أعيادنا هديّة ربّانيّة وتهدئة نفسيّة

قال قائلٌ كريمٌ وأخٌ حبيبٌ حميمٌ : (( أمّا قوله تعالى "فصلِّ لربك وانحر" فنصّ لا يقبل التأويل في التكليف بالاحتفال بعيد الأضحى وبتأخير النحر بعد الصلاة، ورغم تنزل سورة الكوثر في بداية العهد المكي فقد تعلق التكليف بمانع الاستضعاف أكثر من عشر سنين لم يقم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم خلالها صلاة العيد كما لم ينحر خلالها أضحية واحدة ولم يرو عنه احتفال بالعيد قبل الهجرة والتميز وزوال الاستضعاف))

قلت : هذا إستنتاج خاطئ لا ريب ، ولا يصلح للاحتجاج به في هذا السياق البتّة ، لأنه ملفوف بالمغالطات :
المغالطة الأولى : ليس المقصود من هذه الآية لا صلاة العيد ولا نحرالأضاحي ، إنما المقصود الصلاة المعهودة والنحر – الذبح - عموماً ، ذلك أنّ هاتين الشعيرتين ( الصلاة والنحر ) وكذا الحجّ هي من الشعائر التي كانت سائدة عند العرب في الجزيرة العربيّة فهي من بقايا الحنيفيّة الإبراهيميّة ، لكن شابها الشرك فخرجت عن كيفيتها وهيأتها المعتبرة شرعاً ؛ إذ كانوا يوقعون صلاتهم ونسكهم وذبحهم وحجّهم على غير هيئتها الشرعيّة فلا يذكرون اسم الله عليها ، فضلاً عن أنهم كانوا يصرفونها لغير الله تعالى ، من هنا جاء قوله تعالى في السورة المكيّة ( فصلِّ لربّك وانحر ) ( الكوثر 2) أي : أخلص له صلاتك وذبيحتك ، فإنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عمّا هم فيه ، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى .
قال ابن عباس – رضي الله عنهما - : ( أقم الصلاة المفروضة عليك ) ( اللباب في فهم علوم الكتاب 20/520) والسيوطي في تفسيره الدر المنثور 6/689) عن ابن عباس
وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : ( كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة - ومن ذلك النهر الذي تقدّم صفته – فأخلص لربّك صلاتك المكتوبة والنافلة ونَحْرَك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه لا شريك له ، كما قال تعالى : { قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين } ( الأنعام 162،163) وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، كما قال تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) [ الأنعام : 121) ( تفسير ابن كثير 8/503)
وقال الطبري : ( حضّه على المواظبة على الصلاة المكتوبة ، وعلى الحفاظ عليها في أوقاتها، وعن مجاهد :فصلّ لربك وانحر) ) قال : ( الصلاة المكتوبة ، ونحر البدن )تفسير الطبري 15/326 ، وقد ( قيل ذلك للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – لأنّ قوماً كانوا يصلّون لغير الله تعالى ، وينحرون لغيره فقيل له : إجعل صلاتك ونحرك لله ، إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره ) ( تفسير الطبري 15:327 )
وقال الإمام الطبريّ – رحمه الله تعالى - ( وأوْلى هذه الأقوال عندي بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصاً دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ، شكراً له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفاء له ، وخصّك به من إعطائه إياك الكوثر ) ( تفسير الطبري 15/328)
ونحو ذلك قال الإمام القرطبيّ في تفسيره لقوله تعالى ( فصلِّ لربك وانحر ) : أي : ( أقم الصلاة المفروضة عليك ، كذا رواه الضحّاك عن ابن عباس ) ( الجامع لأحكام القرآن 10/148)
وقال الإمام الرّازي : ( أراد بالصلاة جنس الصلاة لأنهم كانوا يصلّون لغير الله تعالى ، وينحرون لغير الله تعالى فأمره أن لا يصلّي ولا ينحر إلا لله تعالى ) ( التفسير الكبير ومفاتح الغيب 16/131)
وخصّ النحر بالذكر ، والنحر إنما يكون للجزور وذلك ( لأنّ النحر أفضل نفقات العرب ، لأنّ الجزور الواحد يغني مائة مسكين ) (نظم الدّرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين البقاعي 8/549)
وفي هذا السياق قال الإمام الألوسيّ : ( فصلّ لربك وانحر ) أي ( فدُمْ على الصلاة لربك الذي أفاض عليك ما أفاض من الخير خالصاً لوجهه ...( وانحر ) البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى وتصدّ ق على المحاويج ) ( روح المعاني للألوسي 15/ 380)
وقال الشوكاني : قال محمد بن كعب : ( إنً ناساً كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته ونحره له ) ( فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدّراية في علم التفسير 5/622) و ( اللباب في فهم علوم الكتاب 20/522)
وقوله تعالى ( فصلّ لربك وانحر ) بعد قوله ( إنّا اعطيناك الكوثر ) : ( إعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربّه عليها ، فإنّ الصلاة أفعال وأقوال دالّة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته ) ( التحرير والتنوير لابن عاشور 30/574)
وأمّا من قال بأنّ المقصود بالصلاة صلاة العيد وبالنحر الأضحية ، فقد أجاب الإمام الرّازي بقوله : ( قال المحقّقون : هذا ضعيف لأنّ عطف الشيء على غيره بالواو لا يوجب الترتيب ... ولا يجب إذا قرن ذكر النحر بالصلاة أن تحمل الصلاة على ما يقع يوم النحر ) ( التفسير الكبير ومفاتح الغيب 16/131)
وقال صاحب أضواء البيان : ( وأصحّ الأقوال في الصلاة وفي النحر هو ما تقدم من عموم الصلاة وعموم النحر أو الذبح لما جاء في قوله تعالى : { قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين } ( الأنعام 162،163) ( أضواء البيان 6/162)
في ضوء ما سلف فمن قال إنّ المراد بها صلاة العيد فقد أجاب أبو بكر بن العربيّ عن القرطبيّ رحمه الله تعالى قوله : ( ليس بمكّة صلاة عيد بإجماع ) ( اللباب في فهم علوم الكتاب 20/522) أي لم تفرض بمكّة البتّة ، ويتضح هذا بإيراد المغالطة الثانية :
المغالطة الثانية : أنّ فريضه الحج التي تنطوي على صلاة عيد الأضحى ونحرالهدي والأضاحي كانت في السنة التاسعة للهجرة وهو الصواب، قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصّه : وأما قوله تعالى : (وأتمّوا الحج والعمرة لله ) ( البقرة 196 ) فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرضية الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء
فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟

قيل : لأنّ صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة ، ويدلّ عليه أن أهل مكة ، وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين ، لما أنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ( التوبة 228) فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية ، ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان عام تسع ، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف ، والله أعلم . انتهى من زاد المعاد .
وأنّ الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيّم في كلامه المذكور آنفا ؛ لأنّ آية) : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ( آل عمران 97 ( هي الآية التي فرض بها الحج .

وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

إذن : آية فرضيته هو قول الله تعالى ( ولله على الناس حِجّ البيت من استطاع إليه سبيلا )( آل عمران 97 ) وهي في صدر سورة آل عمران وقد نزلت عام الوفود في السنة التاسعة، حيث أوفَد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثة الحجّ على رأسها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ليؤذِّن في الناس يوم النحر ألاّ يحجّ بعد العام مُشْرِك ولا يطوف بالبيت عُريان، وكانت هذه البعثة تمهيدًا لحجّة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجّة الوداع في السنة العاشرة، وهي الحجّة الوحيدة التي حجّها كما رواه مسلم وفيها نزلت آية (اليومَ أكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (سورة المائدة : 3) وأشهد الناسَ على أنه بلّغ الرّسالة، وأمرَهم أن يبلِّغوها للعالم كلِّه.
فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقيادة أبي بكر - رضي الله عنه – للحج في السنة التاسعة للهجرة؛ حتى يعلم الناس أن يتخلصوا من الآثار الباقية للوثنية، حيث كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، فنادى أبو بكر -و علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: " ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" أخرجه البخاري ثم حجّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السنة العاشرة من الهجرة، وهي الحجة الوحيدة التي حجها بعد الهجرة، وتسمى حجة الوداع.
أمّا حكمة تأخر فريضة الحج : أنّ مكة زادها الله شرفاً ، كانت قبل تلك السنة تحت سيطرة المشركين من قريش فلا يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يحجوا ، إذ قد تمنعهم قريش من الحج كما فعلوا في السنة السادسة عندما صدّوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن إتمام عمرتهم ، ولكن بعد أن تحرّرت مكة من الكفر بعد فتحها صار إيجاب الحج على الناس موافقاً للحكمة .
في ضوء ما تقدّم : تستشف أنّ الخلاف الذي حصل بين الفقهاء في فرضيّة الحج التي ينعقد فيها عيد الأضحى وذبح الأضاحي إنما تردّد بين السنة السادسة للهجرة أو التاسعة للهجرة ، وليس ثمّ من الفقهاء من قال إنها فرضت بمكّة المكرّمة ! وبان انتصار دليل من قال إنها – أي فرضيّة الحج – كانت في السنة التاسعة للهجرة !
ومنخول القول في ذلك كلّه : إنّ قوله تعالى ( فصلّ لربّك وانحر ) ليس تشريعاً لصلاة العيد وأضحياته ، إنّما المقصود منه جنس الصلاة وجنس النحر والذبح ، حتى إذا ما شرع الحجّ في السنة التاسعة للهجرة ، الذي يأتي في طيّاته عيد الأضحى وأضحياته جرت عليه أحكام هذه الآية ؛ بأن تكون صلاة العيد كغيرها من الصلوات من حيث التوجّه بها إلى الله وحده ، وكذا نحر الأضاحي يهرق دمها باسم الله ولله !
وبعد : فحال فئام من الناس في أمر مريج ، فهم لا يفوّتون مناسبة إلا ويحتفلون بها من يوم ميلادهم إلى يوم نجاحهم ، وتخرّجهم في المدارس والجامعات ، مروراً بذكرى زواجهم وبما رزقهم الله تعالى من ذريّة و..و.. حتى إذا ما جاء عيد الفطر أو عيد الأضحى اللذان هما فضل من الله عظيم لمن أدركهما وأدّى ما في نواصيهما من طاعات يستحق الفرحة والبهجة على إثرهما كما قال تعالى ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ممّا يجمعون ) ( يونس 58) حتى إذا ما جاء هذان العيدان طفق أقوام يستقوون على إزهاق مساحة الفرح تلك من أنفسنا وأنفس الناشئة بذرائع يتكلّفونها ، وكأنّ التقوى مخبوءة في هذا الإزهاق ، والحرقة على أوضاع الأمّة مضمرة في حجب تلك الفرحات ، والولاء للوطن والانتماء له مرهون بالعزوف عن تلك البهجات .. والله أعلم بما يصفون ، فهلا جعلتم هاتين الفرحتين هدنتين نفسيتين نستنهض فيهما وبهما الههم وننعش بهما العزائم ، ونغيظ عدوّنا بهما ونراغم ! فأعيادنا نفحتان ربّانيّتان وتهدئتان نفسيّاتنا تطفئان فينا هجير الواقع ولظاه المستعر !!
وعليه : ( يجب أن تفرح إن استطعت أن ترسم ابتسامة على شفاه وفي قلوب من حولك حتى وإن كان الألم قد أتى على قلبك فقد كسبت معركتك مع نفسك ، وأصبحت سلطانا عليها،
يجب أن تفرح إن كنت من الذين عندما يحزنون يحزنون لله و لدينه و لعباده ، وبالطريقة التي شرعها، و عندما تفرح تفرح لله و بالله و مع الله.
يجب أن تستبشر لأنّ الاستبشار في أتون الظلمة و دلجة الليل عندما تبلغ القلوب الحناجر سنة نبوية تخرجك من ضيق الخندق لتضع بين يديك ملك كسرى و قيصر
العيد لله و لعباده فإن كنت منهم فستنالك الرّحمات و الأفراح و هل أعظم من أن يرضى عنك الله فيكتب لك الرّضى في الأرض و السماء فلا تشقى بعدها؟! )
وما لنا ألاّ نحتفي بأعيادنا ، وأعيادنا ليست بأعياد طرب وغناء وحفلات ماجنة ، وليالي حمراء .. إنّما هي مناسك تعبّديّة ، وصلة أرحام ، وتصافي نفوس ، وتعزيز المحبّة والوئام !!
بل على الشعوب المُبتلاة المنكوبة المكروبة المستضعفة أن ترتسم على شفاهها البسمة رغم الجرْح ، وأن تتصلّب وتتجلّد رغم القرح ، وأن لا تتنازل في أتون ذلك عن شيء من مناسكها وشعائرها بذرائع ملابسات الواقع وضغوطاته الثقيلة ، لأنّ ذلك- لعمري - هو بداية الانخزال أمام العدو والانخذال والانهزام
...وفهمكم كفاية .. وتقبّل الله طاعاتكم ... وكلّ عام وأنتم بخير !