هي البحث والتفكر وليس الزهد في الإنجازات العلمية والحضارية، و القرآن يستفزنا لاختراق المجال الجوي والسياحة في الفضاء:

"يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان"

من الجدير بنا بدل أن نقلل من إنجازات الآخرين، أو أن نبرر فشلنا الفاضح هو أن تشتعل الغيرة في قلوبنا فنراجع أنفسنا ونخلق بيئةً تشجع على التفكر والتساؤل والمغامرة حتى نضيف للبشرية شيئاً جديداً..

فيديو قفزة فيليكس: