منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 15

الموضوع: روايتي الاولى

  1. #1

    روايتي الاولى

    السلام عليكم


    بعد انقطاع طويل عن المنتدى عدت اليكم بنتاج جديد وهو روايتي الاولى. أرجو من الله أن تتعجبكم وأن لا تبخلوا علي بالنقد والاراء البناءة.

    والراوية من أدعب الرعب - أو هكذا يجب أن تكون - الممزوج بعناصر من الخيال العلمي.

    الرواية لم تكتمل بعد وما زلت مواصلا كتابتها بأسلوب جديد.

    وضعت لها عنوانا مؤقتا وهو (ذات الرداء الاحمر) وأطلب منكم فضلا لا أمرا أن تساعدوني في وضع عنوان لها بعد انتهائي منها تماما. فما رأيكم؟

  2. #2
    الفصل الاول



    لا اشعر بالراحة...
    في الحقيقة لم اشعر بها أبدا...
    لا تتعجبوا...
    كل هذا بسبب حلم مرعب يهاجمني كلما حاولت أن أستريح...
    الصور الغامضة تسبح في ثنايا عقلي المجهد...
    تشغل تفكيري ثم لا تلبث أن تتلاشى في أعماق عقلي اللاواعي مخلفة وراءها رعبا مبهما وحيرة اشد منه...
    لا أكاد أغمض عيني حتى تبدأ تفاصيله المرعبة...
    من تلك الفتاة الصغيرة ذات الرداء الأحمر التي تظهر لي؟
    هل أنا احلم أم إنني يقظ أتخيل؟...
    لماذا تظهر لي دائما؟...
    هل لي علاقة بها؟...
    من أنا؟...
    بل ما أنا؟...
    هل أنا بشري؟...
    نعم إنني بشري أو على الأقل هذا ما اشعر به...
    كلا... الأمر محير...
    ما علاقتي بتلك الصغيرة ذات الرداء الأحمر؟...
    على الرغم من خوفي منها إلا أن هناك شئ يجذبني إليها...
    شئ ما لا أدرك كنهه ولا اعرفه يناديني أن اذهب إليها...
    لقد نشأت وصور كثيرة تجتاح عقلي مسببة لي مزيدا من الحيرة...
    ولكن عقلي يحاول دائما التركيز على صورة واحدة فقط: الطفلة ذات الرداء الأحمر...
    فجأة! أشرق ضوء أمامي وأغشى عيني بقوة حتى شعرت أنهما صارتا كجمرتين قبل أن يذوي بعيدا كاشفا عن ظل شاحب لرجل يقف فوقي ويقول لي: ستكون مميزا بين الرجال.
    صرخة قوية شقت الصمت المخيم على المكان وانتزعتني من أحلامي وتركتني راقدا وحيدا في الظلام...
    حبة عرق باردة بدأت في النزول مستكشفة تجاعيد جبيني وتتسلل إلى جانب عيني...
    مددت يدي تلقائيا ومسحتها...
    اعتدلت من رقدتي وقلبي يدق بعنف يكاد يقفز خارج صدري...
    دق جرس هاتفي الجوال (المحمول) الموضوع على الطاولة القريبة والتي لا تبعد عني أكثر من نصف متر...
    تحركت يدي تلقائيا ناحية الهاتف ولكني توقفت متسائلا...
    هل كان يدق طوال الوقت أم الآن ابتدأ؟
    تغلبت على ما يعتمل في نفسي وأجبت الهاتف بسرعة...
    شعرت بالفرح لأن رنين الهاتف كسر حاجز الصمت...
    كان صوت المتحدث عميقا ويتحدث بسرعة ...
    لم يكن المتحدث خائفا وإنما كانت كلماته قصيرة وحادة ولا تحمل أي نوع من الدفء...
    لما يكن المتحدث سوى الملازم حسام الذي قال:
    - لدينا موقف ... اذهب إلى مقر القيادة والملازم محمود والملازم فاتن في طريقها إلى هناك. لدينا موقف خطير جندي خارق ومجموعة من الجنود المستنسخين قد خرجوا عن السيطرة. عليك تصديق ذلك فالتدريبات قد انتهت وحان وقت العمل الحقيقي.
    وقبل أن افتح فمي لأرد كان الخط قد أغلق...
    أغلقت الهاتف ووضعته على الطاولة...
    وقفت لدقيقة أو دقيقتين أحاول استيعاب الرسالة التي وصلتني...
    وفجأة أدركت أن الحلم الذي أراه إنما مجرد ذكرى قديمة لشئ حدث معي...
    تجاهلت أمر الحلم وحملت أغراضي واتجهت ناحية الباب...
    ***
    لم تمض نصف ساعة حتى وصلت إلى غرفة التحكم في مقر القيادة التابعة لدائرة التحقيقات العلمية. وجدت هناك الملازم محمود وهو رجل طويل القامة يبدو عليه انه واجه الكثير في حياته فنظراته تدل على اتزانه وتيقظه وإدراكه لما يحدث. كان الملازم محمود جالسا يحدق في شاشة كمبيوتر أمامه عندما مسح رأسه بيده. أصدرت صوتا خفيفا ليعلم الجميع بوصولي ودخلت الغرفة. كان في الغرفة غير محمود رجل وامرأة. عندما دخلت استدارت المرأة مرحبة وعلى وجهها ابتسامة عذبة. كانت المرأة واسمها فاتن جميلة حقا بشعر معقود من الخلف. وضعت فاتن يدها على خصرها النحيل واستدارت إلى شاشة الكمبيوتر التي كان ينظر إليها محمود. وقع نظري على الشاشة عندما عرضت صورة ضوئية لرجل يسير ببطء في ممر طويل. اقتربت منها محاولا التعرف على وجه الرجل...
    على الرغم من عدم وضوح الصورة إلا إنني شعرت أن وجه الرجل مألوف وان لم استطع أن أتعرفه...
    ولكن المنظر الذي أثار دهشتي هو تلك المجموعة من الرجال المسلحين الذين أظهرتهم الشاشات يسيرون خلف ذلك الرجل الغريب...
    فهؤلاء الرجال كما تظهر الشاشة لا يبدو عليهم أنهم أحياء...
    كانوا يرتدون زيا واقيا من الرصاص وعلى ظهورهم دائرة سوداء اللون تحمل في داخلها رسما يشبه حرف (s) الانجليزي بلون ذهبي ومثلها على صدورهم لكن بمساحة اصغر بكثير....

    كنت أتابعهم باهتمام وادرس الموقف عندما دخل حسام الغرفة من خلفي...
    من الواضح أن حسام هذا لا يمكن أن يكون جنديا ...
    كل شئ يدل على ذلك...
    طريقة جلوسه...
    ولباسه وقبعته التي يضعها على رأسه
    كلها تقول أن حساما هذا من النوع الذي يقضي وقته خلف الأبواب المغلقة ويقود العمليات...
    ومع ذلك فهو يحمل رتبة ملازم...
    المظاهر خداعة كما يقولون...
    هززت رأسي تحية لحسام ثم عدت لدراسة الرجل الغريب على شاشة العرض...
    لماذا اشعر بالألفة ناحيته؟...
    هذا أمر عجيب...
    أنا لم التق به من قبل فلماذا اشعر انه قريب مني؟
    إنني لم اكلمه ولم أتعرف به فما سر تلك المشاعر؟
    ما الذي يحدث؟...
    الأمور متشابكة والوضع معقد...
    آلاف الأسئلة تحتشد في عقلي تكاد تدفعني إلى إلقائها أمام الرجلين والمرأة ولكني كتمت ما في داخلي عندما صدمني منظر مروع رأيته على الشاشة...
    كان الرجل الغريب يأكل جسد احد ضحاياه...
    مزق جسد الضحية بيديه فتطايرت الدماء على الجدران البيضاء اللون...
    ورأيت الرجل الغريب وقد التقط قطعة من الجثة واكلها والدماء تتساقط من بين أصابعه وجوانب ذقنه...
    شعرت بارتعاش في جسدي من فظاعة المنظر ولمحها حسام...

    قال حسام: هذا الرجل يدعى عاصم مراد...
    التفت إليه محمود وفاتن وهو يلقي بما لديه من معلومات...
    قال حسام: عاصم هو الحل. إذا تمكنا من احتوائه والسيطرة عليه تمكنا من احتواء الموقف بأكمله..
    هززت رأسي . قالت فاتن: ما قصة عاصم؟
    فتح حسام الملف الموجود أمامه والتقط ورقة وبدأ يقرأ محتوياتها: انه ملك لمؤسسة ساتورن للأبحاث العلمية...
    قالت فاتن: ماذا تقول؟ ملك للمؤسسة؟ كيف ذلك؟
    تنهد حسان وقال: هناك عقد مع الجيش لتطوير جيش من المستنسخين يستجيبون لقائد ذو قدرات عقلية ونفسية خارقة...
    التفت حسام إلي وغمزني وقال: سيبقى الأمر تحت بند السرية المطلقة لان عاصم احد هؤلاء القادة...
    قال محمود: وما الميزة في ذلك؟
    قال حسام: لا يحتاج عاصم إلى أي وسيلة اتصال كي يرسل لجيشه هذا أوامره وليس بالضرورة أن يكون موجودا مع ذلك الجيش في نفس المكان.
    قالت فاتن: تقصد اتصالا تخاطريا؟
    قال حسام: هو كذلك يا عزيزتي..
    هز محمود رأسه وعقد يديه على صدره وقال: يبدو انك تمزح...
    حملت ابتسامة حسام سخرية واضحة وهو يقول: لهذا لا يأخذ احد بكلامنا هذا على محمل الجد... جيش المستنسخين؟
    شعر حسام بالاستياء فنهض واقفا وخطورة الموقف تبدو واضحة على محياه...
    قال حسام : إنهم كتيبة كاملة ممتازة التدريب عالية التسليح بتقنيات متقدمة.
    هز محمود رأسه مرة أخرى غير مصدق...
    ما أراه محير جدا...
    ولكن مهلا...
    هل هناك من رابط بين عاصم وتلك الصغيرة ذات الرداء الأحمر...
    لماذا اشعر بالانجذاب نحوهما؟...
    هل من تفسير لذلك؟...
    علي الذهاب إلى ذلك الرجل محاولا كشف شخصيته وعلاقته بي إن كان هناك علاقة...
    هتفت فاتن: كتيبة؟ وماذا عسانا أن نفعل لو واجهنا الآلاف من أمثال هؤلاء الجنود؟...
    شعرت فاتن بالاستياء بدورها...
    قال حسام محاولا تلطيف الجو : إذا قضينا على عاصم ينتهي الأمر . ولحسن الحظ فإن النقطة الأساسية في المشروع هي إمكانية إعطاء القادة معلومات عن ارض المعركة بدون أن نضعهم في مواجهة الخطر... وهذا يعني أننا يمكن أن نحاصر هذا الوغد بدون أن نجتاز هذا الحشد الكبير من الجنود.
    تنهد محمود وهز رأسه موافقا..
    اجتاح الفضول عقل فاتن وهي تسأل: وكيف سنجده؟
    قال حسام: لقد زرعت ساتورن في دماغه جهاز إرسال يمكن التقاط إشارته بالقمر الاصطناعي وهذا سيدلنا على مكانه.
    قال محمود والسخرية المرحة تقطر من بين شفتيه: هذا جيد... هذا جيد...
    التفت حسام إلي وقال: وماذا عنك أنت؟ هل أنت مستعد للعمل؟
    هززت رأسي موفقا ولكني لم انطق لان محمودا قاطعني قائلا: ماذا تقول؟ هل ستضعه في الميدان؟
    أشار إلي محمود بأصابع الاتهام ساخرا مني...
    قال محمود: هل أنت مجنون؟ انه لم يمض عليه هنا سوى أسبوع واحد.
    رفع حسام يده كي يصمت محمود وقال بحزم: لقد رأينا نتائج تدريباته وردود أفعاله خاصة سرعة الاستجابة فاقت كل توقعاتنا.
    ابتسم حسام وقال بلهجة واثقة: انه يستطيع تدبر أمره...
    هز محمود رأسه وقال: الأمر أمرك والشأن شأنك.
    مدت فاتن يدها وأمسكت بذراع محمود وقالت: لا تقلق. سيكون بخير..
    قال حسام منهيا الحوار: لنتحرك بسرعة فالوقت يداهمنا..
    واتجه الثلاثة إلى مخزن الأسلحة وشرعوا في انتقاء ما يحتاجونه...
    لم يمكنني أن أشاركهم خاصة حسام وفاتن في تفاؤلهم وثقتهم غير المحدودة في قدراتي ، فلقد وجدت أن الدورات في تعلم الهجوم والتدريبات على التحقيقات في الأمور غير الطبيعية المبنية على أساس المحاكاة غير مرهقة وأنا متأكد إنني لو واجهت أمرا استثنائيا حقيقيا فلم يكون الموقف سهلا.
    أنهى الفريق الصغير استعداداته بعد أن تلقى التقارير عن المهمة. إنها صعبة على مثلي أن أكلف بمثل هذه المهمة في فريق المطاردة خاصة أنها الأولى بالنسبة لي ولكني رحبت بالأمر كونها فرصة لإظهار حسن تدريبي واثبات ثقتي بنفسي. ربما تختفي هذه الكوابيس التي تقلق راحتي عندما تنتهي هذه المهمة مع فريق المطاردة.


  3. #3
    بداية مشجعة للاستمرار
    واحجز مقعدي هنا
    وسؤال هامس:
    هل خططت للرواية قبل كتابتها؟ كهيكل يعني؟ ام تركتها تمضي وحدها؟
    ولنا عودة تنقل لقسم القثة وتثبت للمتايعة وعودا حميدا كم اشتقنا لحضورك
    تحيتي
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  4. #4
    الفصل الثاني


    كنت راكبا في سيارة سوداء أنيقة تسير بسرعة على طول الطريق الضيق نحو بناية مهجورة حيث تم رصد الإشارة التي توضح مكان موجود عاصم مراد. كانت المصانع والمخازن المهجورة تمر أمام ناظري وأشعة الشمس في هذا الصباح تنعكس عن قطع الزجاج الناتجة عن تحطم النوافذ والملقاة على الرصيف. كان حسام يناقش التفاصيل الدقيقة للمهمة ولكنني استمعت إليه بتكاسل وكان عقلي مشغولا وأنا أحاول استيعاب ما يقول. وتحدث عن القمر الاصطناعي الذي تم استخدامه لالتقاط إشارة من الجهاز المرسل المزروع في أعماق دماغ عاصم مراد ولكن هذه الإشارة قد انقطعت قبل أن يقفز محمود وفاتن من مقعديهما أمام جهاز الاستقبال وقد حددا مكان نبدأ فيه البحث عن عاصم مراد. كانت المهمة تتضمن أن أقوم أنا ومحمود بدخول المبنى من جهتين مختلفتين في محاولة لتحييد خطر عاصم مراد وإزاحته عن الوجود وبالتالي فإن الجنود المستنسخين لن يتلقى ايا منهم اشارة من قائدهم وسيفقدون القدرة نهائيا حتى على الحركة!

    قاد حسام السيارة إلى زقاق ضيق واستمر في الحركة حتى توقف بعد صار الطريق ضيقا لا يتسع للمرور. وأضاف
    - لقد تتبعت عاصم مراد إلى هذا المبنى المهجور. ولا توجد أي إشارة على نشاط من الأعداء ولكن لن نجازف بناء على هذا.
    وجه هذه الجملة لي محذرا فهززت رأسي موضحا أني استوعبت الأمر وأنا أتفقد سلاحي قبل أن افتح الباب كي انزل من السيارة.
    قال حسام مستخدما جهاز اتصال لاسلكي:
    - محمود هل أنت في موقعك؟
    قال محمود:
    - أنا انتظر الأمر بالتحرك.
    قال حسام:
    - ابدأ الآن على بركة الله.
    وكانت جملته الأخيرة إيذانا منه أن انزل من السيارة متجها إلى المبنى.
    مشاعر متناقضة تنتابني..
    لا ادري لماذا اشعر بالخوف...
    وفي الوقت نفسه فضول إلى لقاء عاصم مراد..
    ما زال السؤال الأساسي يحلق في فضاء عقلي: لماذا اشعر بانجذاب إلى عاصم مراد؟
    هل يطلق إشارة عقلية كي أتراجع؟
    أم أن في الأمر سرا؟
    توقفت عن التفكير في هذا الأمر حتى لا افسد مهمتي قبل ان ابدأها...

    نظرت إلى حافظة مسدسي على جانبي وشعرت ببرودة مقبض المسدس المعدني حتى من خلال القفازات التي البسها في يدي.
    أخرجت سلاحي من غمده وتأكد انه يعمل وانه محشو بالذخيرة قبل أن أعيده إلى مكانه.
    تقدمت بحذر بخطوات هادئة بغير صوت...
    إحساسي بالخطر يتزايد...
    نظرت حولي باحثا عن أي حركة...
    ولكن الصمت كان قد ألقى بظلاله على المكان..
    كانت رائحة عفنة تملأ المكان حولي...
    وخلف السياج المحطم المحيط بالمبنى كانت هناك نار مشتعلة تتراقص أضواؤها..
    شققت طريقي من خلال السياج إلى تلك المنطقة وأخرجت سلاحي...
    وجالت عيناي في الجوار محاولا الكشف عن أي حركات عدائية مختفية..
    شعرت بالرضا والراحة إنني وحيد في المكان فأكملت السير...
    ما هذا المبنى الغامض؟
    كان الصمت التام هو جواب السؤال..
    لا يوجد احد يمكنه أن يجيبني في تلك اللحظة...
    كانت المبنى قذرا من الخارج بسبب الغبار الموجود على جدرانه...
    لماذا لا اشعر بالراحة في هذا المكان؟
    شعرت بالاستياء لان أحدا لم يستقبلني...
    ومع ذلك هناك ألفة في داخلي لهذا المكان لا استطيع أن احدد لها سببا..
    هناك شئ ما في هذا المبنى يتعلق بي..
    هل ذات الرداء الأحمر التي أراها في أحلامي موجودة هنا؟
    حتى لو كانت موجودة يجب أن تكون كبيرة في العمر لان الأحلام تأتيني منذ سنوات طويلة...
    ابتسمت وأنا أتساءل: كيف يكبر الشخص في الحلم إذا كان متكررا باستمرار؟ هذا مستحيل..
    ربما ليس بمستحيل..
    توقفت عن التفكير بالموضوع عندما لمحت بابا يتوهج ضوء من خلال شقوقه...
    كان الباب قد انتفخ بسبب الرطوبة والعفن حتى خرج عن إطاره..
    هناك شخص ما لا محالة..
    فتحت الباب بسهولة ودلفت إلى ممر مظلم
    ممر قاتم لا يحوي سوى رائحة العفونة
    رائحة تصيب المرء بالاشمئزاز...
    كانت القمامة تملأ المكان...
    منها ما هو في أكياس ومنها ما هو ملقى على الأرض...
    والجدران قد اسودت من العفونة والقذارة...
    مصباح صغير ومض فوق رأسي ووفر لي نوعا من الإضاءة...
    ولكن خاب أملي...
    فالممر لم يكن يحتوي أي مخلوق باستثناء الجرذان التي تعبث هنا وهناك بأكياس القمامة...
    كانت الجرذان تفر من أمامي مصدرة أصواتها المميزة وكأنها تعترض على وجودي الذي اقلق ليلتها وافسد وجبتها!
    في نهاية الممر استدرت لأدخل غرفة من الواضح أنها مخزن...
    أضأت مصباحي وشق شعاع الضوء ظلام الغرفة...
    وكانت ذرات الغبار ترقص على أنغام تنفسي...
    تقدمت ببطء أكثر خشية من أن يقوم عاصم مراد أو احد رجاله بهجوم مفاجئ علي منه أو من احد رجاله من خلف باب موصد أو مدخل سري...
    مشاعر الخوف تجتاحني
    ومشاعر الفضول تطلب مني أن أغامر وان أتقدم لكشف الحقيقة...
    كنت مستاء بسبب الصمت وعدم وجود مقاومة دخول المبنى ...
    وتساءلت داخل عقلي عما يمكن أن يستفيد عاصم مراد من وجوده في هذا المكان...
    توقفت عن التفكير في الأمر واضعا كل تركيزي في المهمة التي بين يدي...
    هذه المهمة التي يقول عنها حسام أنها حيوية وضرورية للغاية...
    اعترض مسيري باب مغلق...
    حاولت دفعه بخفة لكنه لم يستجب...
    ضربت الباب بقدمي ضربة قوية مركزة فإذا الباب يصدر صريرا وكأن الضربة أصابته في مقتل وهو يئن طلبا للنجدة...
    ولم يلبث الباب من تهاوى من مصراعيه...
    وتحطم الباب على الأرض مثيرا سحابة من الغبار تنضم إلى ملايين الجزيئات التي تسبح في الهواء الرطب العفن...
    كانت الغرفة المجاورة أوسع ولكنها لم تقل عن سابقتها سوءا بحال...
    القذارة تغطي الجدران وتملأ الشقوق فيها...
    ولم تكن الأريكتين الموجودتين في زاوية الغرفة تحصران بينهما طاولة بمعزل عن أيدي العفونة...
    وارض الغرفة تبدو زرقاء اللون لكن الوسخ قد خاط سجادة غطت معظم مساحتها...
    وما بدا انه مكتب استقبال مبني على الأرض كان يعطي شعورا بأنه غرفة انتظار...
    دخلت الغرفة بحذر شديد ويدي على سلاحي مستعد لأي مواجهة مع الخطر
    كانت عيناي تجولان في الغرفة متتبعة شعاع الضوء الصادر من مصباحي اليدوي..
    لاحظت مخارج هذه الغرفة..
    عدد قليل من الدرجات يؤدي إلى مجموعة كبيرة من الأبواب المزدوجة وعلى يسار الدرج ممر مظلم في نهايته زاوية يؤدي إلى عالم من المجهول...
    على اليسار فيما يبدو انه المدخل الرئيسي كان الباب زجاجيا مغطى بقضبان قوية كي لا يفتحه احد...
    اختبرت الباب من بعيد...
    وفجأة سمعت تحطم زجاج ذلك الباب وكأن انفجارا قد أصابه وقد ملأ الأرض بشظاياه الحادة...
    شعرت بالتوتر وكنت على استعداد تام أن أسدد رصاصة صائبة إلى أي شئ يحاول الدخول...
    - ما الذي أخرك يا صديقي؟
    كان الصوت مألوفا..
    انه محمود...
    وهذا جعلني اشعر بالطمأنينة والراحة..
    وقلل من توتر عضلاتي...
    خفضت سلاحي...
    اقتربت من الباب وحاولت فك القضبان ولكن ذلك كان مستحيلا فهي مثبتة بالمسامير على نحو يجعل إزالتها عملية في غاية الصعوبة..
    شعر محمود بالإحباط نتيجة لذلك.
    قال لي:
    - حاول أن تجد طريقا آخر للالتفاف حولها...
    قالها لي وابتعد عن الباب. شاهدته وهو يتجه إلى نهاية الممر ويختفي عن أنظاري...
    أما أنا فرجحت طريق الدرج القصير فصعدته متجها إلى الأبواب المزدوجة..
    عند أول باب فتحته بسهولة...
    كان الممر أنظف قليلا ولكن الصمت ما زال مطبقا على المكان...
    وهذا ما كان يدهشني...
    كان هناك ما يشبه سرير المستشفى يعترض الطريق مقفلا احد الأبواب...
    هذا السرير أوحى لي أن هذا المكان لا بد أن يكون معمل أبحاث طبية ولكنه ليس مستشفى بالتأكيد...
    المستشفيات لا تبنى بين المصانع والمعامل وفي مناطق منعزلة...
    أكملت مسيري عبر الممر ببطء ولا يكسر الصمت إلا أصوات خطواتي على الأرضية المشوهة...
    عندما استدرت عند زاوية نهاية الممر غمرني شعور قوي بعدم الراحة تسلل الى أعماقي..
    تحطمت بعض البلاطات وتطايرت شظاياها في كل مكان...
    وبدون إنذار اجتاحت عقلي صور بشعة
    صورة وجه مشوه ملئ بالدماء..
    واختفى الوجه فجأة كما ظهر...
    تراجعت إلى الخلف قليلا شاعرا بالذهول وقد رفعت مسدسي بحذر مع علمي ان السلاح لن يفيد في هذه الحالة...
    ولأن التدريبات التي تلقيتها أطلعتني على الظواهر غير الطبيعية ولأن هذا الصرح الطبي المهجور والذي يبدو مناسبا لكي تسكنه الأشباح ، فقد أضاف هذا عبئا ثقيلا على الرغم مما أعانيه...
    تحركت مسرعا ولم ادع الحادثة تشوش تفكيري وتؤثر على قراراتي. هذا ما تدربت عليه ولن اسمح لأي شبح أن يمنعني من أداء مهمتي في القضاء على هدفي.

    كانت الغرفة التالية تحتوي على نافذة. شمس الصباح أرسلت أشعتها الدافئة كي تنير المكان ولكنها لم تكف لإزاحة الظلام المسيطر على الغرفة. كانت الغرفة طويلة وفي حائطها البعيد باب عليه ألواح تغلقه ولكن هناك فتحة يمكن العبور من خلالها. تقدمت ناحية الباب وفجأة عبر جسم ما أمامي متجها بعيدا عني واختفى خلف الألواح التي تغطي الباب. لم استطع أن احدد هويته. هل هو محمود؟ أم عاصم مراد؟ انطلقت عبر الغرفة محاولا اللحاق بالشخص المتحرك وإلقاء القبض عليه. وانزلقت عبر ألواح الباب ولمست أقدامي ارض الغرفة مستعد للمطاردة.
    باب أغلق أمامي ولم أر من أغلقه وشعرت بالغضب لأنني لم أكن سريعا بما فيه الكفاية للحاق بمن أغلق الباب.
    شق الصمت صوت لم أتميز من صاحبه يقول لي: لماذا أحضرتني إلى هنا؟
    كان الكلمات تصدر منه بطيئة وخشيت من هجوم آخر لتلك الرؤية المريعة ولكن ذلك لم يحدث. أصوات صراخ أطفال تصدر من العدم تملأ المكان ثم تلاشت تلك الأصوات.
    من صاحب الصوت؟
    ولماذا اختارني كيف يكشف عن نفسه أمامي؟

    اقتربت من الباب وفتحته تدريجيا وكنت على استعداد للانقضاض في أي لحظة.
    يبدو أنها فجوة زمنية تتكرر أحداثها باستمرار لكل من دخل المكان.
    قادني ذلك إلى الاعتقاد بأن لهذا الصرح الطبي ماض شرير .
    وتوقف تفكيري عند تلك الفكرة لان المستشفيات تجلني عصبيا.
    مررت أثناء مسيري بسلسلة من الغرف كان بعضها فارغا وبعضها يحتوي خزائن ملفات أو أثاث مكتبي لكن كلها فارغة لا تحتوي أي معلومات مفيدة...
    لقد تم تطهيرها من جميع الأوراق والوثائق والأدلة التي يمكن أن تكشف ماذا حدث هنا...
    رغبت في معرفة ماذا حدث ولكن لم ذلك يأخذني بعيدا عن المهمة التي أقوم بها.
    أوقف مسيري باب مغلق برتاج معدني. تراجعت إلى الخلف ثم أمسكت سلاحي وأطلقته على الرتاج. تطاير الشرر والوهج من معدن الرتاج عندما اصطدمت به الرصاصات وسقط الرتاج على الأرض بعد أن فقد مهمته في حفظ سر ما في داخل الغرفة إن كان بها سر.
    انفتح الباب كاشفا عن درج طويل وشريط غير مستقر من الضوء على السقف. وما كدت أضع قدمي على أول درجة حتى تحطمت ولكني لم أتوقف بل أكملت الدرجات المتبقية واعترض طريقي باب آخر مغلق بلوح خشبي ورف معدني من الجهة المقابلة ولكني وجدت محمودا هناك وكأنه كان ينتظر مقدمي.
    قال محمود: انتظر قليلا.
    ووضع كتفه على الرف المعدني وبدأ يضغط عليه حتى أزاحه من الطريق. وطلب مني أن ادخل عنده. كان واقفا ممسكا بسلاحه وكأنه سيهاجم أحدا.
    تقدمت منه حتى أغطيه ثم سألني: هل أنت مستعد؟
    هززت برأسي أن نعم بينما كان قلبي يخفق بقوة.
    هتف محمود قائلا: الآن.
    واندفع محمود محطما الباب شاهرا سلاحه وتبعته وأنا مستعد لإطلاق النار على أي شئ يتحرك.
    لدهشتي الشديدة وجدت نفسي وحيدا في الغرفة...
    وحيدا تماما...
    اختفى محمود وكأنه لم يكن موجودا...
    ولم اسمع وقع أقدامه على الأرض...
    شعرت بنبضات قلبي تتباطأ...
    اشعر بثقل في قدمي...
    أنا لا استطيع الحركة...
    ماذا حصل لي؟
    بل ما هذا المكان الغريب؟
    هل كل ما حصل لاجتذابي إلى فخ ما؟
    لا استطيع النظر بسهولة..
    عيناي زاغتا...
    ظهر محمود فجأة ولكني لم أتمكن من الاستماع إلى من خلفه أو إذا كانت هناك طلقات بندقية أم لا...
    بدأ قلبي يخفق بقوة وأنا محتار بشدة مما يجري...
    وأنا في حالة شبه واعية سمعت ذلك الصوت ثانية...
    كان الصوت يدوي داخل عقلي ويقول لي:
    - أنت ولدت هنا في هذا المكان.
    كانت مفاجأة ولكنها أصابتني بالاستياء...
    حاولت السير وأنا اشعر بأثقال ملقاة على كتفي...
    محاولة يائسة للهروب من هذا الطيف الجهنمي الذي يبدو لي انه يعتزم جعلي مجنونا...
    اتجهت إلى غرفة مجاورة...
    أصبت بالرعب لان الرجل الذي رأيته سابقا في الهلوسة التي هاجمتني في الممر جالسا على كرسي ورأٍسه مدلى إلى الخلف...
    كان بنطاله الأزرق وقميصه قد امتلآ بالدم...
    كان الرجل ميتا ونصف وجهه مفقود...
    كان الجزء السليم من وجهه يحمل معاني الرعب والألم...
    من هذا الرجل وماذا يفعل هنا؟
    بل من فعل به هذا؟ ولماذا؟
    ولماذا ظهر لي أنا بالذات؟
    لكن مهلا...
    أنا ولدت هنا؟
    لكن من والدتي؟
    ومن والدي؟
    وأين هما؟
    أسئلة كثيرة لا إجابة لها عندي...
    توقفت عن التفكير ونظرت إلى الرجل الميت مرة أخرى
    على الحائط تبدو آثار الدماء...
    علمت أن عاصم مراد كان هنا...
    جفلت من عودة الصوت مرة أخرى وهو يقول لي:
    - لقد كنت هناك.
    اختفى الصوت وعاد إلي إحساسي بالمكان والزمان وقد اختفت تلك الأثقال عن كتفي..

    نظرت حولي مستغربا...
    رأيت محمودا يقف غير مبال بما حدث معي من سماعي للأصوات والرؤية التي هاجمتني على حين غرة وجميع الأحداث غير الطبيعية التي مرت بي.
    وتساءلت مرة أخرى: لماذا؟
    كان محمود ينظر بضيق وانزعاج إلى الرجل الميت أمامه، وبعد لحظات رفع يده وضغط زر جهاز اللاسلكي وقربه من فمه وقال:
    - فاتن! نحن بحاجة إليك.
    ردت فاتن على الفور: أنا في طريقي إليكم.
    قال محمود بحزن: يبدو أننا تأخرنا كثيرا. لقد قتل الرجل.
    سمعت صوت حسام عبر اللاسلكي وهو يقول:
    - هناك إشارة تنبعث من مكان قريب. يبدو ان عاصم مراد في الجوار في مكان ما.
    كنت مصمما على الالتقاء بعاصم مراد لذلك قبضت على سلاحي باستحكام. كان محمود يشعر بعدم طمأنينة عندما قال:
    - سأنتظر فاتن هنا واذهب وابحث في الجوار لعلك تجد شيئا.
    هززت رأسي بالموافقة...
    وشعرت بالسعادة لأنني سأضع رصاصة في رأس القاتل اللامبالي.
    صعدت الدرجات التي قادتني إلى باب مغلق جزئيا. كانت أشعة الشمس تتسلل من الفتحة. بينما كنت اقترب منها لم أر شيئا سوى عاصم مراد الذي كان يحدق بي للحظات قصار قبل أن يختفي عن ناظري...
    قفزت الدرجات المتبقية ووصلت إلى الباب ودفعته بقوة فانفتح. رفعت سلاحي مستعد لإطلاق النار ولكن لم أجد أمامي أحدا لا عاصم مراد ولا غيره...
    تحيرت كيف اختفى بهذه السرعة...
    ولكن لم اهتم للأمر كثيرا.
    كنت أقف على السطح وهواء الصباح العليل يشعرني بالراحة. تنهدت وابتدأت التحرك مرة أخرى. عاصم مراد قريب مني وعلي منعه من الهروب.
    بدأت خطواتي في التسارع وأنا أسير عبر ساحة على السطح. لم أدرك أن تسارعي قد وصل إلى الركض تقريبا.
    جريت من خلال باب آخر...
    متجها إلى ساحة أخرى على السطح...
    بينما كنت أسير مسرعا سمعت صوت مولد يعلو قريبا مني. غيرت اتجاه مسيري إليه. حدث كل شئ فجأة وبدون سابق إنذار.
    وبسبب تعجلي لم انتبه إلى شخص وجهه مغطى بالدماء يحمل لوحا خشبيا شرع في مهاجمتي. انصدمت بسبب ظهوره المفاجئ فرفعت سلاحي كي أطلق النار ولكني تأخرت...
    وكلفني تأخري كثيرا...
    فقد هوى لوح الخشب الذي يمسك به عاصم مراد على رأسي.
    هويت على ركبتي ووجهي مغطى بالدماء...
    ولم البث ان سقطت في الظلام وفقدت الوعي.


  5. #5
    الفصل الثالث

    لم أكن استطيع الحركة...
    هل أنا احلم؟
    أحاول التشبث بأي خيط رفيع يثير حواسي ويربطني بالواقع...
    اعتقدت أن الموضوع انتهى...
    وما أنا فيه ليس سوى حلم...
    وعندما استيقظ سأجد نفسي في مكتبي...
    تسلل صوت إلى أذني...
    كان هامسا في البداية...
    ولكنه بدا يتضح فيما بعد وهذا انتزعني من حالة اللاوعي التي كنت بها....
    فتحت عيني فجأة وكان المشهد كما هو قبل أن افقد وعيي...
    كنت على السطح في نفس المكان الذي تلقيت به الضربة...
    أشعة الشمس تتسلل عبر شقوق في الغيوم...
    كان هناك جندي مسلح وظهره ناحيتي وكأنه يحرسني...
    انه جندي مستنسخ...
    ورجل آخر ينحني قريبا مني وجهه مغطى بالدماء والقسوة على ملامحه فيما عيناه تتحركان كشخص مجنون. رباه! انه عاصم مراد...
    هذا الذي سعيت إلى اصطياده ولكنه اصطادني ويجب عدم السماح له بالسيطرة على الموقف...
    ابتسم على نحو قاس والزبد يتساقط من بين شفتيه وهو يتحدث...
    - الرجل القتيل هو يوسف سالم.
    ضم عاصم مراد أصابعه معا...
    حاولت القيام ولكني لم استطع لشعوري بالدوخة في رأسي نتيجة الضربة، ولت ترضخ عضلاتي لأوامري لذلك بقيت مكاني.
    - أتذكره الآن.
    لم يكن ينظر عاصم مراد إلى شئ محدد ولكن يبدو انه غارق في أفكاره.
    - هل هذه الذكريات لي أم لها؟
    ابتسم بتكلف عندما حاولت التحرك من جديد، ولكن للأسف جميع محاولاتي باءت بالفشل.
    كانت الأضواء تخبوا وعقلي يحاول إبقائي واعيا وقد تعب قلبي من محاولته تزويد دماغي بكمية اكبر من الأكسجين.
    - ليس هناك أي فرق. لقد كان يستحق الموت على أي حال.
    نظر عاصم مراد إلي...
    كانت نظرته ثاقبة لدرجة إنني اعتقدت أنها قد اخترقت جمجمتي. كانت كلمته الأخيرة ترن في عقلي:
    - جميعهم يستحقون الموت.
    وأحاطت أمواج الظلام بعقلي وغرقت في الغيبوبة مرة أخرى...
    وهدأ كل شئ...
    ***
    لقد كان حسام هو من أعادني إلى الواقع...
    اعتقدت أنني روحي غادرت جسدي وتركتني في سلام إلى الأبد...
    كان صوته الآتي من جهاز اللاسلكي قد انتزعني من حالة السكون..
    - ماذا يجري عندك؟
    صمت حسام قليلا ثم قال:
    - تعال.
    حاولت الرد ولكني عجزت بسبب جفاف حلقي...
    فشلت الكلمات في الخروج من فمي...
    وجدت صعوبة في تحريك قدمي...
    كانت العضلات ضعيفة في البداية ولكنها استجابت في النهاية...
    الحمد لله...
    طردت الألم بعيدا واستعدت قوتي...
    سمعت قول حسام: لقد فقدنا إشارة عاصم مراد.
    غضبت غضبا شديدا...
    لقد قهرني عاصم مراد...
    قتل شخصين وهو يهدد الباقين....
    لقد فشلت في مهمتي وتسلل عاصم مراد من بين أصابعي.
    الندم لا يفيد هذا تعلمت
    إذا خسرت جولة فهذه ليست نهاية المعركة...
    ولكن أين هو الآن؟
    لن اكرر الخطأ مرة أخرى...
    سأجعل عاصم مراد ينحني أمامي على ركبتيه كما فعل معي وبعدها سأقدمه للعدالة ليأخذ جزاءه.
    ارتفع صوت من جهاز اللاسلكي يقول:
    - إلى القط أنا الثعلب.
    كان صوت قائد فريق المطاردة الآخر. قال الصوت:
    - آمل أن لا تكون مشغولا. لدينا موقف صعب هنا في الميناء.
    سمعت صوت حسام وقد بدا حريصا على الإجابة على الرغم من شعوره بالإحباط نتيجة فرار عاصم مراد من بين يدي فريقه. قال حسام:
    - أي نوع من المواقف عندكم؟
    قال الرجل:
    - لقد رصدنا هؤلاء الجنود الذين تبحثون عنهم. ولكن لدينا أوامر بعدم الاشتباك معهم حتى تستطلعون انتم الوضع بأكمله قبل الهجوم.
    قال حسام:
    - مفهوم.
    قال الرجل:
    - لقد وجدت اثنين من الصقور في طريقهم إليكم وعما قريب سيصلون.
    قال حسام: سنكون مستعدين.
    ***

    صمت جهاز اللاسلكي. نظفت نفسي من الغبار وأزلت الحصى الصغير من قفازاي.
    قفزت الأسئلة في رأسي...
    ولكني أزحتها بعيدا لأنني لن أجد الإجابات وعاصم مراد ما زال حيا يرزق.
    من كانت تلك المرأة التي ذكرها عاصم مراد؟
    هل هو مجنون فعلا؟
    اعتقد ذلك ولكنه لماذا قتل رجلين يبدو عليهما أنهما بريئين؟
    هل هناك علاقة بين الثلاثة؟
    إذا كانت هناك ثمة علاقة ما هي طبيعتها؟ ولماذا جمعتهم هذه العلاقة؟
    يا لهذا التناقض العجيب الذي اشعر به...
    في البداية شعرت بتعاطف مع عاصم مراد والآن امقته بشدة بسبب ما فعله بي.
    لماذا شعرت بتعاطف معه وألفة من نوع غريب؟
    لم يوقظني من أفكاري إلا صوت مروحة طوافة ما...
    رأيتهم يقتربون من مكاني بسرعة...
    اتجهت من فوري إليهم ...
    وما كدت اقترب من السلم الذي يقود إلى الأسفل حيث جثة الرجل المقتول، حتى سمعت صوتا مألوفا...
    إنها فاتن...
    كان الحوار مسموعا بينهما:
    سمعت صوت محمود وهو يسأل:
    - ما رأيك برجلنا الهمام الجديد؟
    ردت فاتن بسخرية:
    - انه لطيف جدا.
    ورسمت ابتسامة متكلفة على شفتيها.
    قال محمود بشكل صارم:
    - ليس هذا ما اعنيه.
    قالت فاتن بسخرية:
    - اخبرني ماذا يجول في خاطرك؟
    كان محمود يبدو غير متماسك ولكنه يحاول إخفاء ذلك وهذا ما جعل فاتن تشعر بإحباط متزايد.
    قال محمود:
    - لا ادري شئ شعرت به بخصوص رجلنا.
    ضحكت فاتن وهي تقول:
    - اليوم الذي أراك فيه تحكم على الأشخاص سيكون يوما حزينا بلا شك.
    قالت فاتن:
    - أنا جادة! انه أمر ما يتعلق بعينيه. مثلا كأنه ينظر من خلالك.
    صمت محمود ولم يعلق شيئا.
    هبطت الدرجات المتبقية بتثاقل على أقصى ما استطيع كي لا أثير لديهم الشك أنني كنت أتنصت عليهما.
    قال محمود باستخفاف:
    - هل عدت بالفعل؟ هل رأيت شيئا؟
    نظرت إليه وهززت رأسي قليلا وقد قررت الاحتفاظ بسرية مقابلتي لعاصم مراد على الأقل في الوقت الحالي، لن اسمح لهم أن يعرفوا انه فر من بين يدي. قد يقرر حسام إنني لست أهلا لهذه المهمة فيعفيني منها وعاصم مراد لي أنا.
    تجاهل محمود صوت حسام القادم عبر جهاز اللاسلكي وقال مسرعة:
    - هل انتم على وشك القيام بالمهمة؟ لقد ابتدأ يومنا.
    أشارت فاتن إلى المخرج وقالت: اذهبوا أما أنا فسأبقى، لدي عمل أنجزه هنا.
    غفوت قليلا داخل الطوافة...
    ومنعني عنادي من أن اطلب مساعدة طبية للتغلب على الألم الذي يملأ رأسي. أبعدت الألم عن رأسي وقررت الاستمرار في المهمة.
    حتى عندما أغلقت عيني جاءني الحلم الغامض ذاته الذي أراه كثيرا. طلبت من عقلي أن يكتشف أسراره ولكن الغموض ما زال مخيما عليها.
    ظهر عاصم مراد بشكله الشبحي ووجهه المغطى بالدماء وغمزني بنظرته الشريرة. وسألني بصوت هامس:
    - ما هو آخر شيء تتذكره؟
    تلاشى بعيدا والأضواء تحيط به كما رأيته سابقا...
    كنت على طاولة غرفة العمليات...
    كانت هناك فتاة تصرخ وصوت أجش يصرخ بشكل هستيري قائلا:
    - هيا تنفسي وادفعي.
    ترددت العبارة في رأسي مع اختفاء الصورة تدريجيا كاشفة عن رجل آخر...
    عرفته على الفور. انه يوسف سالم الرجل القتيل!
    على الغرم من أن ظهره مواجه لي إلا أنني كنت متأكدا انه هو يوسف سالم.
    صوته الذي يملأ عقلي جعل جسمي يرتجف من الحيرة...
    قال الرجل:
    - لقد حاولت أن أنسى.
    بدا واضحا انه يناشد شخصا آخر لا أراه. قال الرجل:
    - حاولت جاهدا أن أنسى.
    اختفى الصوت والصورة كلية...
    واستيقظت لأجد أن الطوافة قد هبطت على الأرض وما زالت مروحتها تدور بصوتها المزعج. وأضواء تنطلق من الطوافة كاشفة تفاصيل المكان..
    كان محمود يقف خارج الطوافة أمام مجموعة من الجنود كأنه ضابط يلقي تعليماته لفرقته. من خلال جهاز اللاسلكي عرفت أن قائدهم يدعى كمال واستمعت باهتمام آملا أني لم يغب عني من المعلومات الشئ الكثير.
    قال كمال:
    - ان هؤلاء الجنود من فرق الاستطلاع وهم يساندوننا في مهمتنا هذه.
    نظر باهتمام إلى رجاله وبدا وكأنه سيلقي قولا ثقيلا أو أمرا غير مريح فقال:
    - سيكونون في المكان المحدد.
    قالها وهو يعلم انه رجاله لن يوافقوا على قراره ثم أكمل جملته قائلا:
    - مهمتهم هي تقييم طبيعة التهديد ومهمتنا هي الحفاظ عليهم أحياء.
    وأشار كمال إلى كل منهم قائلا:
    - لا تشتبكوا مع العدو، وتذكروا أننا لا نواجه أشرارا اعتياديين.
    هز رجاله رؤوسهم وقد فهموا الأمر الموجه إليهم....
    وضع كمال يديه خلف ظهره راضيا ومستعدا لمناقشة التفاصيل الدقيقة للمهمة. قال كمال:
    - الفريق الأول سيتحرك من الجنوب الغربي والفريق الثاني من الشمال. وبعد انتهاء المهمة سنجتمع مرة ثانية في انتظار الأوامر الجديدة.
    شعر كمال بالراحة بعد انتهاء الملخص الذي ألقاه. ثم هتف بجنوده طالبا إياهم بالتحرك. وتحرك محمود إلى طوافة أخرى ولكنه لم ينس أن ينظر باتجاهي قبل أن يختفي بعيدا.

    وحلقت الطوافتان بعد أن ركب كل فريق في طوافته المخصصة له. تم التأكد من جاهزية الأسلحة وكفاية الذخائر وأعطيت مدفعا رشاشا إضافة إلى مسدسي الذي لا غنى لي عنه.
    وضعت المدفع الرشاش في حضني ونظرت إلى باقي أعضاء الفريق. كان اثنان منهما يلقيان النكت ويتبادلان الأحاديث الطريفة عن المهمات السابقة التي شاركا بها. تنهدت لأني اعلم أن هذه المهمة لم تمر عليهما من قبل وستكون تجربة جديدة لهما الله وحده أعلم بنتائجها.
    دعوت الله أن لا نلتقي بهؤلاء الجنود المستنسخين الخارقين على الرغم من أنني قد شاهدت منظرا لأحدهم، وعلمت مكانته القيادية وعرفت من طريقة إمساكه بالسلاح وشعوره بالراحة لذلك أن هذه القوة من الجنود المستنسخين لن يكون من السهل التغلب عليها.
    دارت الطائرة حول مكان الهبوط بالقرب من معمل معالجة المياه العادمة. في هذه المنطقة تم رصد مجموعة كبيرة من الجنود المستنسخين عن طريق قمر اصطناعي ما زال يدور في مداره. ومن المتوقع أن يكون عاصم مراد موجودا هنا. وهذه فرصتي للانتقام منه.
    أردت أن اعرف لماذا ولكن فقدان التركيز سوف يؤدي إلى نتائج وخيمة ويسبب فوضى عارمة لذلك آثرت التركيز على المهمة والاحتفاظ بهدوء أعصابي.
    - لقد وصلنا إلى مكان الهبوط.
    صرخ احد الجنود بهذه الجملة بينما كنا نقترب من باب الطوافة. أمسكت بالحبل وربطته في حزامي وشددته كي أتأكد من تحمله لثقلي وهززت رأسي معلنا أن الوضع آمن بالنسبة لي. صرخ ذلك الجندي قبل أن يقفز بالطائرة قائلا:
    - لنقضي على ذلك المأفون وجماعته.
    تنهدت متأملا أن تكون طبيعته المندفعة لن تكون ذريعة في منع رصاصة من إصابة رأسه. تبعته وهبطت بسلام على الأرض بينما كانت إحدى يدي ممسكة بالسلاح والأخرى ممسكة بالحبل الذي انزلق عليه.
    ما إن لمست رجلاي الأرض حتى وقفت بثبات وجالت عيناي في المكان تتفحص كل جزء فيه. كانت الطوافة قد أقلعت واختفت عن الأنظار وقد تركتني مع الفريق وحدنا. كنا مستعدون للحركة. رفعت سلاحي إيذانا ببدء الهجوم.

  6. #6
    الفصل الرابع


    قال قائد القوة المهاجمة التي رافقتني مخاطبا كمال عبر جهاز اللاسلكي:
    - نحن في الموقع المطلوب.
    قال كمال:
    - تقدموا ناحية الهدف الأول.
    كنا أربعة أشخاص. تحركنا بسرعة من منطقة الهبوط متجهين إلى البوابة الرئيسية. جلت بنظري في المكان قبل الدخول فرأيت مجموعة كبيرة من الحاويات مرتبة في صفوف غير منتظمة. وجميع الحاويات ذات لون واحد كئيب.
    كانت تبدو كأنها تماثيل منسية فسد لونها بسبب سقوط طلائها عنها.
    كنت آمل أن لا يكون احد هؤلاء المستنسخين مختبئا ثم يهاجمنا من حيث لا نتوقع/ لذلك قبضت على مدفعي الرشاش بقوة وحزم.
    اعترضت البوابة تقدمنا...
    كان القفل الالكتروني يظهر انه لم تحدث محاولة لفتح البوابة من قبل. ولكننا لم نعرف كيف نفتحها. لا بد من وجود وسيلة.
    وقف قائد الفريق مواجها لي وكسر جدار الصمت قائلا:
    - عليك أن تبحث لنا عن وسيلة لدخول المبنى. أردت أن أرسل احد جنودي ولكن الأمر يحتاج إلى متخصص مثلك.
    شعرت بالغيظ بسبب لهجته الساخرة ... عبست في وجهه ولكن لم اقل شيئا..
    تذكرت محمودا ليس بسبب تلك اللهجة الساهرة التي نطق بها قائد الفريق ولكن بسبب أن فريق المطاردة والتتبع الذي اعتبر أنا احد أعضائه لا أحد يهتم بأمره بجدية، ولقد صدق محمود في ذلك..
    هززت رأسي ثم نظرت إلى البوابة. كان هناك سلك طويل يمتد حتى المبنى المجاور وغرفة لها نافذة تطل على البوابة والمنطقة الحيطة بها. استطعت استنتاج أين تقع أزرار التحكم بالبوابة. مررت بين حاويتين كي اشق طريقي إلى الداخل...
    كان رفيقي هو الصمت الذي يرافقني أثناء سيري وأنا أفضل هذا...
    نحن الثنائي القاتل!
    سرت مع بجانب حائط المباني حتى وصلى إلى مجموعة من السلالم الصدئة تؤدي إلى مدخل. تقدمت ببطء وهدوء بينما لم يكن من صوت في المكان سوى خطواتي أثناء صعودي على السلم المعدني...
    وصلت إلى الباب...
    وبحركة مرنة دخلت إلى الغرفة بينما عيناي تراقبان كل الغرفة خشية أن يكون احدهم في الداخل...
    أخرجت الهواء المحبوس في صدري عندما أدركت أنني وحيد مرة أخرى.
    وصلت إلى ممر معدني يطل على مستودع من نوع آخر.
    كان الضوء منخفضا والقتامة تملأ المكان، وذرات الغبار المعلقة في الهواء تعطي شعورا بعدم الراحة...
    كانت المستودع يضم رفوفا معدنية تكدست تحتها الأقفاص والصناديق...
    تأملت محتويات المستودع بينما كنت اشق طريقي بينها لأصل إلى ممر آخر سرت فيه حتى نهايته واستدرت يمينا لأجد نفسي في تلك الغرفة التي بها النافذة والتي رأيتها عندما كنت أقف أمام البوابة. شعرت بالرضا نتيجة لذلك وأدركت انه ما زال هناك أمل في إظهار مهاراتي...
    كانت هذه الغرفة تحتوي على أجهزة التحكم في البوابة...
    كنت أرى الرافعة التي تتحكم بالبوابة...
    دخلت الغرفة كي أحركها ولكن توقفت وقد غمرني شعور بالرعب...
    رأيت احد عمال الميناء قتيلا ووجهه إلى الأسفل وقد غرق في بركة من دمائه غطت مساحة كبيرة من المكان وعلى الجدران بقع من الدماء...
    هبطت على ركبتي لأتفحص الجثة بعدها أمسكت سلاحي وتجهزت لإطلاق النار على جندي مستنسخ يحمل مدفعا أو قنابل يدوية في الساحة ولكن يكن هناك سوى رفيقاي الصمت والفراغ.
    كنت أرى البوابة في الأسفل ، وقد اختفى فريق الاقتحام في الظل استعدادا للدخول عند فتح البوابة. جذبت الرافعة بيدي ونظرت من النافذة فرأيت البوابة وهي تنزلق كاشفة الطريق أمامهم. راقبت تقدمهم من مكاني العالي وهم يدخلون أمام إحدى الحاويات. رفع أفراد الفريق أبصارهم إلى مكاني ورأوني وأشاروا إلي إشارة تدل على إعجابهم بنجاحي ورددت عليهم بتلويح من يدي. ومن خلال السماعة الملصقة على أذني سمعت صوت قائد الفريق يقول لي:
    - أحسنت. عمل جيد. لنتقدم إلى الأمام.
    نظرت نظرة أخيرة متفحصة للجثة الملقاة أمامي وأنا أفكر بالمغادرة. للحظة حاولت تخيل كيف قتل هذا الرجل. يبدو أن الرجل لم ينتبه إلى عاصم مراد أو احد جنوده المستنسخين وهو يهاجمه من الخلف لتوجيه ضربة قاتلة. ضممت قبضتي وعدت إلى الممر.
    وما ان فعلت ذلك حتى سمعت صوت قائد الفريق يصيح قائلا:
    - ما هذا؟
    كان صوته يحمل نبرة رعب كبير، ولم أكن متأكدا بأن أحمل هذه الصرخة على محمل الجد.
    طلقت نارية شقت جدار الصمت بسكين. نأت آثار الشك من عقلي على صوت تلك الرصاصة وسارعت بخطوات قوية سائرا على طول الممر ومن ثم إلى الممر المعدني. اندفعت عبر الباب وخرجت من المبنى...
    كانت الصرخات تصعد إلى أذني من خلال السماعة بينما كنت اهبط السلالم الخارجية. كنت مستعدا لإطلاق سلاحي على أي شئ غير مألوف يتحرك. ولكن عندما وصلت إلى الدرجة الأخيرة ورفعت سلاحي استعدادا لإطلاقه، كان الصمت قد ألقى غطاءه مرة أخرى على المكان وهدأ كل شئ.
    كل شئ.
    ماذا حدث؟
    ولم هذه الصرخات؟
    بل أين هم؟ ومن فعل بهم ذلك؟
    حتى جهاز الاتصال لم يعد ينقل تلك الصرخات وصمت هو الآخر...
    عاد لي رفيقاي مرة أخرى...
    الصمت والسكون...
    وفجأة سمعت صوت محمود يصرخ عبر جهاز الاتصال قائلا:
    - أنا افقد إشارتك! التق بمحمود! التق بمحمود!
    وصمت كل شئ...
    ما الذي يحدث؟
    لا تسألوني فلا إجابة لي.
    لو كنت اعرف لما سألت...
    توقفت مكاني وأنا أحاول التقط أنفاسي في هذا الجو القارس البرودة...
    كل شئ ساكن..
    لا حركة على الإطلاق في المكان...
    أين هم؟
    وقفت قريبا من إحدى الحاويات وقد غمرني ظلها تماما...
    بحذر شديد شرعت في الاقتراب من البوابة متجها إلى آخر موقع للفريق...
    رأيت الدماء تسيل على الأرض قبل أن أرى جثثهم...
    كانت الدماء تسير في شقوق الأرض وكأنها أنهار صغيرة...
    وعندما نظرت إلى جثثهم كان ما رأيته مروعا بحق...
    كانت ثلاث هياكل عظمية بدون ثياب أو حتى لحوم!
    فقط عظام...
    ولكن من فعل هذه الجريمة؟
    والسؤال الأهم: كيف حدث ذلك؟
    من له القدرة على إزالة اللحوم والجلود بهذه السرعة؟ ولماذا فعل ذلك؟
    خرجت من مكمني المظلل وحركت سلاحي في جميع أرجاء المكان...
    شعرت بالسعادة والرضا عندما لم أجد أحدا من الأعداء...
    دخلت من البوابة متجها إلى موقع الجثث كي أرى ماذا حدث.
    بينما كنت أقترب من الموقع تخيلت كيف حدث القتل...
    وتساءلت عن معاناتهم التي بدت واضحة على وجوههم ورعبهم الذي دفعهم إلى إطلاق النار على لا شئ بينما كانت جلودهم تذوب...
    بينما كنت أفكر فيما رأيته في خيالي، لمحت جسما يتحرك...
    كانت طفلة شاحبة الوجه ترتدي رداء أحمر اللون...
    هل هناك شبح آخر يقيم في هذا المكان؟
    أو أنها مجرد صورة تخيلتها؟؟
    اختلط الأمر علي ولم اعد اعرف الحقيقة من الخيال...
    تمنيت أن لا يكونوا أحد ضحايا عاصم مراد وطردت الفكرة كلها من رأسي...
    كان لزاما أن أجد محمودا وفريقه مع أمل أن لا يكونوا قد صادفوا مصيرا مثل هؤلاء الثلاثة.
    برز ضوء ضعيف من مكان ما وتذكرت حساسيتي وضعفي...
    عبرت الفناء مسرعا ووجدت بابا مفتوحا يؤدي إلى داخل المجمع...
    انطلقت إلى داخل المبنى فوجدت نفسي في غرفة بها خزانات في صف طويل...
    كان هناك عامل آخر من عمال الميناء في انتظاري...
    اعتقدته ميتا ولكن عندما اقتربت منه وجدته يحاول جاهدا أن يمد يده ناحيتي متمسكا بأي أمل...
    كان الرجل يقول وهو يحاول التقاط أنفاسه مع السعال العنيف الذي ينتابه...
    قال الرجل:
    - لقد بدءوا إطلاق النار...
    تحولت الكلمات إلى همهمة مع سعال والرجل يلهث وقد بدأت الدماء تخرج منه...
    - النجدة!
    قالها متوسلا قبل أن يسقط على الأرض وقد تكونت حوله بركة من الدماء...
    لقد مات الرجل...
    غضبت كثيرا...
    وفجأة غمر صوت جديد المكان قائلا:
    - إلى القيادة. تم التخلص من جميع المدنيين!
    كررها الصوت أكثر من مرة...
    كان الصوت لأحد الجنود المستنسخين والصوت الذي أجابه هو نفسه!
    اتكأت بحذر على ركن الغرفة وقد اختبأت جيدا خلف صندوق كبير لا اعلم ماذا يحتوي في داخله...
    كنت انظر إلى مستودع آخر والصناديق تغطي الجدران....
    كان احد الجنود المستنسخين يقف منتفخ الأوداج بعد أن نفذ جريمته بقتل عامل المرجل الذي يرتدي لباسا برتقالي اللون!
    وجهت سلاحي إلى ذلك الجندي ونظرت إليه من خلال المنظار على سلاحي وضغطت الزناد بخفة فانطلق سيل من الرصاص أصاب الجندي في ظهره. سقط سلاح الجندي ولم يلبث أن هوى إلى الأرض الصلبة الباردة.
    كان هذا جنديا واحدا...
    ولكن صوت تدافع الأقدام وتعبئة السلاح قد أعطتني إحساسا أنني مقبل على وضع عدائي ليس بالسهل...
    فأنا وحيد في مواجهة هؤلاء المستنسخين ولا أعرف عددهم على وجه التحديد وليس هناك إمكانية لطلب تعزيزات..
    سمعت صوتا يأمر احد هؤلاء الجنود بمعرفة ماذا حدث. كان صوت خطوات ذلك الجندي وهو يقترب من مكاني ينبئ عن مواجهة قوية لذلك تقدمت أكثر..
    قفزت من مكاني كقط وجد فريسته لم يكن ذلك الجندي منتبها...
    فوجئ بوقوفي أمامه ولكنه من المفاجأة لم يستطع إطلاق النار علي وسبب آخر لأنني بادرته بإطلاق النار عليه وعلى المنطقة حوله فأعاقته تلك الطلقات عن التصرف كما يجب وانتهزت أنا الفرصة بإطلاق النار على رأسه..
    شقت الرصاصة خوذته من الأمام إلى نصفين واخترقت الرصاصة جبهته فخر صريعا لا يلوي على شئ...
    تنفست الصعداء بعد مقتله...
    استبدلت خزنة الطلقات المليئة بالفارغة وتنفست بعمق.

  7. #7
    الفصل الخامس

    كانت الجثتان ممدتين على الأرض...
    شعرت بالذنب فقد ارتكبت جريمتي قتل...
    ولكن تدريبي وغريزتي منعاني من الاستمرار بالشعور بالذنب والخوف الذين استحوذا على تفكيري...
    فتشت الجثتين وأخذت ما بقي من خزائن الطلقات في ثيابهما وسلاحيهما وأودعتها في حزامي. وكنت على حذر تام من أن يأتي أحد الجنود المستنسخين من الممر في نهاية الجزء البعيد من المخزن...
    لم أتعاطف مع هذين القتيلين...
    صدمت عندما جلت في أفكاري وتساءلت: كيف أشعر بالرضا على الرغم من قتلي إياهما؟ عاصم مراد سيعرف لا محالة انه اتصاله بهذين الجنديين قد انقطع.
    انه يعلم أنني قادم من أجله. أتوق إلى اللحظة التي تلتقي عيني بعينيه، على الرغم من شعوري بالذنب لقتله جنوده، وأقدمه للعدالة بطلقة بين عينيه.
    تحركت من مكاني حتى لا أضيع الكثير من الوقت فيما لا طائل منه..
    ظللت أسير محاولا أن أكون مختفيا قدر الإمكان حتى غادرت المخزن. وجدت مكتبا مفتوح الباب جزئيا. أطللت برأسي إلى داخل الغرفة فوجدت منظرا عاديا لأي مكتب في الدنيا: كرسي مطوي تحت المكتب ولوحة مثبتة على الحائط وأشياء أخرى كثيرة موضوعة على رفوف.
    هززت رأسي وتنهدت الصعداء أنني لم أجد أحدا فيها.
    اتجهت إلى غرفة مجاورة فخيل لي أنني أسمع صوت قطرات تسقط داخلها. اقتربت من المكان الذي أعتقد ان الصوت يأتي منه، وعند ركن الغرفة وجدت شرفة فوقي وجثة عامل ميناء آخر مقتول وقد تدلت رجله من بين قوائم الشرفة الحديدة ودماؤه تنزف من جرح مجهول المكان وتسيل على قدمه ثم تتساقط على بركة الدماء تحته.
    توترت أعصابي ولكني احتفظت برباطة جأشي..
    هل سأواجه احد هؤلاء المستنسخين مرة أخرى؟ أم أواجه عاصم مراد نفسه؟
    وما كدت أرفع سلاحي استعدادا للخطر حتى حدث أمر عجيب..
    تدحرجت الجثة من مكانها وسقطت على الأرض أمامي...
    لم يكن احد هناك...
    فقط وجه بارد لصاحبه الميت ينظر إلي...
    وهذا أوقد في داخلي شعلة العزم والتصميم على إيقاف هذه المجازر...

    رأيت مجموعة من السلالم تؤدي إلى الطابق الثاني ولكني لم أبال بالصعود إلى فوق لاقتناعي أن الممر والمخزن والغرفة المجاورة له خالية من الأعداء. وهنا باب مزدوج قد يشكل مخرجا مناسبا للبحث عن محمود ورفاقه..
    ولكن هل هم ما زالوا أحياء؟
    لا تسألوني..
    ولكن حسام طلب مني أن اذهب لمقابلة محمود فهو ما زال حيا...
    ولكن السؤال: إلى متى؟ هل سيبقى حيا حتى أجده وألتقيه؟
    لم أسمع أي شئ عن طريق السماعة في أذني...
    تمنيت لو أنهم مختبئون خلف ساتر قوي يخفي وجودهم في انتظار مقدمي عليهم.
    عبرت الباب المزدوج فوجدت نفسي في الخارج مرة أخرى في زقاق بين مبنيين.
    الجو يزداد برودة والهواء الناتج من زفيري يتكاثف أمامي متراقصا مع هبات النسيم الباردة. تنفست بعمق كي أزيل التوتر في داخلي. شعرت بالخوف عندما اعترض طريقي سياج متين وخلفه رأيت بابا يؤدي إلى مبنى مجاور. جالت عيناي في المكان لاحظت نافذة ذات إطار نافر تؤدي إلى إفريز صغير في الطابق الثاني في المبنى نفسه الذي غادرته توا. وجدت أن هذا الإفريز مناسب أن استخدمه كقاعدة لقفزة رشيقة انتقل بها خلف السياج الخشبي. ابتسمت لهذه الفكرة ثم عدت أدراجي إلى الداخل.

    اندفعت مسرعا على السلالم التي تؤدي إلى الطابق الثاني. وتوقفت عندما حطت رجلي على الدرجة الأخيرة. وحركت سلاحي في كافة الاتجاهات خوفا من بوادر تحركات الأعداء المفاجئة ولكن الصمت ما زال يلف المكان ويرافقه الفراغ. لم يكن هناك أحد أمامي.
    فلأكن على حذر.
    مكتب آخر ذو نوافذ على بعد أمتار قليلة من الشرفة. والمكتب يبدو وكأنه لم يمس على الرغم من عنف الإحداث التي حصلت هنا مثل مشهد متجمد في وقت قبل أن تتصاعد هذه الحالة المروعة بشكل كبير وتخرج عن نطاق السيطرة. لم التفت إليه كثيرا بعد أن قررت انه من الأفضل عدم العبث بمحتوياته وأنا سعيد لوجود جزء من هذا المبنى ما زال لم يعرف الموت له طريقا إليه. والنافذة ذات الإطار والتي رأيتها من الخارج موجودة عند الركن هناك, وشرعت في إزاحة الخشب المتعفن برأس حذائي. انشق الخشب بسهولة وتبعثر على الأرض خارجا فسمح لي ذلك أن أتسلق بحذر على الإفريز الصغير. تأوهت وعندما حاولت بصعوبة التوازن على السطح المائل للإفريز. كان الإفريز المعدني زلقا بسبب الأمطار الأخيرة وهذا يجعل كل خطوة أخطوها محفوفة بالمخاطر. ظللت منحنيا وأنا أشق طريقي بصعوبة محاولا التوازن حتى وصلت إلى نهاية الإفريز. وبقفزة مدروسة قفزت فوق السياج ثنيت ركبي وتدحرجت على الحصى الصغير كي امتص صدمة الهبوط. نهضت من سقطتي ونظفت ثيابي من الغبار واستعددت بسلاحي. كان المكان خاليا ولا أثر لأي حياة.

    الحمد لله لأن الباب أمامي لم يكون مقفلا. فتحته وعبرته وأنا ما زلت منحنيا فكشف لي هذا ممرا طويلا أمامي. هذا المجمع يصيبني بالكآبة والظلام الدامس مع الرطوبة سلاح يرفعه في وجهي كلما حاولت البحث عن الحقيقة. وهذا أمر يضايقني ويخنقني خاصة مع وجود الجدران الرمادية اللون ذات الشقوق والتصدعات التي أدت إلى تساقط طلائها. أغلق الباب خلفي وبدأت مسيري جاعلا الممر أمامي لا يغيب عن عيني. سمعت صوت طقطقة في مكبر للصوت، ثم سمعت صوتا مألوفا لأحد الجنود المستنسخين قد ملأ الممر ووصل إلى أذناي يقول:
    - إلى جميع الوحدات. انتبهوا! الجندي (ص-1) لا يستجيب.
    حاولت الابتسام ولكن الابتسامة اختفت بسرعة.
    توقعت أن أجد المكان وقد امتلأ بالجنود المستنسخين ولكني لم أر غير الاثنين الذين قتلتهما بغير داع.
    أكره القتل ولكني قتلتهما بدافع حماية نفسي..
    ولكن هل كنت في خطر فعلا وقتها حتى ألجأ للقتل؟
    توقفت عن التفكير ولم أسمح للشعور بالذنب أن يسيطر علي بشكل يفسد مهمتي.
    أسرعت بعبور الممر متسللا فوجدت نفسي في مستودع آخر تكدست فيه الحاويات الكبيرة والصناديق والعلب. كان هناك جنديين يحرسان مدخلا بابه من النوع الذي ينزلق والباب يؤدي إلى ساحة مفتوحة. نجحت في الوصول إلى الحاوية خلفهما. لم يدرك الجنديان الخطر المترصد لهما من خلفهما. وقفت على قدمي وتقدمت ناحيتهما بثقة وعجرفة. استدار أحدهما ناحيتي بعد أن سمع صوت خطواتي ولكن دفعتني غريزة حب البقاء إلى التصرف بسرعة. تحركت أصابعي بشكل غريزي واستجبت للتهديد الذي يشكله هذا الجندي لي. ألقيت قطعا معدنية عليه فأصابت وركه وجذعه وسقط على الأرض غارقا في دمائه وهو يصرخ لما أصابه من أذى. ولكن أسكت صراخه بطلقة من سلاحي. ولكن الجندي الآخر اختبأ خلف قفص كبير ليتجنب النيران التي أطلقها. ولكن أصوات الأقدام الثقيلة المتسارعة المقتربة أوحت لي بأن التعزيزات في طريقها إلى المكان. حذت حذوه واختبأت بدوري خلف صندوق كبير. وبدأ صوت طلقات الرصاص يرتفع في المكان عاليا. كان الشرر المتصاعد من ارتطام طلقات الرصاص بالمعدن يملأ المكان ويدور كراقص باليه محترف. أطلقت نفسي وكأنني كنت قد حبسته لساعات عدة وخرجت من مكمني كي أشتبك معهم. ظهر جندي آخر من الجهة البعيدة من المستودع وبدأ في إطلاق النار تجاهي. انحنيت جانبا بينما كان الرصاص يشق الهواء من حولي. بينما كنت اشعر باللهيب الساخن الذي سببه احتكاك طلقات الرصاص مع الهواء لهثت ورددت أنا بدوري بوابل من الطلقات. كان حركته سريعة ولكني كنت كالبرق مقارنة به فلم يلبث أن فارق الحياة. وظهر جندي آخر وشرع في إطلاق النار بجنون. تأوهت عندما شقت إحدى الرصاصات كتفي وأصابتني بجرح. تمايلت إلى الخلف بينما توجهت مجموعة أخرى من الرصاصات إلى صدري مباشرة. كنت أكاد اسمع نبض قلبي العنيف في أذني. وانتابني شعور قوي باليأس تفجر في أعصابي وتخلل عروقي ويسير مع دمائي. وسيطر هذا الشعور على أحاسيسي بدلا من الشك والتركيز القاتل. انطلقت إلى مكان تواجده خلال عاصفة من الطلقات ولم أكن مباليا لكل ألم ينتابني ويمنعني من التقدم أو تفادي الطلقات والبقاء على قيد الحياة. تمكنت من إزاحة الأفكار اليائسة جانبا. أصدر سلاح الجندي صوتا يدل على انتهاء خزانته من الطلقات ورأيته يسقط الخزنة الفارغة ويلتقط أخرى كيف يشحن بها سلاحه ولكن هذه العملية استغرقت وقتا كان كافيا لي أن أهاجمه وأطلق قبضتي بضربات قوية على وجهه. كان الغضب مسيطرا علي فلم اتركه إلا كومة من اللحم المفري وتركته يسقط على الأرض. التقطت جميع خزنات الطلقات من ملابس الجندي واعتبرتها غنيمة حرب لي. خرجت من ذلك المكان. كان الجو قاسيا من البرودة ولكني مع ذلك شعرت بالراحة. أطفأت برودة الجو الحرارة المشتعلة داخلي. آلمني كتفي بينما كانت الدماء تسيل منه انهارا. السترة الواقية للرصاص منعت اختراق الطلقات إلى داخل صدري ولكنها لم تمنع الجروح من إصابتي. وقد تأذت ضلوعي نتيجة لذلك وها هي تصرخ من الألم. التقطت أنفاسي واستجمعت أفكاري. وحتى الآن لم اسمع من محمود أو حتى عاصم مراد فلقد كنت آمل أن يكون السبب هو تداخل الإشارات اللاسلكية. طال انتظاري إلى سماع أصوات ساخرة تصدر من خلال سماعة أذني تسألني لم استغرقت كل هذا الوقت. ولكن الجهاز بقي صامتا.
    لم يكن هناك ما يشير إلى سبب مقتل فرقتي. وطرأت صورة الطفلة ذات الرداء الأحمر في عقلي وتمنيت أنها لم تكن ضحية أخرى لعاصم مراد. واصلت طريقي وقد تحولت الخطوات المتكبرة إلى خطوات زاحفة لا تكاد أسمع صوتها. ظللت أتحرك بجانب الحاويات الضخمة كي أكون مختفيا في ظلالها.

    ها هو المبنى الأخير أمامي وهي النقطة المفترضة التي سيتسلل محمود ورفاقه من خلالها كي ألتقي بهم. ظللت إيجابيا مؤكدا لنفسي أنني سأجدهم بخير عند دخولي المبنى يتحدثون فيما بينهم ومستعدون للهجوم والقضاء على عاصم مراد. ومن مكاني المظلل الخفي اندفعت إلى المبنى وتسللت إلى داخله.

    كان المكان مألوفا بالنسبة لي. فلقد شاهدته كثيرا اليوم. باب أسمر اللون يقود إلى مستودع جدرانه رمادية اللون. وقفت عند عتبة الباب. كان المستودع خاليا من أي أثر للجنود المستنسخين ولم أسمع أصوات أحذيتهم الثقيلة. ومع ذلك بقيت صامتا وحذرا في الوقت نفسه أتوق إلى سماع إشارة تدل على حركة ما. رأيت في داخل المستودع رفوفا معدنية حمراء اللون كبيرة الحجم تبدو كأنها جسور فوق رأسي وظلالها مطروحة على الأرض في هذا الضوء الخافت.

    عبرت المستودع ولم أفعل ما كنت أفعله كل مرة من فحص لمحتويات الصناديق والعلب، بل ركزت انتباهي كله على الباب في نهاية المستودع . وأحسست بنوع من السعادة عندما سمعت صوتا مألوفا اأحد الجنود المستنسخين وهو يقول بلهجته الصارمة الموحدة:
    - (ص-6) لقد وصلنا إلى العلامة الأولى.
    مددت يدي الى جيبي والتقطت إحدى القنابل اليدوية واقتربت من الباب حذرا.
    هناك مواجهة قادمة مع أمل بأنها ستكون المواجهة الاخيرة قبل أن ألتقي بمحمود ورفاقه أو حتى عاصم مراد.

  8. #8
    الفصل السادس

    كنت مختبئا في الظلام خلف الباب وبيدي القنبلة مستعد لنزع فتيلها عند ظهور أول بادرة هجوم من هؤلاء الجنود. أستطيع أن أسمع صوت وقع أقدامهم قريبا من الركن في نهاية الممر. بعضهم كان يمشي متثاقلا وآخرون يجهزون أسلحتهم للاشتباك. على الرغم من أنني لم أر مجموعة الجنود، إلا أنني استطعت تكوين فكرة دقيقة عنهم بكافة تفاصيلها بناء على ما لدي من معلومات. كانت المجموعة من ثلاثة جنود متحفزين. راجعت خطتي للهجوم عليهم. ولكن عاد كتفي يؤلمني بسبب إصابتي السابقة وهذا دفعني إلى تغيير خطة الهجوم إلى فكرة أكثر ذكاء. خرجت من مكمني واتجهت إلى غرفة مجاورة. كنت منحيا وحذرا محاولا أن لا يراني أحد. سررت أن استنتاجي كان صحيحا. فقد كان هناك جنديين في الطرق البعيد من الغرفة يتحاوران بشكل هامس والجندي الثالث كان يسير كأنه يحرسهما في خطوات ثابتة يروح ويجئ مقتربا من مكاني. انتظرت حتى أصبح ظهره في موجهتي وابتدأت أنا الهجوم.

    وبدقة متناهية وسرعة ألقيت القنبلة. ارتطمت القنبلة بالأرض وتدحرجت باتجاه الجندي الذي يسير. وما إن انتبه هذا الجندي للقنبلة حتى ألقى بنفسه ناحيتها. عدت من فوري إلى المكان الذي كنت فيه مختبئا. سمعت صوت احد الجنود وهو يقول لزميله:
    - احضر القنابل.
    ولكن لم اسمع ما قاله بعدها لان القنبلة اليدوية قد انفجرت وأطاحت بالجندي. كان الانفجار قويا زلزل الأرض وجعل الغبار وقطعا صغيرة من السقف تسقط أرضا. تراقصت الأنوار بفعل الانفجار لفترة قصيرة وسمعت صوت احد الجنود يصرخ: ل
    - لقد سقط جندي آخر.
    هذا هو التأكيد الذي كنت أود أن أسمعه. جهزت نفسي لاشتباك آخر.
    خرجت من مكمني متجها إلى قسم مدمر. يبدو أن تأثير الانفجار اكبر مما توقعت. كان الغبار المعلق في الهواء يملأ المكان ويجعل الرؤية تقريبا مستحيلة. أطلقت مدفعي الرشاش خلال هذا الغبار بدون تحديد هدف معين آملا في سقوط احد هؤلاء المستنسخين.

    لكن من خلف تلك الغيمة من الغبار انطلقت رصاصات تشق الهواء باتجاهي قادمة من هؤلاء المستنسخين. اختبأت خلف عمود في الطرف البعيد من الغرفة اتقاء لطلقاتهم العشوائية. ورددت عليهم بشكل عشوائي ولكن لم أسمع سقوط أحدهم على الأرض.

    التقطت خزانة طلقات جديدة من حزامي وألقمت سلاحي كي أستمر في المواجهة...
    سمعت صوت أحد الجنود يصرخ:
    - تحركوا باتجاهه!
    أطاع الجنود الأمر الصادر إليهم واتجهوا ناحيتي خلال الغبار. وأمامي الآن هدف سهل. خرجت من خلف العمود ووجهت ناحيته وأطلقت سلاحي. لم أبخل عليه بطلقات أصابت معدته وصدره. سالت الدماء من فمه وانحنى إلى الأمام ورأسه يتحرك بشكل غير منتظم بينما كان يحاول الاحتفاظ بتوازنه. ولكنه لم يصمد كثيرا فسقط أرضا. بدأت غيمة الغبار تخف تدريجيا مع استقرار حركة الهواء داخل الغرفة. وفجأة شقت مجموعة من الطلقات طريقها قريبا مني تنطلق من مكان مجهول. كان أحد الجنود مختبئا خلف ساتر يطلق النار من فوق صندوق ناحيتي. عدت إلى مخبأي خلف العمود وألقيت مدفعي الفارغ والتقطت مسدسي من غمده استعدادا للرد عليه بينما كان الجندي يقول بصوت يائس:
    - لقد أطاح بالمجموعة كلها.
    شعرت بالرضا من نبرة صوته وبالثقة تتصاعد في داخلي. أصابت مجموعة أخرى من الطلقات حائطا على بعد مسافة قصيرة مني قبل أن يعلن سلاح الرجل انه فرغ من الطلقات.
    ساد الصمت من جديد...
    تحركت حذرا ومسرعا...
    اقتربت من عدوي...
    بينما كانت عيناي تحاول شق الظلام...
    كان الجندي قد ألقم سلاحه بخزنة طلقات جديدة واستعد لإطلاقها علي ولكن أصابعي كانت الأسرع فأطلق باتجاه سلاحه مباشرة فتحطم إصبعه ولم يستطع جذب الزناد.
    تخيلت الدهشة على وجهه من المفاجأة...
    وتخيلت ازديادها عندما أطلقت طلقتي الثانية باتجاهه.
    سمعت صوت ارتطام جسده بالصندوق الذي كان يحتمي وراءه...
    سقطت على ركبتي وأنا ألتقط أنفاسي وأجول بعيني في المكان...
    لقد قتلت مجموعة منهم...
    مع أنني أكره القتل إلا أني اضطررت لذلك وهذا ما تعلمته من كبت مشاعري حين تنفيذ مهمة ما...
    ولكن لو أفقدتهم وعيهم فسينهضون لا محالة وأقع في كارثة لن تنتهي إلا بموتي...
    فليموتوا هم أما أنا فلا...
    الحياة غالية...
    ولكن إذا كانت الحياة غالية بالنسبة لي فلماذا أزهق أرواحهم؟
    منطق عجيب متناقض ولكن هذا ما تعلمته أن أضع أفكاري جانبا وأركز على المهمة التي كلفت بها مع إزالة جميع العوائق بأية وسيلة كانت.
    وهذا ما فعلته فعلا...

    كانت الجدران مليئة بالثقوب الناتجة من طلقات الرصاص...
    والدماء تغطي الجدران...
    أمر غريب...
    لا يوجد مكان أذهب إليه في هذا المبنى إلا وفيه دماء كثيرة..
    ماذا حدث هنا؟
    من المؤكد أنها مجزرة حقيقية...
    ولكن من ارتكبها ولماذا؟
    مرة أخرى تتدافع الأسئلة في رأسي ولكني ألقي بها جانبا...
    وفي الطرف القصي من الغرفة رأيت مكتبا له نافذة...
    لمحت علبة للإسعافات الأولية تركها الجنود المستنسخون خلفهم فأسرعت واقتحمت المكتب حذرا والتقطت العلبة...
    فتحتها وجرت عيناي على مكونات العلبة...
    ميزت حقنة مزيل الألم...
    التقطتها وغرزتها في أحد عروقي في يدي....
    أحسست بالسائل يدخل في جسمي ويتحرك مع دمي...
    بدأ الألم في كتفي بالزوال تدريجيا
    وعندما تلاشى تماما تنهدت وقد شعرت بالراحة...
    وجدت علبتين من الطلقات وسلاحا يشبه سلاحي على الرف...
    تناولتها ونظرت إلى الجنود القتلى ولم أجد أنهم بحاجة إليها...

    التقطت جهاز اللاسلكي وفكرت في الاتصال بمحمود ولكني لم أفعل. فالجنود الذي اشتبكت معهم منذ قليل ربما يكونوا ابلغوا زملاءهم وأي اتصال مع محمود قد يلتقطونه ويحددون مكاني أو يكمنون لي ويهجمون عندما يعرفون مسار حركتي....
    أعدت الجهاز إلى مكانه معتقد أن حسام سيتصل عندما يستعيد الإرسال، ولكن ذلك لم يرفع عني ما اشعر به من ضيق عندما لا يكلمني أحد إلا من يحاول قتلي.
    قادتني الغرفة الصغيرة إلى مخزن كبير به شرفتين كبيرتين تطلان من فوق وهناك حاويات تحت كل شرفة بعضها يعلو بعضا...
    وهناك رافعة تحمل حاوية تتأرجح في الهواء بشكل بسيط...
    راقبتها قليلا وأنا أضع فكرة للوصول إلى الشرفة الأخرى.
    كانت المسافة بينهما كبيرة ومن الصعب المخاطرة بقفزة جريئة..
    ولكن الحاوية المعلقة قد تسهل العملية إن تم تحريكها بالشكل المناسب.
    عبرت المخزن وصعدت الدرجات مسرعا وقادني هذا إلى الغرفة التي بها أجهزة تحكم الرافعة.
    ولكن فرحتي لم تتم عندما رأيت أن الباب الزجاجي لا يمكن تحريكه على الرغم من أنني بذلت كل جهدي في ذلك بسبب وجود مكتب معدني ثقيل الوزن. نظرت من خلال الباب فرأيت خيطا من الدم تابعته بنظري لأجد جثة عامل ميناء آخر قتله هؤلاء المستنسخون بدم بارد. تساءلت: إذا كان الدم هنا نتيجة مقتل هذا العامل المسكين، لماذا بقية الغرف التي بها دماء لا تحتوي على جثث؟ لماذا تركوا الجثة هنا وأزالوا الباقي إن كانوا هم الفاعلين؟ سؤال ليس له إجابة عندي الآن.
    كان المصباح الصغير فوق الهاتف يومض مما يدل على وجود رسالة غير مقروءة. وبجانب الهاتف لوحة تحكم اعتقد أنها للرافعة. رأيت ثقبا في الحائط يؤدي إلى منصة يمكن للعامل عليها ان يرى المخزن ويدير جميع العمليات من هناك. لسوء الحظ الوصول إلى هناك محفوف بالمخاطر لان ذلك يتطلب مني الزحف عبر الحاويات المتكدسة.
    أخذت نفسا عميقا واتجهت إلى الشرفة لأبدأ رحلتي عبر الحاويات أسفل مني. عندما وصلت إلى الشرفة ونظرت إلى الحاويات وجدتها ابعد مما كنت انظر إلى الشرفة وأنا في الأسفل، وقفزة واحدة غير محسوبة العواقب بها نهايتي. قفزت قفزة رشيقة وتعلقت بالدرابزين الحديدي وبجهد جهيد تمكنت من الصول إلى الفتحة وعبرت من خلالها إلى الغرفة ووصلت إلى المنصة. وتصبب عرقي وتنهدت معلنا شعوري بالراحة.

    اتجهت إلى الهاتف وضغطت الزر الأخضر. انبعث صوت آلي من شريط مسجل مسبقا يقول:
    - لديك رسالة جديدة.
    ثم سمعت بعدها صوت شاب يبدو صغير السن. كان صوته لطيفا وان لم يخل من نبرة شك. قال الرجل:
    - أنا حسن. لا أحد يعرف ما الذي يجري هنا. ولكنني سمعت أصواتا عالية وضجة كبيرة. هل سمعتم شيئا عندكم أيها الجنود؟
    ثم سمعت الصوت الآلي يعلن انتهاء الرسالة.

    شعرت بأن هذه الرسالة إنما هي طلقة في رأسي.
    هل كنت نائما واستيقظت الآن؟
    يا لها من صدمة...
    هل يعقل هذا؟
    هؤلاء الذين قتلوا من قبل المستنسخين هم عمال أبرياء.
    الأشخاص العاديون لا علاقة لهم بالأمر.
    ما هي الأفكار التي يمكن أن تأتي لشخص عادي عندما يرى ماسورة بندقية مصوبة إلى رأسه؟
    قررت عدم تحويل الأمر إلى مسألة شخصية.
    كانت لوحة تحكم الرافعة عبارة عن مقبض. حركت المقبض فانبعث صوت جرس...
    جفلت عندما شق صوته الصمت وحطمه كالزجاج...
    صدر صوت عن الرافعة ثم تحركت وتأرجحت الحاوية التي تحملها في الهواء.
    بينما ما زلت مكاني حركت المقبض إلى وضعه الأصلي فإذا بالحاوية تصنع جسرا يصل إلى الشرفة الموجودة في الجهة الأخرى من المستودع..
    ابتسمت لما فعلته وقررت البدء في الانتقال إلى الجهة الأخرى. ولكن ابتسامتي تلاشت عندما فتح الباب في الشرفة المقابلة وظهر أحد الجنود المستنسخين. وبدون تفكير تحركت أصابعي بشكل غريزي وأطلقت النار عليه. شقت الطلقات طريقها إلى صدره وارتطمت به دون هوادة. ترنح الجندي وبدا كأنه يرقص ولم يلبث أن سقط على وجهه فارتطم بالدرابزين وهوى أرضا. صرخ الرجل وهو يسقط قبل أن يسكته ارتطام رأسه بالأرض.
    وفرض السكون سطوته مرة أخرى على كل شئ.
    لم يظهر أي جندي فشرعت في الانتقال فوق الجسر الذي صنعته منذ قليل وقد خفضت رأسي خوفا من ظهور مفاجئ لأحد هؤلاء الجنود حتى وصلت إلى الجهة الأخرى.

    قادني بيت الدرج المظلم والطويل نزولا إلى الطابق الأرضي. وجدت ممرا طويلا فسرت فيه والصمت الغريب يلف المكان. وصلت إلى نهاية الممر واستدرت لأفاجأ بشئ هز كياني وصدمني بشدة..
    كان أمامي ممر طويل...
    وفي نهايته كان آخر شخص أتوقع وجوده هناك.
    انه محمود!
    غمرني شعور بالراحة فتنهدت.
    رفعت يدي ملوحا له بالتحية ولكنه سار في الممر مبتعدا لا يلوي على شئ حتى توارى عن الأنظار.
    ما هذا؟
    هناك شئ ما خطأ.
    ركضت عبر الممر واستدرت إلى ممر آخر ولكنه كان خاليا تماما ولا أثر لمحمود على الإطلاق.
    وبدون إنذار سمعت صوته يدوي عبر الممر قائلا:
    - هل هناك من أحد هنا؟
    لقد كان صوت محمود.
    لم أشك في ذلك لحظة فعرفت أنه قد مات.
    هززت رأسي رافضا الفكرة..
    سرت عبر الممر الخالي واستدرت عند نهايته متوقعا ما سوف أراه عندما دخلت في غرفة مخزن. ولكن خاب توقعي بل صدمت مما رأيت.
    كانت الدماء تملأ المكان كله!
    وأنا أعني كل كلمة...
    كل ما في المخزن عليه دماء حتى الجدران.
    وفي وسط المخزن جثتان أو بلفظ أدق هيكلان عظميان على الأرض. قتلا كما قتل زملائي من قبل.
    نظرت إلى الهيكلين والحيرة تملأ عقلي...
    ولكن مهلا!
    زملائي الذين دخلوا كانوا ثلاثة وأمامي هيكلان عظميان فقط ولا أثر لثالث. هل نجا محمود؟
    آمل أن تكون فكرتي عن مقتل محمود وهما لا أساس له من الصحة وأنه قد هرب وسيتصل بي في أية لحظة.
    وتردد في عقلي الصوت المألوف الذي يقول: "هل من أحد هنا"؟
    وعاد المكان إلى صمته الغريب.

    واستجمعت أفكاري. لقد هرب مني عاصم مراد مرة أخرى وكل من أُرسل لإيقافه مات. شعرت بالمسؤولية الملقاة على عاتقي.
    لم يبق غيري لإنجاز هذه المهمة..
    لقد صرت وحيدا في مواجهة عاصم مراد وزمرته...
    أجبرت نفسي على عبور الغرفة حتى وصلت إلى الدرج المعدني فارتقيته. نظرت نظرة أخيرة إلى الجثث ثم أبعدت الصورة عن عقلي. وجدت فجوة كبيرة أمامي وممر خلفها يؤدي إلى باب في الأسفل. هذا مهرب مثالي. وفكرت ما إذا كان محمود قد فكر بالطريقة نفسها هذا إن كان حيا. أعددت نفسي ثم قفزت قفزة بهلوانية جريئة وهبطت على أرض الممر بعد أن ثنيت ركبتي لامتصاص صدمة الارتطام بالأرض. وما إن لمست قدماي الأرض حتى تحول الممر إلى بركان ثائر واندفعت النيران باتجاهي عندما انفجرت قنبلة في نهاية الممر. جاهدت للاحتفاظ بتوازني للوقوف منتصب القامة. غطيت وجهي بيدي لاتقاء الحرارة عندما بدأ كل شئ يهدأ من حولي. اندفعت مبتعدا عن المكان عندما تطاير فوق رأسي قطع معدنية وخشبية. كانت أحاسيسي كلها متجهة لإيجاد مخرج مما أجابهه وقلبي ينبض بقوة حتى حسبته سيخرج من قفصي الصدري. أصبت بالرعب عندما نظرت من خلال ألسنة اللهب عندما رأيتها..
    نعم إنها هي
    الطفلة ذات الرداء الأحمر...
    تقف وسط جحيم النيران التي تدور حولها...
    كان وجهها عليه علامات الغضب الشديد...
    وإمارات التهديد...
    وشعرها الأسود الطويل ينساب على وجهها...
    كانت تسير ببطء متجهة ناحيتي...
    كل خطوة منها كانت تؤدي لانبعاث النيران من الجدران والسقف..
    نظرت إلى عينيها السوداويتين الخاليتين...
    كانت عيناها مرعبتين...
    لم أجرؤ حتى على سؤال نفسي من تكون هذه الطفلة...
    وفي لحظة تغلبت على خوفي واستردت وأطلقت ساقاي للريح مبتعدا عنها بينما كانت ألسنة اللهب تضرب قدماي والحرارة وأمواج الحرارة الشديدة تلفح ظهري.
    كان المخرج الوحيد أمامي من هذا الأمر هو هذه النافذة العالية...
    كنت في وضع لا أحسد عليه...
    كانت مسألة حياة أو موت.
    وبدون تفكير دفعت قدماي وجسمي إلى الأعلى وارتطمت بالنافذة فحطمت زجاجها وسقطت في الجهة الأخرى...
    كان الظلام دامسا ولم أر شيئا...

  9. #9
    الفصل السابع

    كنت في دوامة من ظلام لا متناه ولكنه مألوف...
    هل هذا غريب؟
    وكان منظر وجه الطفلة ذات الرداء الأحمر وهي بين السنة اللهب يحدق بي ساخرا لجهلي من تكون يضايقني. وقد حيرني بشدة ظهورها الغامض بهذه الطريقة الغريبة. بينما كنت أحاول قراءة وفهم تعابير وجهها الجامد، أطاح بهذه المحاولة صوت أنثوي رقيق دفع بهذه المحاولة إلى أعماق عقلي وجعلني أعود مرة ثانية إلى عالم الواقع ورمشت عيناي.
    "إنه ما زال حيا!"
    كانت فاتن من نطق هذه الجملة وهي تنحني على جسدي المنهك لتفحصني. تنهدت بعمق وشعرت بارتياح عندما التقت عيناي بعينيها الدافئتين للحظة وغمرني شعور بالسلام والاطمئنان. في تلك اللحظة بينما كنت بين الحياة والموت والألم مسيطر على جسدي كانت فاتن مثل ملاك في هذا الكابوس. كنت ملقى على ظهري وألسنة اللهب من الجحيم الذي فررت منه تتراقص أمام النافذة. سمعت صوت حسام واضحا وعاليا وهو يقول:
    - هل استدعي الإسعاف؟
    أجابته فاتن وهي تحرك رأسها دلالة على حيرتها:
    - لا يبدو أنه مصاب بشئ ولكن لا ادري كيف نجا.
    كانت تحرك رأسي كي تفحص عنقي بيديها الناعمتين.

    جاهدت في تحريك رجلي معتمدا على يداي المرتجفتين حتى وقفت على ركبتي ومن ثم تحاملت على نفسي لأنهض واقفا على قدمي. التقطت أنفاسي في هذا الجو البارد فانتعشت وقد استقر معدل ضربات قلبي. استعدت قوتي تدريجيا وقد تلاشى التوتر في داخلي. قال حسام:
    - يمكنك أن تقلق على ذلك فيما بعد. لقد التقطنا جهاز إرسال عاصم مراد قريبا جدا من هنا. عليك أن تذهب وتنهي أمره سريعا هذا المأفون.
    التقطت مسدسي وهززت رأسي بالموافقة. كان حلقي جافا ولكن أفعالي كانت أصدق إنباء مما تستطيع أن تقوله الكلمات. نسيت ما مررت به من تجربة الموت بعد أن صار هدفي هو أولويتي. بدأت المغادرة ولكن فاتن احتجت على ذلك قائلة:
    - لا يمكنك أن ترسله وحده. هذا جنون!
    لاحظت اهتمامها فنظرت إليها نظرة حنونة. ولكن حسام علق على كلامها قبل أن أنطق أنا قائلا:
    - إنه يستطيع تدبر أموره بنفسه. استمري بالبحث عن محمود فأنا التقط علامات حياته.
    غمرتني موجة جديدة من الإلحاح كون محمود ما زال حيا. لم أستطع أن أشرح لهما ما الذي واجهته في هذا الممر وظهور واختفاء محمود الغامض وكلماته المبهمة التي لم أجد لها تفسيرا. يجب إيجاد جثته كي لا أدع عاصم مراد يفوز بضحية جديدة في نزاعه الدموي.

    انطلقت ناحية مدخل مصنع معالجة المياه. كانت كلمات فاتن كأنها تهددني لمنعي من الذهاب إلى هناك ولكنها قالت في النهاية بصوت حذر:
    - انتبه لنفسك.
    لم أعر كلماتها أي أذن صاغية فقد كان رأسي خلية نحل من الأسئلة التي تدوي في رأسي أضف إليها الارتباك والرغبة الشرسة. تحركت قدماي بخطوات متسارعة نحو المدخل. لم أتوقف كي أسأل لم أسرعوا بالعدو مبتعدين. كنت أعلم السبب في سرعتي في القدوم إلى هنا. شعرت بمسؤوليتي عن مقتل فرق المطاردة وعن وفاة يوسف سالم الغامض. تمنيت لو كنت أسرع قليلا ولكنه تمن متأخر. ومع احتمالية كون محمود ما زال حيا يجب أن لا أسمح لعاصم مراد أن يقتنص ضحية جديدة.

    كان المدخل يتكون من درجات خرسانية تؤدي إلى ما يشبه الطابق السفلي أو مخرج حريق. رأيت شاحنة تسير بسرعة في الجوار. كانت مصابيحها الأمامية تلقي ظلالا طويلة على الجدران الرمادية في الضوء المعتم. كنا في وقت مبكر من المساء والشمس قد بدأت رحلتها في الغروب عبر الأفق. انزلقت الغيوم مكفهرة في السماء فوقي ولم انتبه إلى الدماء التي تسيل في الأسفل. هبطت الدرجات وكنت أكثر حذرا هذه المرة. عبرت المدخل وقد استللت سلاحاي من غمديهما وتأكدت من أنهما لم يتضررا نتيجة سقوطي العنيف من نافذة المخزن.

    كان الممر غارقا في الظلام...
    ومصباح صغير يتأرجح في السقف كأنه يعلن احتجاجه على عدم قدرته على التغلب على هذا الظلام الدامس. ذكرني هذا بيوسف سالم اليائس وهو ينتظر الموت على يدي عاصم مراد عندما غرز أسنانه في جلده. صررت على أسناني من الغضب وأكملت طريقي. سمعت من بعيد صوت مولد كهربائي يدور وسيطرت ضجة مصنع معالجة المياه على المكان. فرحت لأنني سمعت صوتا غير صوت نبضات قلبي! سمعت صوتا في جهاز الاتصال الذي احمله ثم سمعت صوت كمال يملأه الحزن وهو يقول:
    - إلى القط! لا استطيع أن أرسل لك أي مساعدات في الوقت الحالي. هناك شئ خطير يحدث في مؤسسة ساتورن فقد ذهب الجميع إليه.
    ساد الصمت لحظات ثم سمعت صوت حسام كأنه يشاركني الإحباط يقول بصوت اشتعل غضبا:
    - لا! إن رجالي فعلا في الداخل الآن!
    قال كمال معتذرا:
    - أتمنى لو أستطيع دعمكم.
    سأل حسام:
    - هل هم من نطاردهم؟
    أجاب كمال:
    - يبدو ذلك. ولا استطيع أن أفيدك أكثر. المعلومات المتوفرة قليلة للأسف.
    قال حسام:
    - يبدوا انه لا تغطية حتى انتهاء المهمة إما بالنجاح وإما بالفشل.
    ثم صمت صوت الجهاز..
    وعاد الصمت يلف المكان.
    كان الممر يبدو كمتاهة من خلال صوت هدير الآلات وعدم ترتيب المكان ولم البث أن وصلت إلى ساحة مفتوحة تحتوي على جهاز معالجة المياه. عبرت الجسر الأصفر المعدني المار عبر الساحة وكنت أحاول جاهدا منع نفسي من الانزلاق أثناء سيري عليه. في نهاية الجسر وجدت غرفة تحكم. فتحت الباب وانتقلت إلى الداخل بينما كانت عيناي تجوبان المكان بحثا عن أفخاخ أو أحد هؤلاء الجنود يكون قابعا في انتظاري. وجدت هاتفا معلقا على الحائط ومصباحه الأحمر يضيء متقطعا دلالة على وجود رسالة غير مقروءة. اقتربت من الهاتف وضغطت زر التشغيل. سمعت صوتا معدنيا قادما من الهاتف يقول: لديك رسالة جديدة. مرت فترة صمت قصيرة ثم سمعت صوتا أجشا لرجل لا أعرفه يقول بصوت شبه غاضب:
    - ماذا حدث عندك يا مؤيد؟ أعتقد أنه صوت قنبلة! لا أستطيع الاتصال بأي شخص. اتصل بي لاحقا.
    صدر الصوت المعدني معلنا انتهاء الرسالة.

    توقفت برهة وأنا أتخيل الحيرة التي ارتسمت على هؤلاء العاملين عندما اقتحم هؤلاء الجنود المكان وقتلوا الموجودين بدون رحمة. أعلم أن مؤيد هذا ربما يكون ميتا وكذلك صاحب الصوت في الرسالة. انتابتني رغبة عارمة في معرفة سبب إحضار عاصم مراد جنوده الخارقين لهذا المكان. لماذا مصنع معالجة المياه؟ حاولت تركيز فكري في هذه المسألة عندما لمحت مقبض تحكم آلي. جزمت أنه لتحريك الجسر المعدني. وبجرأة اتجهت إليه وحركته فإذا بالجسر المعدني ينتقل إلى موضع آخر فاتحا مسارا جديدا لي. عبرت الجسر مسرعا آخذا في عين الاعتبار جرس الإنذار الذي قد ينبه أي جندي يكون موجودا في الجوار. كنت أحرك سلاحي من جهة إلى أخرى أثناء سيري مغطيا جميع المداخل وأصابعي مستعدة للضغط على الزناد لإطلاق سيل من الطلقات عندما تدعو الحاجة لذلك. وصلت إلى الجهة الأخرى بدون أي مقاومة ووجدت نفسي أنظر إلى حفرة عميقة في الأسفل غارقة في الظلام الدامس كأنها بداية نفق تحت الأرض. وجدت مجموعة من السلالم تنزل إلى عمق لا اعلم كم يبلغ. أخرجت سلاحي وتسلقت السلالم متجها إلى الأسفل ولكني لم استخدم قدمي في النزول بل تركت جسدي يهوي بتأثير الجاذبية الأرضية واعتمدت على يدي لتخفيف النزول. هبطت قدمي بنعومة على الأرض الصخرية. أضأت المصباح الصغير المعلق بخوذتي وشعرت بالراحة عندما بدد شعاع الضوء بعض الظلام الدامس .

    ومع تقدمي كان إحساسي بعدم الارتياح يزداد ويغمر كياني بمسحة من القلق والخوف. نبضات قلبي أخذت بالتسارع مرة أخرى مع انسياب الأدرينالين في عروقي. كان المصباح المعلق في خوذتي يتأرجح مع حركتي المتوترة. كنت أحاول إقناع نفي أنني غير مراقب. سمعت خرخشة في جهاز الاتصال ولكن لم يصدر أي صوت عنه. ومض المصباح الصغير كضوء ثوي ورأيت الفئران تركض مذعورة بجانب قدمي. من الواضح أنها مذعورة بشئ موجود داخل النفق. رفعت سلاحي وقد توترت أعصابي وتقدمت ببطء وأنا أدقق أمامي خوفا من أي حركة مفاجئة. انطلق شئ ما أمام شعاع الضوء. إنها الطفلة ذات الرداء الأحمر. ملأ صوت ضحكتها العالية جميع أرجاء النفق للحظات قبل أن يتلاشى. حاولت مع نفاسي العميقة تحديد مكان الطفلة ولكن ذلك كان صعبا. تقدمت إلى الأمام ناحيتها مع أن تنبيهات الخطر في داخلي تطلب مني التراجع إلا أن الفضول كان أقوى لذلك تقدمت. حاولت مناداتها ولكني توقفت عندما ظهر خيالها على الحائط أمامي. واختفى ذلك الظل فجأة وعاد الصمت والظلام يلفان المكان ألا ما أضاءه مصباحي الصغير. كان السلم على الحائط هو طريق الخلاص وباب النجاة من أسر هذه الطفلة. أسرعت ناحيته وتسلقته بيأس غير مبال بالأصوات التي تصدر عن ذلك حتى وصلت إلى الدرجة العليا وألقيت بنفسي في الهواء وتنفست بعمق جالبا شعور الراحة إلى داخلي وطاردا أنهار العرق التي سالت على جبيني وعنقي.
    الطفلة ذات الرداء الأحمر لغز غامض يجب حله. في الحقيقة هناك الكثير من الأمور الغامضة في هذه المهمة تحتاج إلى تفسير. سمعت هدير طوافة حربية فوق المكان. وقفت مكاني وتفقدت ذخيرتي. والليل يكاد يغطي صفحة السماء مع غياب قرص الشمس خلف الأفق. اعتقدت أن الباب أمامي سيؤدي إلى مصنع معالجة المياه ولكن ما كدت أدفعه وأعبره حتى سمعت جرس الإنذار وصوت أحد الجنود يقول:
    - (ص-12). أعتقد أنه لدينا دخيل هنا يجب التعامل معه وإزاحته.
    رفعت سلاحي وتقدمت منخفض القامة.



  10. #10
    الفصل الثامن

    كانت اللحظة ما بين خروج الطلقة من مسدسي الموجه جيدا وبين مؤخرة رأس الجندي كانت كافية لتحقيق الهدف. كانت دقة الإصابة تبدو كأني قد استغرق الأمر مني وقتا طويلا قبل أن أحدد هدفي وأطلق النار. قفزت في الهواء وأطلقت الطلقة التي أخرست الجندي عندما اخترقت جمجمته تاركة ثقب على الخوذة. هبطت على الأرض متزحلقا على ركبتي ومرفقي إلى داخل الغرفة وتوقفت. هبطت أنا والجندي على الأرض ولكن الفرق بيني وبينه أنه كان ميتا فلم يدر برشاقة كما فعلت أنا لأنه قد غرق في بركة حمراء من دمائه.

    سمعت صوتا قادما من غرفة تحكم أخرى في نهاية الممر يقول: ماذا حدث يا..؟ وانقطع حديثه عندما اقتحم أحد الجنود المستنسخين الغرفة وهبت عاصفة من الطلقات باتجاهي. سارعت بالاختباء في غرفة مولد الكهرباء في مكان أمين. وسمعت صوت الخطوات الثقيلة لذلك الجندي وهي تقترب مني كي يجد فرصة أفضل للقضاء علي. ومع اقترابه أطلقت طلقات تحذيرية ولكنها اصطدمت بالحائط. توقف الجندي عن الحركة وكلانا في حالة توتر شديد.

    عبر الجندي الممر فوقي مسرعا وتابعت حركاته من صوت حذائه كي أظل مختبئا في مكاني الأمين، ولمحت ظله الطويل على الجدران الرمادية واستخدمت الظل كي أحدد مكانه. خرجت من مكمني للحظة وأطلقت طلقة واحدة باتجاه الجندي. كانت طلقة صائبة ولكن الجندي تحرك أسرع مما توقعت فألقى نفسه على الأرض تاركا الرصاصة تخترق نافذة خلفه وتحطمها بدوي شديد. ألهاه الدوي قليلا عني فسارعت بإلقاء نفسي على سلم قريب لكن الجندي نهض على رجليه واتجه ناحيتي. قفزت في الهواء برشاقة لاستقباله. جعلتني قفزتي امسك به من جذعه والقي به على الأرض. استعدت وضعيتي وقفزت موجها ضربة قوية إلى الجندي. شقت قدمي الهواء كسكين حادة قبل أن ترتطم بجمجمته أرسلته في غيبوبة بعض أن سقط أرضا لا يلوي على شيء محدثا ضجة كبيرة. وقفت وأنا ألهث محاولا استعادة الهدوء.

    سرت في الممرات شبه المضاءة بحذر ولكن كان هناك هدف في عقلي أسعى إليه. عند التفافي للزوايا كنت أنحني للأسفل وقد شرعت بندقيتي استعدادا لأي خطر مصغيا السمع جيدا لأي صوت يكون مصدره أولئك الجنود مثل صوت اللاسلكي أو وقع الأقدام الثقيلة لدورية تتحرك. قادتني نهاية أحد الممرات إلى غرفة بها وحدتين لمعالجة المياه وخزانات مملوءة. كانت الوحدتان تدوران مصدرتين صوتا خفيفا في وجه الصمت المطبق كأنها محاولة يائسة لجعل الصوت مسموعا! تابعت الممر حتى اعترضتني بوابة معدنية ثقيلة ومنعتني من الوصول إلى الممر خلفها. كانت البوابة مربوطة من الطرف الآخر. توقفت لأفكر بالهدف من هذه البوابة هل هي لمنع أي دخيل من الولوج أو لمنع من في الداخل من الخروج؟ طردت الفكرة سريعا واضعا كل اهتمامي بما لدي لأفعله. درت حول نفسي وتفحصت غرفة معالجة المياه محاولا إيجاد طريق بديل حتى سقطت عيناي على منطقة مظلمة. وقفت أفكر بالسلم الذي يوصلني إلى سلسلة الأنابيب المعلقة على الرغم من خطورة الأمر وهذا بالتالي يوفر لي جسرا كي أتغلب على الأشياء المرتفعة في الغرفة ومن ثم إلى خلف البوابة. ابتسمت لفكرتي البسيطة وشرعت في التسلق.

    كان ارتفاع الأنابيب أكبر مما كنت أراه وأنا على الأرض، وتساءلت عما إذا كانت الخطة التي وضعتها معقولة أم لا. لم يكن هناك بد من الاستمرار فلا خيار أمامي سوى التسلق ولم يكن عندي وقت لدراسة الوضع. لذلك أخذت نفسا عميقا وتسلقت الأنابيب التي أصدرت أصواتا وارتجفت احتجاجا على ثقل جسمي وكنت أثناءها حذرا وعلى استعداد للرجوع إلى الخلف إذا لزم الأمر. اقتنعت أن الأنابيب يمكنها أن تتحمل وزني لذلك أكملت مسيري بوتيرة منضبطة وذراعاي ممدودتين جانبا كي أحافظ على توازني واضعا كل اهتمامي الوصول إلى تلك الفتحة في نهاية الغرفة وأنا أحاول تجاهل صرير الأنابيب تحتي. وصلت إلى فتحة المصرف فقفزت داخلها وأنا أطلق تنهيدة ارتياح وأخرجت سلاحي وسرت حذرا عبر المصرف حتى وصلت إلى مدخل في نهاية المصرف كشف لي عن مدخل آخر يقودني إلى الممر المغلق بالبوابة. ابتسمت لحظي الحسن وبضربة قوية أطحت بغطاء المصرف وعبرت المدخل.

    أسعدني أنني رأيت البوابة المغلقة خلفي على بعد أمتار عدة. ولسبب غير معروف شعرت بميل أن أفتح البوابة ليس لهدف معين ولكن لأنها اعترضت طريقي. سخرت من نفسي لتأخري وأسرعت في خطواتي على طول الممر. وجدت درجا فصعدت عليه وعندما وصلت نهايته رأيت منظر شبه مريح. كان هناك صف من آلات البيع تضئ بمصابيح حمرا وخضراء على الرغم من الإضاءة القاتمة للمنشأة. كان أحدها يومض كأنه آخر رمز للحياة الطبيعية في هذا المصنع تم طيه ببطء خلف ستار من الغموض وجرائم القتل الشريرة. وكوني بعيد عن الطابق السفلي وغرف المولدات كان مريحا لي ولكنه لم يخفف من ظلام المكان. كانت الكآبة المحيطة قد غطت المكان بالرطوبة الدائمة المصحوبة بالبرد. والجدران الرمادية المتبلدة لا تعطي شعورا بالدفء. رأيت مكتبا قريبا بابه مفتوح جزئيا. عبرت الباب فوجدت علبة ذخائر وقنبلتين يدويتين تنتظران يدي وتناولتهما بطمع وعلقت القنبلتين بحزامي ووضعت علبة الذخائر في جيبي. وابتسمت محاولا تخيل أن عاصم مراد لم يتوقع أن أصل إلى هذا الموقع وغذى هذا الشعور في داخلي رغبتي في إلقاء القبض عليه.

    تابعت السير في الممرات العريضة وشاهدت المكاتب ذات النوافذ الزجاجية واسطوانات زرقاء كبيرة تحوي مواد غير معروفة حتى وصلت إلى غرفة واسعة بها شاشات أجهزة كمبيوتر تصدر أزيزا. توقعت أن هذه الشاشات لإدارة العمليات اليومية والسيطرة على النشاطات في المرفق. كانت هناك أعمدة قوية تدعم سقفا مظلما والأرضية مضاءة بمصابيح ضعيفة موضوعة في مقابل تلك الأعمدة. في مكان ناء في الغرفة يقف سلم أصفر اللون يعلوه الصدأ يؤدي إلى منصة معدنية تقود إلى ممر معتم لا ترى نهايته. تحركت بسرعة ولكن فجأة تجمدت في مكاني عندما سمعت صوت جهاز اللاسلكي لأحد الجنود المستنسخين يصدر ضجة وقال أحدهم عبره:
    - انتبه جيدا. (ص-12) لا يرد.
    قال الجندي:
    - هل استدعي دعما؟
    أجاب القائد:
    - كلا. لا تفعل.
    ثم صمت الجهاز وقد شعرت بالراحة.
    بعد لحظات دخل ثلاثة جنود مستنسخين من الطرف القصي من الغرفة يوجهون أسلحتهم من مكان لمكان يفحصون جميع الزوايا المظلمة بعيون خبراء في القتل. فكرت بخياراتي وأنا مختبئ خلف أحد الأعمدة. لقد تنبهوا حتما ومن المؤكد أنهم مستعدون ولكن المشكلة أنى لا أعلم عددهم الحقيقي. التقطت إحدى القنبلتين من حزامي ونزعت مفتاحها وألقيتها باتجاه إحدى الشاشات كي تقفز منها باتجاه الجنود. وتمنيت لو أنجح في ذلك بضبط زاوية الإلقاء. وعدت إلى مخبأي خلف العمود. صرخ أحد الجنود برفيقيه:" قنبلة! انبطحا أرضا" وفي لحظات قليلة ارتجف المكان كله بعنف عندما مزق الانفجار الغرفة. وصرخة الألم التي انطلقت تؤكد أن واحدا على الأقل منهم قد أصيب في الانفجار.

    غيمة كثيفة من الغبار والدخان ملأت جو المكان. انتهزت الفرصة لأخرج من مكمني واختلس نظرة إلى الجنود لأرى ما حل بهم. رأيت أحدهم يترنح وقد قطعت يده من المرفق والدم يسيل منها. عدت إلى مخبأي السري مرة أخرى وأنا أقاوم شوقي للمعركة.
    "لقد سقط جندي"
    أعلنها أحد الجنود وتبعها عاصفة من الطلقات. قال أحدهم:
    - لنتحرك.
    قال الجندي الآخر:
    - أين يمكن أن أذهب؟
    استغللت المواجهة بين الجنديين لأتحرك من مكاني وكمنت خلف إحدى شاشات الكمبيوتر. بدأ الجو يصفو تدريجيا ولكني كنت بعيدا كي أتجه وراء الجنود الذين لا يعلمون مكاني. وفجأة! كان أحدهما ينظر باتجاهي تماما.
    "انه يحاول الالتفاف خلفنا"
    صرخ صاحب النظرة من المفاجأة. لم يكن لدي الوقت الكافي للاختباء لا أنا ولا هو. دفعتني غريزة البقاء إلى إطلاق النار عليه. فحطمت الطلقات ركبتيه وسقط على الأرض، وبدفقة أخرى تحول إلى جثة هامدة. اختبأ الجندي الأخير خلف عمود كبير في الجهة المقابلة في الغرفة وشرع في إطلاق النار من مخبئه عشوائيا. شاهدت الشرر المتطاير نتيجة ارتطام طلقاته بالأرض والأعمدة الخرسانية. أخذت أنفاسا عميقا مركزا تفكيري على ما سأقوم به بعد قليل وتساقط العرق على رقبتي ولكني تجاهلته. ومع النفس العميق الأخير ابتدأت التحرك.

    وبتوافق مدهش تحركنا نحن الاثنين أنا من خلف الشاشة وهو من خلف العمود. انطلقت النيران من سلاحه وأطلقت بدوري أيضا. قفزت من مكاني محاولا تجنب تلك الدفقة من الطلقات وقلدني هو بالطريقة نفسها. كانت قفزته سريعة ولكنني كنت شيئا آخر مختلف تماما. ما أثار حيرتي هو صوت صراخه عندما تراجع وارتطم بالحائط وسقط أرضا وهو جالس.
    لقد فعلتها وأصبته...
    لا تسألوني كيف ولكن هذا ما حدث فعلا..
    عندها فقط استعدت إحساسي بالعالم الخارجي...
    هدير المحركات...
    وأنفاسي الثقيلة...
    ونبضات قلبي المتسارعة...
    وألم في فخذي...
    يبدو أنني أصبت...
    بل إني أصبت فعلا.
    كان الألم لا يطاق لذلك التقطت ما تبقى من حقنة مضاد الألم وحقنتها في فخذي وغطيت الجرح بلاصق طبي. وانتابني شعور بالارتياح عندما سرى مفعول المضاد وانحنيت كي أفحص الجثث وأخذت منها جميع علب الذخائر.

    رأيت السلم الأصفر الذي يعلوه الصدأ..
    لم أره معدنا بقدر ما اعتبرته فرصة النجاة الوحيدة فاتجهت إليه وتسلقته. وصلت إلى قمته بينما كان جرحي ما زال الدماء تنزف منه، واتجهت بعدها إلى الممر الذي قادني إلى غرفة مكتب. دخلت المكتب حذرا ولكن لم يكن هناك أحد. رأيت صناديق من الذخيرة والأسلحة ولكني تجاهلتها مؤقتا. لمحت جهاز كمبيوتر على الطاولة فأسرعت إليه مدركا أن أي بيانات مشفرة يمكن لحسام أن يتعامل معها ويعرف محتواها. ضغطت عدة أزرار وشاهدت على شاشة الجهاز إشارة بدء عملية إرسال البيانات ثم وقفت أنتظر. سمعت صوت محمود عند جهاز اللاسلكي وهو يقول:
    - يجري الآن تحميل البيانات.
    وانتظرت انتهاء الإرسال. وبعد لحظات سمعت صوته مرة أخرى عبر اللاسلكي:
    - رائع...
    صمت قليلا ثم أكمل:
    - وجدت تحليلا للمياه العادمة موجه إلى لجنة المراجعة في شركة ساتورن. وما رأيته يدل على أن هناك تلوثا كبيرا، ومن غير المعقول أن يتم إرساله إلى اللجنة ما لم يكن للشركة يد في الموضوع.
    وانقطع الإرسال. حاولت تجميع أفكاري حول ما حدث.
    لا بد أن يكون هناك سبب ما لهروب عاصم مراد من تلك الشركة وإصابته بالهياج والغضب. هل كان غاضبا لتلويثهم النهر؟ ما زالت كلماته ترن في أذني "إنهم لا يستحقون الحياة!" من هم الذين عناهم عاصم مراد؟ وماذا فعلوا حتى يستحقوا هذا الموت البشع؟
    هل هو مجنون فقط؟ أم إنه يدرك ما يفعله جيدا؟
    إذا كان العاملون في ساتورن ما زالوا في مبنى المعالجة فلا بد أنهم في خطر كبير. عاصم مراد لديه ثأر مع شركة ساتورن وعلي منعه من ذلك ومعرفة ماذا حدث له.


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. روايتي أسرار القلعة
    بواسطة رياض محمد سليم حلايقه في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-26-2018, 01:36 PM
  2. كلمة نقد حول روايتي البريئة
    بواسطة رياض محمد سليم حلايقه في المنتدى فرسان النثر
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-02-2017, 09:53 AM
  3. غلاف روايتي الجديدة ذاكرة ميت
    بواسطة ريم بدر الدين في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-05-2015, 02:41 AM
  4. روايتي الجديدة/وطن في حقيبة القلب
    بواسطة ريم بدر الدين في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-13-2013, 03:10 PM
  5. مقاطع من روايتي( تراجانا)
    بواسطة محمد فتحي المقداد في المنتدى فرسان القصة القصيرة
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 06-12-2012, 12:18 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •