الدكتور جيلالي بوبكر


التطرف الإيديولوجي اللّيبرالي من أسس العولمة


* إنّ هيمنة العولمة بتعميم مخططات دول المركز بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا جعلت هذه المخططات لا تكتفي باختراق السيادة والاقتصاد الوطني والقطاع العام والأراضي والجيوش في دول الأطراف، والكل يعلم ما لهذا الاختراق من تداعيات على استقلال الدول وكرامة شعوبها، والشعوب لا تخلو من القوى الوطنية الحيّة، التي تبقى متمسكة بحريتها وبكرامتها وبأرضها، فتقف في وجه كل من يعاديها، تقاومه بكل الأساليب والوسائل المتاحة، إلى أن تحقق أهدافها التي لا تضيع، فما ضاع حق ومن ورائه طالب، هذا الذي تؤكده التجارب العديدة التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل وأثبته الواقع المعيش، لكن القوى المهيمنة على العالم باسم العولمة وغيرها لا تعي هذه الحقائق وتتجاهلها تماما، على الرغم من التجارب الحيّة التي عرفتها وعاشتها هذه القوى نفسها مع العديد من القوى الوطنية التحررية، التي كانت في قمّة الحرية والكرامة والعزة والسيادة والاستقلال والمجد، كان هذا في الجزائر مع الاستعمار الفرنسي، وفي الفيتنام مع الجيش الأمريكي وفي أفغانستان مع القوات العسكرية الروسية، وكان ولا يزال مع الحركة الصهيونية وإسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوربي في فلسطين وفي لبنان وفي سوريا وفي غيرها، فالاختراق متواصل ومستمر ما دامت القوة المادية والعسكرية ومن وراء ذلك القوة العلمية والتكنولوجية في يد دول المركز، تحتكرها لنفسها وتقطع دابر أيّة محاولة أو أيّة تجربة هنا أوهناك فيها جدّية للحصول على أسباب القوّة والغلبة، هذا الاختراق اتجه ولازال يتجه بقوة وبسرعة نحو الحياة الفكرية والثقافية والعقائدية للشعوب، خاصة الشعوب التاريخية التراثية الدينية، مثل شعوب العالم العربي والإسلامي وشعوب شبه القارة الهندية وغيرها، يعيش التراث ويحيا المعتقد الديني في وجدانها وفي ممارساتها اليومية، تراثها هو هويتها وذاتها، وهو ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لا تقبل عنه أي بديل مهما كان وكانت نتائجه، فالشعوب الإسلامية هي إسلامية بالإسلام وإذا تخلّت عن الإسلام لصالح معتقد ديني آخر أو أيّة إيديولوجية أخرى فذلك فناء وموت لها.


* إنّ إيديولوجية التطرف الليبرالي في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية تتجاهل حقيقة الدولة الوطنية ذات الهوية التاريخية الدينية، لأن الشعب فيها يدين بديانة واحدة أو أكثر، وأنّ الدين مقوّم من مقومات الدولة، على عكس ما هو سائد في الدولة اللائكية التي تفصل الدين والأخلاق عن الدولة والسياسة، فهي إيديولوجية تتجاهل كل ذلك وتنادي بالإصلاح الديني والتربوي قبل الإصلاح السياسي والاقتصادي، وبالتنوير وبغيرها من مبادئ الحداثة والليبرالية، وتضع الإسلام في مرتبة واحدة مع النصرانية وأوضاع الكنيسة التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى واستمرت إلى مرحلة ما قبل النهضة الأوربية، حيث رحلت الكنيسة من الحكم بفعل الإصلاح الديني والتربوي والسياسي، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتحقق في المجتمعات المعاصرة التاريخية التراثية الدينية المتخلفة، لتنهض وتواكب الركب الحضاري الذي انطلق بعد ثورته في وجه كل قديم فكري وفلسفي وعلمي وديني وغيره، ولا يتسنى لأي جماعة بشرية تعيش على الماضي في الحاضر أن تتحرر من الانحطاط ما لم تأخذ بالسبيل الذي انتهجته أوربا قبيل النهضة، والانقلاب على التراث الثقافي والديني الذي كان ولا يزال العائق الأكبر أمام النهضة والتطور والازدهار، لكن هذا المنظور يعي جيدا أنّ الظروف التي عرفتها أوربا قبيل نهضتها الحديثة تختلف تماما عن ظروف العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وهو على دراية كافية بأنّ الإسلام ليس هو النصرانية، لكن بدوافع سياسية واقتصادية وإيديولوجية وعقائدية لا حدّ لها يتجه المركز لاختراق غيره عقائديا باسم العولمة وغيرها، وساعده على ذلك انهيار المنظومة الاشتراكية والشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي وبقائه في القطب الواحد، كما ساعده كذلك تطور وسائل الإعلام والاتصال، فأصبح حريصا على صهر الشعوب كاملة في بوتقة واحدة فكرية وثقافية وأخلاقية وعقائدية، لكي لا تكون للشعوب أصولها وثوابتها الثقافية والدينية، وهو ما ترفضه الثقافات المتأصلة والمتجذرة في التاريخ وفي الماضي في أهلها مثل الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات الأخرى.


* لقد تمّ استخدام كل الوسائل المتاحة للنيل من الإسلام والمسلمين بما في ذلك القوّة العسكرية، وربط الإسلام بالتخلف الفكري وبالانحطاط الاجتماعي وبالتدهور الاقتصادي وبالاضطراب السياسي، وبالجهل وبالإرهاب وبغيره من المشكلات المستعصية، والغرض من ذلك هو تزييف الفكر الديني الإسلامي القديم والحديث والمعاصر وتزييف خطابه، والطعن بصفة مباشرة وغير مباشرة في أصول الإسلام وفي رموزه ومقوماته، ولم تبق هذه المهمة حكرا على الأفراد كما كان سائدا من قبل، بل أصبحت تقوم بها مؤسسات وحكومات في بلدان المركز والأطراف معا، وتأثرت بذلك المناهج التربوية والتعليمية المُعوّل عليها كثيرا في تغيير الثقافة والمعتقدات الدينية والخطاب الديني، فتأسست المناهج التربوية الرسمية على قيّم العولمة وتهمش الدين والأخذ من الدين ما يلتقي مع الديانات والثقافات الأخرى في تحديد المفاهيم والنظرة إلى الحياة عامة، في تحديد مفهوم السلم والحرية والعدالة والمساواة والعمل وغيره وهذا حسب ما تروج له العولمة بعيدا كليا عن الأبعاد الإسلامية لتلك المفاهيم ولنظرة المسلم إلى الوجود والحياة، وفي هذا الجو سيطر الليبراليون والاشتراكيون على قطاع الإعلام الرسمي وضيّقوا الأمر على التيارات الإسلامية وعلى الخطاب الديني واعتمدوا المادة الإعلامية الفاسدة في الصورة والمحتوى، سواء في الفكر والأخلاق والممارسة، إلى جانب استغلال وسائل الإعلام لتحريف الخطاب الديني تمّ استغلال الهيئات والمنظمات الأممية السياسية والثقافية والاقتصادية للغرض ذاته، مثل ما تفعله هيئة الأمم المتحدة من تنظيم مؤتمرات وعقد ملتقيات الهدف منها التشويش على الإسلام وعلى التيارات الإسلامية من خلال الدعوة إلى تجديد تزييف الخطاب الإسلامي، وذلك كلّما تبيّن أنّ شوكة الإسلام تعلو وقوّة المسلمين تتسع، مؤتمرات وندوات تنعقد باسم الأمم المتحدة وتكريسا للعولمة التي تسعى إلى تغيير الثقافات والمعتقدات، فمرة مؤتمر للسكان ومرة للمرأة ومرة لحوار الأديان والثقافات ومرة للتسامح الفكري والديني، وفي كل مرة يأتي مؤتمر أو ندوة الهدف من ورائها ضرب الوعي الديني الإسلامي أو غيره الذي من شأنه يصنع الوحدة الثقافية والعقائدية والاجتماعية التي تشكل خطرا على النظام العالمي وعلى العولمة.


* لما استنفدت القوى المهيمنة أساليبها ووسائلها السلمية في ضرب الإسلام من خلال تحريف وتزييف الخطاب الديني الإسلامي والتركيز عليه وحده من دون الخطابات الدينية الأخرى لجأت إلى استعمال الوسائل القمعية وخيار القوة العسكرية، ويقول أحد الباحثين المهتمين بالموضوع محددا الأسباب التي دعت إلى استعمال القوة: "طبيعة الدين الإسلامي الذي يستحيل عمليا تغييره أو تبديله، وذلك للترابط الشديد بين أحكامه وتشريعاته وأدلته في سائر الجوانب، لذلك فإنّ محاولة التغيير في جانب يكشفه جانب آخر، ولذلك فإنّ التغيير لا يمكن حدوثه عمليا إلاّ إذا حدث في جميع الجوانب: في العقيدة والشريعة، في التفسير والحديث، في التاريخ والتراث، في الأوضاع الاجتماعية والشرائع العملية التي تمثل نوعا من الإجماع العملي بين المسلمين، وهذا الأمر ليس بالهيّن ولا اليسير، فهناك عشرات الآلاف من الكتب المؤلفة في العقيدة والتفسير والتاريخ والسير والغزوات وغير ذلك، وكل ذلك مكتوب بلغات متعددة، فكيف يمكنهم ذلك؟ إنّه أمر فوق طاقتهم رغم تقدمهم وإمكاناتهم وإرادتهم، وهذا يمثل نوعا من التحدي لهم، وصدق ربي العظيم، إذ يقول:﴿إنّ نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون﴾.[1] وجود فئة من الناس قيّضهم الله تعالى لحفظ دينه ونصرته، أخذت على عاتقها رصد محاولات التغيير والتزييف وكشفها والإعلان عنها، رغم كل الصعوبات التي تواجههم، وهذه الفئة هي جزء من الطائفة المنصورة التي امتدحها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".[2] حالة الضعف الشديد التي تخيّم على المنطقة العربية والإسلامية، حيث دوله مفككة، وأغلب زعاماته هزيلة جوفاء، وشعوبه ما بين مقهور مغلوب على أمره وبين جاهل غارق في تحصيل شهوات الدنيا وحطامها، وهو بذلك قد وصل إلى درجة شديدة جدّا من الضعف، لم يصل إليها من قبل، لا في زمن الحروب الصليبية، ولا في زمن التتار، ولو صاح صائح فيهم لخرّ كثير منهم...حالة الاستعجال الشديد لإحداث ذلك التغيير، لقد بدا الأمريكان في حرصهم الشديد على إحداث التغيير، وضغطهم في سبيل تحقيقه، وكأنهم يسابقون شيئا يخشون أن يسبقهم."[3]

[1]
- سورة الحجر: الأية 09.


[2]- أخرجه البخاري.


[3]- محمد شاكر الشريف: تجديد الخطاب الديني بين التأصيل والتحريف، ص 96-97.