[ رَمضَانُ في بَيتِ النُّبوة ]
🌙 الَّليلة الأُولى .].
جلسَ الشّيخ في مَجلِسه ، وآنسَ المَكان بِطيبه .. ثُمّ دَعى وقال ؛ { رَبِّ إنّي مَسّني الضُّر } فامْنُن عليَّ بِرَمضان !
ضَجّ المَجلسُ بِبُكاء تَلميذ ؛ مسَّته الكَلمات !
أكمَل الشّيخ وقال :
يا رَبّ ..
لا تَرفع سِترك عنَّا ..
وارزُقنا ما رزَقْتَ نَبيِّك مِن طُهر الخَلوات !
ثُمّ أردَف قائِلاً :
في مِثل هذه الَّليلة ؛ كانَت تتَهيّء الحُجرات بِتََراتيلِ الأَسحار .. تَسمعُ فيها انكِسار الصَوت بالوَجَل ؛ إذا تَلا النَّبيّ ﷺ { يا أيُها النَّاس أنتُم الفُقراءُ إلى الله } ..
يَمُدّها بتوجعٍ ؛ فَيرجعُ الصَدى فقيراً .. كأنَّه يقولُ ؛ حَقيقٌ عَلينا إليكَ الإياب .. حَقيقٌ عَلينا إليكَ الإياب !
كانَت تَمضي الحُجرات في رمَضان ؛ خِفافاً لِمَدارج القُرب .. تلوذُ بالتَّسبيح .. ويُؤدي الدَمع في أنحائِها ؛ صلاةَ الشَّوق ..
فالخَلوة الصِّادقة ؛ لا تَخلو من العَبرة !
في مثل هذهِ الَّليلة .. كان يَنصت النَّبي ﷺ لِحَفيف أجنِحة جِبريل ؛ تُرَفرف حولَ الحُجرات .. يَلهجُ بالشَّوق ؛ فهذا زَمنُ مُدارسة القُرآن .. زمنُ فهم النص ..
زمنُ فكّ قيود الحَياة !
تطيرُ أسرابُ المَلائكة في المدينةِ ، و تَهبِط في ولَهٍ على ضِفاف الحُجرات ..
فهنا ليلٌ مُمتلىء بنَوايا ؛ تَفوحُ بنورٍ أبديّ ..
واللهُ وحده على العَرش ..
من يسمعُ هَرولة الخَفقات !
واللهُ وحدَه ..
مَن يسمعُ تَعويذة القَلب المُحَمّدي مِن ليلٍ يَدوم !
واللهُ وحدَه ..
كانَ يسمعُ قلب نبيّه ؛ ينَبضُ بِهَمسٍ خَفيّ :
أتَينا إلى اللهِ بالله .. فلقَد كان اللهُ وحده في صَلاته !
كان صَوته في سَمْعِ الملأ الأعلى يَرِفّ ..
وفي الحُجرات ؛ يتَوسّد النَّبي ﷺ البياض سِجادة لقَلبه ويُصَلّي !
تَنثني المَفاصل في شَوقٍ والهٍ .. يتَساقطُ التَّسبيح من شفَتيه ؛ وَرداً .. وتصيرُ الحُجرات رَوضة مِن فَرحٍ سَخيّ !
تَهبطُ الملائكة بِخُشوع ..
يَطفو حولَها حُبٌّ مُحمّدي ..
تَنغمرُ المَلائكة في الإقتراب مِن النَّبي ﷺ ؛ مثل جَداول تَلتقي بالمَصَبّ !
تَموجُ الحُجرات بِبشَاشةِ اليَقين .. ويَصمِت قلبه عن الدُنيا ؛ إذ الجنَّة هي كلّ ما يَرى ..
و تَذوبُ أفئدةُ المَلائكة إذا تَلا النَّبي ﷺ ورَدّد ؛ { بلْ يداهُ مَبسوطَتان } !
يَسمعها عابِر بالحُجرات قدْ ضَجّت مُقلتيه مِن التَّعب ..
يُرَدّد الآية ثُمَ يقول ؛ ربٌ هذه يَداه ..كيفَ إذن للنَّبع أنْ ينْضَب !
ويَمضي .. كأنّه امتلَك دليلَ الرِّحلة إلى الأُمنيات !
وحولَ النَّبي ﷺ ؛ تنهمرُ الملائكة في الحَنين ..
تفرّ إلى صوتِ النَّبي ﷺ ، وتَشتهي لو تَنغمسُ في التَّرتيل ..
فصَوتُ النَّبي بعضُ النَّعيم !
يتأوّه في الحُبِّ ، وتكادُ السَماوات تَميلُ إذْ يَميل ..
يَمُدّ الآيات مَدّا ؛ كأنّها حبالُ الشَوق إلى الله !
يتلو الرَحمن ؛ فينهالُ الصَوت نُوراً ، وتَنتشي الجنّة ..
ينفتحُ له المَدى سُلَّما ..
تُهَرول أطياف المَلائك ..
وتُعانق " الياءَ " المَمدودة بالحُزن في صَوته ؛ إذْ يُرتِّل { نِداءً خَفيِّا } ..
ويُصبح الَّليل ؛ غَيثاً خَفِيّا !
يَهَبُ نَسيم العَطايا على الكَفِّ الخالية مِن الهَوى ..
وتَمتلىء أزمانُ الجنّة بالدَهشة .. ويفورُ الكوثرُ من شِدَّة الشَوق لمُحَمّد !
يَرتدي النَّبي ﷺ الأدَب في صَلاته ، وَيظَلُّ في غيوبِ التّلاوة سابِحاً ..
تَطرُق الآيات قَلبه ؛ مثل أنامِل المَطر ..
فتَنسَكِب دُموعه ؛ ولا تَدري كيفَ يصيرُ الدَمع منه مُزنَاً !
ياللهِ ..
لقَد كانَت ابتهالاته تشفي جِراح الرُوح مِنَّا ؟!
يَتلو { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } ..
فَيميدُ ويظَلّ يَبتهل ؛ كأنَّ الخِطاب له وَحده !
لقد كانَ يتَّقد بالتَّوسل للمَغفرة .. يكادُ الشُحوب يُصيب المَلائكة ؛ إذْ تراهُ يَرتجفُ في سُؤاله ..
يَئِنُّ خَوفه وهو يَتلو ؛ { فَبِأيّ آلاءِ رَبِّكما تُكَذّبان } ..
ويَهرع قلبهُ فيقول ؛ ولا بشيءٍ من آلاءِ ربّنا نُكَذِّب !
ويظَلُّ في سورةِ الرَحمن ..
فإذا أطلَّ فَجرُه ؛ كانَ مَرْوياً بالرَحمة !
يقرأُ في الصَلاة { يومَ تُبلى السَّرائر } ..
فتبدأُ حُروف الآية من قَلبه ..
ويَرقى الدَّمع إلى رُوحه ..
ويَغيبُ في يومٍ ؛ تصيرُ السّريرة فيه علَانية .
يومٌ تكونُ الألوان كلّها فيها ؛ بلونِ الضَمير !
لذا كانت تَرتجفُ روحُ النَّبي ﷺ ..
فقدْ ضجّ قلبه باليَقين !
قال أحدُ التَلاميذ :
كيفَ يبلغُ العبد هذا المقَام ؟
قالَ الشّيخ :
الذين خاطَروا بالشَّهوات ؛ اقتَربوا ..
وهذا طعمُ الخَبر ؛ فكيفَ طعم النَّظر يا ولَدي !
اسْمَع كلامَ يحى بن مُعاذ إذْ قال : ( لستُ آمُركم بِتَرك الدُنيا، آمُركم بِتَرك الذُنوب ، تَرْكُ الدُنيا فَضيلة ؛ وتَرْكُ الذُنوب فَريضة، وأنتُم إلى إقامةِ الفَريضة أحوجُ مِنكم إلى الحَسنات والفَضائل ) .
إنّ الشَهوة زِمام الشَيطان .. ومَن غابَ فيها ؛ ماتَ في الحَجْب .. فتنبه !
يا ولدي لا يزالُ دينكَ مُتمَزّقاً ؛ ما دامَ قلبكَ بِحُبّ الشَهوات مُتَعلّقاً ..
لذا ..
حوّل عين القَلب مِن الأشياء ؛ إلى رَبّ الأشياء ..
تَعلّم كيفَ تُعلّق قلبكَ بالله ..
لو تَعَلّق ؛ ما زادكَ الوِرْدُ عليه ؛ إلا عَطَشا !
ما زادك الوِرْدُ عليه ؛ إلا شَوقا !
القُرآن نعيمُ العارِفين ..
فقلْ :
ادْرِكنا به يا مَولاي ..
ياربّ .. بَعْثَرتُ ذاتي فاجمَعني بالقُرآن !
تعَلّم يا ولدي في رمَضان المُدارسة على هدي النبي ﷺ .. ودَعْ عنكَ ظاهِر القِراءة ..
القِراءة الظَاهرة ؛ إغفاءَة ..
والمُدارسة للقَرآن ؛ يقَظة !
تقرأُ أُمَّة النَّبي ﷺ القُرآن في كل رمَضان ؛ لكن الهَاوية لا تزالُ تَمشي إلى أقدَامها ..
لمَاذا ؟
لأنَّ الأُمّة تتَلو القُرآن بالشِّفاه .. وبينَ القُلوب وبينَ معاني التَغيير في القُرآن ؛ صَوتٌ كأنه يقولُ كل عامٍ { لا مِساس } !
🔹د.كِفَاح أَبو هَنُّود