يوم فقَدَت القُدرة على البكاء
مالك أبو خير - now lebanon
"وقفتُ أمام جثته ساعة كاملة من دون حراك، بكيتُ حتى شعرت أنّني فقدت النظر، فـ"سامر" ولدي الذي توقّف عن جامعته والتحق بـ"الجيش السوري الحر"، بعد شهور من القتال وجدته أمامي ممدداً مضرجاً بدمائه، هادئاً كطبيعته مع ابتسامة خفيفة، وكأنه يودعني على طريقته، كما كان يفعل عند ذهابه إلى دمشق مع بداية كل فصل دراسي". هكذا تتحدث أمّ لثلاثة شبّان سوريين قضوا في الحرب الطاحنة فيها منذ سنوات ثلاث.
"تحمّلتُ مسؤولية تربية الثلاثة، بعد استشهاد زوجي في حرب الجيش السوري المزعومة في لبنان. ذهب يومها معتقداً أنه يدافع عن لبنان ضد عدوان إسرائيلي، فعاد ضمن نعش وراتب تقاعدي لا يكفي ثمن رغيف خبز، وتحملت تربيتهم وكانت ماكينة الخياطة السند الأهم لي في تربيتهم وتعليمهم"، قالت بحسرة.
"سامر استشهد، فيما شقيقاه حسان ومحمد كانا يقاتلان على جبهة أخرى من جبهات حمص، ولم يعرفا أن سامر قضى. بقيتُ أبكي سامر وانتظر خبراً عن الإثنين الباقيين، ليمر شهر واحد فقط، وأقفُ مرة أخرى أمام راغب أو بالأحرى أمام ما تبقى من جسده، بعد أن مزقت قذيفة مدفعيّة روحه وجسده إلى أشلاء"، أضافت الأم الثكلى، وتابعت: "وقفتُ لدقائق أنظر إلى ما تبقى منه، أحاول أن أجمع شكله الحقيقي في ذاكرتي، ثم بدأت يداي تلامس دماءه وأضعها على وجهي، فأنا لم أستطع أن أضمه إلى صدري كما فعلت مع سامر. كانت دماؤه البديل عن ضمّه. لم أصرخ كما فعلت حين وقفت أمام جثمان سامر، فجسده الممزق جعل الصدمة تشلّ كل تفكيري، شعور بالعجز ما بعده شعور، ولن يحس بشعوري سوى الأم، فقط من هي أمّ ستفهم معنى ما أقوله".
وتتابع أم سامر: "حاولتٌ مراراً أن أرسل لـ"حسان" رسائل تطلب منه العودة وإخباره باستشهاد شقيقيه، لكن من دون جدوى. وبعد مرور ثلاثة أشهر فقط وقفت مرة أخرى، لكن في مكان آخر، حيث جاءت سيارة ونقلتني إلى إحدى الجبهات، لكي أودّع حسان قبل دفنه. وبناء على طلبه أوصى أن اقرأ الفاتحة على روحه، وترك لي رسالة فحواها أن أطلب من راغب وسامر الانتباه لنفسيهما، وأن يبقيا حيين، فهو كان حنوناً إلى درجة لن تجد البشرية كلها بجمال روحه".
وتضيف: "فوجئ الضابط المنشق حينها من أنني لم أبكِ، وفوجئ من صمتي القاتل. وقفت أنظر إليه وأقرأ ما كتبه لي، ومن ثم أعيد النظر إليه وأعود لقراءة ما كتب، ثم فجأة التفتّ إلى الضابط المنشق المسؤول عن كتيبته وقلت له: أرجوك قل لي إنّ حسان مازال حياً، أريد أن أعيش على أمل أن يعود لي، فمنذ أشهر دفنت من طلب في ورقته أن يبقيا حيين، وكان لي أمل أن يبقى هو حياً".
وتمضي الأم قائلةً: "أنا لم أبكِ، لكن الضابط ومن معه من العناصر بكوا، في حين وقفت كصخرة لم أتأثر بأي شيء، وبدوت أمامهم كأمراة حديدية. لم يستوعبوا أنني أمٌّ منهارة مقطعة إلى أشلاء لم تعرف أين دموعها التي ستبكي بها أمامهم، خرجت من دون أن أتكلم سوى بتلك الكلمات التي قلتها للضابط المنشق".
وقالت: "اليوم وبعد خروجي من حمص ودمار منزلي ونزوحي الى القلمون ومنها الى مخيمات لبنان، لم أطلب أي شيء حين وصلت سوى فراش ووسادة وما يقدم لي من طعام. لم أسمع أخبار المعارضة السياسية ولا أريد سماعها، وأنتظر كل لحظة في كل يوم مقتل قاتل أبنائي ومن خدع زوجي وقتله في حرب ليست لنا. أعلم تمام العلم، أنني لن أعود إلى حمص وأنني سأموت هنا، ولو أن الانتحار ليس بجريمة يحاسب عليها الله لفعلتها منذ رؤيتي جثمان حسان".
وختمت بالقول: "عندما تكتب قصتي أريدك أن تقول ما يلي: نحن شعب مات مرتين، مرة عندما قام ضد الظلم، ومرة أخرى عندما دفعنا ثمن الحرية وتاجر القريب قبل البعيد بدماء أبنائنا، ونحن الفقراء دوماً من ندفع الثمن وحدنا، وإذا قيل عني إنني لم أعد أبكي على أي خبر مؤلم أسمعه، ليس لأنني صخرة وامرأة حديدية كما يقال عني، فأنا فقدت القدرة على البكاء ... فدموعي قد ذهبت مع أبنائي".
https://now.mmedia.me/lb/ar/reportsf...83%D8%A7%D8%A1