مقدمة


تبدأ اللعبة حين يحكِّم الكاتبُ حالتَه الإبداعية في عملية تحديد المقادير الخاصة واللازمة للتعبير بنجاح. ومن المشهود به أن -في كل مجال من مجالات الكتابة أو مجالات الفن عامة- أدوات، وهذه الأدوات تحكمها مجموعة من القواعد عند استخدامها. وحين يتبع الكاتب قواعد استخدام الأدوات فإنه ينشئ نصًا مفهومًا يتواصل مع المتلقي بحكم ما تم الإجماع عليه من عمومية القاعدة وانتشارها وألفة طاعتها بين المبدع والمتلقي.
لكن لعبة المعنى في حالة النص الإبداعي -أو النص الراقي- لا تعتمد قوانين الجمهور البسيط وحسب. إنها تتخذ أدواتها من المشهور المألوف المعياري حين ترى أن في ذلك مصلحة التعبير فتنصب اسم "إن" بها إذا أرادت تأكيد الخبر عن ذلك الاسم. ولكنها تصنع أدوات خاصة بها حين تتطلب الحاجة، وحينئذ فإنها تورد "إن" قبل اسم وخبر، ولكنها لا تنصب الاسم بـالأداة، فكأن الجملة المجبولة على تلك الخلقة تقول أمرًا شائعًا وأمرًا غير شائع: فحين قال الله تعالى على لسان السحرة "إنّ هذان لساحران"، فإن "هذان" لم ترضخ للتأثير الإعرابي التوكيدي الكامن في "إن". وكأن الجملة كانت تحمل نوعين من العلاقات:
- علاقة شائعة غير مفعلة: حسب القاعدة المعيارية، من حيث "إن" أداة نصب وتوكيد. وهذا ما كان عليه اعتقاد السحرة ومن حولهم من آل فرعون. بل من المعتقد أنه كان التفكير الشائع بين الجمهور الحاضر -الذي يعتقد أن أي عمل خارج عن قدرة الطبيعة البشرية إنما هو سحر، وليس داخلا في عباءة الدين ومعجزاته- بحكم أنه اعتمد على أدوات القاعدة المعيارية من نصب "إن" لما بعدها. وهذا يناسب فكر الجمهور.
- علاقة خاصة مفعلة: وهي في أن "إن" لم تعمل النصب والتوكيد فيما بعدها، مشيرة إلى أن وجهة النظر الشائعة لم تكن صحيحة. ومن ثم لم تُفعّل خاصية النصب والتوكيد. (وسوف يتم مناقشة تلك المسألة بأشكال كثيرة في نصوص لاحقة، وبتوضيح أكثر).
هنا لم تكن اللغة وعلاقاتها وسيلة التعبير الجامدة، ولكنها وسيلة التعبير الحية. في جملة واحدة حضرت الأدوات المعروفة، ولكنها تخلت عن القاعدة الخاصة بها من أجل تحقيق نوع من النفي بالتعطيل؛ تعطيل الأداة عن دورها فيؤدي ذكرُها وظيفة، ويؤدي تعطيلها وظيفة أخرى في الوقت نفسه.
تلك الإبداعية في تأدية المعنى لها أشكال كثيرة، وطرق لا يبلغها إلا من صدقت فيه صفات الفروسية التي حكى عنها ابن جني في خصائصه (كما سنرى في الدراسة لاحقًا). ومثل لعبة المعنى بأدوات اللغة فإن هناك لعبة المعنى بأدوات العروض والأوزان الشعرية.. اللعبة التي نوّعت الأوزان لتؤدي كل نغمة وظيفة ما أو معنى ما أو إحساسًا ما أو فكرة ما. وخلقت لها مبدأ الضرورة الإبداعية (الشعرية) وزحّفت وصنعت العلل، وأرسلت القافية وكتبت السطر بدل البيت.
في الحقيقة ليس معيار الحكم على اللعبة هو القديم والحديث أو المعياري أو المخترع، أو قواعد البلاغة التي يطبقها القارئ على أي نص دون تمييز لظروف النص عن غيره، ولكن الحاجة هي المعيار، حاجة النص لكي يمكنه التبليغ كما ينبغي، وحاجة الكاتب لكي ينقل إلى القارئ صفاته الشخصية من الاختصار أو الاسترسال أو الحكمة أو الإدراك أو القصور أو أو أو (واعيًا أو غير واع). وأخيرًا الجزء الخاص بالقارئ أو المتلقي وهو الذي عبّر عنه الباحث في عنوان الكتاب بقوله "بلاغة التلقّي" تلك التي تحمل معنى "آلية النقد المتعاطف" الذي ينطلق من إحساسه بالجمال والتفاهم الناضج مع حالة الكلمة والعلاقة بين الكلمتين والموقف وظروف الكاتب ونصه واحتمالات المعاني والأفكار الكامنة في النص المقروء.
في هذه الدراسة حاول الباحث -قدرَ استطاعته- أن يرصد بعض قوانين اللعبة بين القديم والحديث، لعبة الكتابة ولعبة المعنى بين بلاغة المبدع وبلاغة المتلقي، وكرة الأدوات والقواعد بين القارئ والمتلقي نحو المناسب والمراد والمحتمل والمرغوب فيه ومصلحة البلاغة المتفتحة غير الجامدة.
والقوانين المرصودة تعبِّر عن نفسها في تطبيقات شعرية ونثرية بين القديم والحديث. وبين الفصحى والعامية. حتى أنها كانت رصدًا للحاجة الكامنة في العلاقات اللغوية أو النحوية أو العروضية الموجودة في نص ما.