الروح القيادية والانفجارات...بقلم آرا سوفاليان
في الساعة السادسة وخمس وخمسون دقيقة دخلت الستائر الزرقاء في غرفتي والبرتقالية في غرفة الأولاد مسافة الى الداخل وعادت الى مكانها وكان صوت انفجارهائل أعلى من صوت انفجار القزاز وأصابنا الرعب الشديد واعتقدنا ان الانفجار قريب وفي جرمانا وخرجنا الى البلكون والكل يحمل موبايله في يده...بعد دقائق علمنا ان الانفجار في ابو رمانة، وفي اتصال آخر قالوا مبنى الاذاعة والتلفزيون ثم في منطقة الجمارك ثم في ساحة الأمويين مبنى الأركان وسمعنا الانفجار الثاني وكان أفل قوة...وانطلق سيل من التخمينات فهناك من يتصل بمنطقة العباسيين لأن له أقرباء في العباسيين وهناك من يتصل بمنطقة البرامكة والمهاجرين وقيل ان الانفجار الثاني وقع في كفرسوسة ثم قيل انه في منطقة قريبة من الانفجار الأول وتأكد ذلك بعد ورود اتصالات أخرى متبادلة بين الجيران ومعارفهم وأقرباؤهم... وعلى الرغم من بعدنا عن مكان الانفجار فنحن في مركز دائرة الرعب وباص الأولاد يصل في السابعة وعشر دقائق بمعنى بعد 5 دقائق ونحن لا يمكننا اتخاذ القرار هل نرسل الأولاد أم نبقيهم في البيت...وامام حالة التردد هذه قالت كارني المنهمكة بارتداء ملابسها ووضع اللمسات الأخيرة على أشياء لا نعرفها قالت مخاطبة أمها: ماما لا تخافي ان لحظة الخطر هي الانفجار بحد ذاته حيث يكون قد وقع الشيء الذي سيقع وبعد ذلك فإنه لا يوجد خطر بل حالة من السكون وبالتالي فنحن نريد الذهاب الى المدرسة.
كان لا بد لنا أمام هذه الشجاعة ان نسلم أمرنا الى الله...وغمزتني كارني وقالت لي: بابا لا تخف ألست من يقول انني أتمتع بروح قيادية...وذهب الباص بالأولاد وبدأ الصراع فلقد كاد ضميرنا أن يقتلنا ولكن عللت نفسي بمسألة الروح القيادية وأنه لا رد لقضاء الله وقدره.
أما الروح القيادية فلها قصة حدثت منذ يومين وهي الآتية...في مدرسة كارني وهي مدرسة ايليا ابو ماضي هناك باصين لجرمانا الأول يذهب الى آخر جرمانا في رحلة طويلة واسمه باص الجنائن يصعد اليه طفلتان جميلتان شقيقتان توأم هما مايا ونايا وباص آخر يصل الى حي الوحدة وما جاورها تصعد اليه كارني...وحدث غلط فلقد صعدت نايا وهي الأصغر الى باصها المقرر وصعدت مايا وهي الأكبر الى باص كارني وتحرك الباص واكتشفت مايا خطأها فبكت وصرخت (ضاعت أختي...ضاعت أختي) وتجمع حولها الأولاد وتوقف السائق ولم يتمكن من فعل شيء لأن وقوفه سبب عرقلة هائلة فتدخلت كارني واجلست مايا الى جانبها وأعطتها محرمة ورقية وهدأت من روع مايا وقالت لها: نايا في الباص الصح وانتِ في الباص الخطأ فالضائع هو انتِ وليس نايا...ستصل نايا الى البيت بأمان وأنت أيضاً ستصلين الى بيتك بأمان ولكن مع بعض التأخير...ونظرت كارني في عيني مايا فرأت أن مايا قد هدأ روعها وانها نجحت على الأقل في اثارة اهتمامها على الرغم من عدم وجود معرفة سابقة ورأت أعين كثيرة تحيط بهنَّ فاستطردت قائلة لمايا...ستنزلين معي ونصعد الى بيتنا وسنتصل بأهلك على الفور نطمئنهم فيتولى والدك النزول لاستلام نايا إن لم تكن قد وصلت بعد وأعتقد انها لم تصل لأن بيتك أبعد من بيتي وسأطلب من والدي ان يوصلك بالسيارة الى بيتك...فسألتها مايا وماذا لو ان والدك ليس في البيت؟ فأجابتها كارني: المهم هو ان نتصل بأهلك وبعد ذلك أهلاً وسهلاً بك ممكن ان نتصور معاً ونضع الصور على الفيسبوك ريثما يحضر والدي او والدك لأخذك الى بيتك واليوم ستعدّ الماما غذاء شهي أعرف منه البيتزا والبطاطا المقلية والبيبسي كولا وأنصحك بالبقاء عندنا بعد الاتصال بأهلك.
واقتنع سائق الباص بهذا الحل ورضي بأن تنزل مايا مع كارني...وبالطبع علمت بكل هذه التفاصيل من كارني، وكنت قد عدت الى المنزل قبل وصول الصديقتين بربع ساعة فسمعت طرق على الباب ففتحت وكانت كارني في مواجهتي وخلفها مايا وهي تبكي...كانت ملامح مايا مخيفة وكأنها تعرضت لحادث مؤسف...سألت كارني ماذا حدث؟ فأجابت هذه صديقتي مايا صعدت الى باصنا عن طريق الخطأ وتركت أختها في باص آخر...قلت: والباص الآخر عائد لمدرستكم؟ أجابت كارني نعم نايا صعدت الى الباص الصح ومايا صعدت الى الباص الخطا ومايا خائفة على نايا من أن تضيع...قلت لمايا: ستصل نايا الى البيت بشكل طبيعي والضائع هو أنتِ وليس نايا...اتصلي بأهلك على الفور...وكان والد مايا على الطرف الآخر وفهم الموضوع وقال لمايا ان نايا لم تصل بعد ولكن اعطي السماعة لوالد كارني ليدلني على بيته حتى آتي لإصطحابك...فقلت دون ان آخذ الهاتف... لا تضع الوقت اذهب يا سيدي لأخذ نايا من الباص وسأتولى توصيل مايا الى بيتها...ونزلنا وكارني القيادية معنا وحاولت مايا ان تنزل في أول الحارة فقلت لها: اريد ان ارى بيتك واريد ان انزلك في مدخل بنايتك قالت: الحارة سد والباص ينزلني هنا...قلت: سأدخل الى أقرب نقطة وسأضعك في مدخل بنايتك...انت صغيرة يا حبيبتي ونحن بلا أمن وبلا أمان والرعاع من حولنا وفي كل مكان والصغار معرضين للخطف قبل الكبار فلا تعارضيني...ودخلت في مدخل البناية ولوحت لنا بيدها...ونزلت دمعة حارة على يدي بينما كنت ارجع بالسيارة الى الخلف...لم نقدم لأولادنا الحد الأدنى من العيش بسلام واطمئنان لقد جعلناهم بحماقتنا يفكرون بطريقة تتفوق على أعمارهم فصاروا يشعرون بالخطر ويتعايشون معه مضطرين لأن غباؤنا حرمهم أن يعيشوا طفولتهم فكبروا دون أن يكبروا عشرة أعوام.
آرا سوفاليان
كاتب إنساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 26 09 2012
arasouvalian@gmail.com