«ولاد العم» لشريف عرفة
حلم العودة وقسوة الأسرما تزال السينما المصرية تسبح في تيار الأفلام الكوميدية التجارية التي سيطرت بقوة على الإنتاج السينمائي منذ نهاية القرن الماضي وحتى يومنا هذا، لذلك أصبح أي فيلم مصري يحمل مضموناً جاداً محط أنظار واهتمام لكونه بات يشكل عملة نادرة ضمن سياسة الإفراغ الفكري والفني التي تمارسها مجمل شركات إنتاج السينما المصرية لأسباب تتعلق بتحقيق أرباح مادية دون تقديم رؤية فكرية أو فنية تذكر، مع ذلك قدم بعض من المخرجين وكتاب السيناريو المصريين عدداً من التجارب السينمائية التي تحدت التيار الكوميدي السائد، مثل المخرج شريف عرفة الذي تعاون مؤخراً مع كاتب السيناريو عمرو سمير عاطف في فيلم «ولاد العم» الذي حصد خمس جوائز دفعة واحدة في المهرجان القومي للسينما المصرية هي «أفضل فيلم» و«أفضل ممثل درامي»، و«أفضل ممثلة درامية» ، وجائزة «أفضل إخراج» ، إضافة إلى جائزة «الإبداع الفني المتميز». ولدى عرض الفيلم في صالة « sva» في ولاية نيويورك الأمريكية تسبب بفوضى عارمة أثارتها مجموعات يهودية متشددة مما تطلب تدخلاً من رجال الأمن لحماية بعض نجوم الفيلم الذين حضروا عرضه، بعد التهديدات التي تعرضوا لها بسبب القضية الحساسة التي يعالجها الفيلم.
صراع الهوية
تدور أحداث الفيلم جميعها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة باستثناء المشاهد الأولى التي صورت في مصر، مع بداية الفيلم يقترح عزت –دانيال «لعب الدور شريف منير» الذهاب مع عائلته في رحلة بحرية، وأثناء تجوالهم في عرض البحر يفاجىء زوجته سلوى «منى زكي» عندما يخبرها بأنه ضابط كبير في جهاز الموساد الإسرائيلي، تتعامل سلوى مع ما قاله زوجها، الذي اقترنت به منذ سبعة أعوام وأنجبت منه طفلين، على أنه مزحة، لكنه يتجه بالقارب نحو المياه الإقليمية البعيدة عن الشاطئ مما يثير ريبة الزوجة، وبشكل مفاجىء تطوق الزوارق الحربية الإسرائيلية مركب العائلة وتذهب بهم إسرائيل بعد أن يخدر دانيال زوجته لمقاومتها عملية الاختطاف، تصحو سلوى من صدمتها على الوضع الجديد كلياً، عندما يضعها زوجها أمام خيار صعب وحقيقة مرة، لتوقن أنه فعلاً جاسوس إسرائيلي أنهى مهمته في مصر وعاد مع أسرته للعيش في بلده، وعليها الآن أن تختار بين العودة إلى مصر وحيدة أو العيش في إسرائيل مع زوجها وأطفالها مرغمة مقهورة، تعيش بعدها صراعاً داخلياً مراً، هل تتمكن من تجاوز الموروث الثقافي والقومي والديني الذي تربت عليه، أم أن غريزة الأمومة وحبها لأطفالها ستعلن استسلامها؟ هنا يفسح المخرج مساحة واسعة من الفيلم لصراع الهوية الذي تعانيه سلوى، والطريقة الذكية التي انتهجها دانيال في السيطرة على أفكارها واتّباعه سياسة تبتعد عن العنف في تحقيق غاياته، وزراعة أفكار جديدة في ذهن سلوى تعتمد على إبراز الجوانب السلبية للمجتمعات العربية بالعموم وقلب الحقائق، وصولاً إلى تلميع المجتمع الإسرائيلي الذي يقترب من المجتمعات الأوروبية فيما يتعلق بالتطور الحضاري والفكري ورفاهية مواطنيه، متناسياً أنه مجتمع لا يملك أية خلفية تاريخية، إنما هو صنيعة مجتمعات ودول أخرى لغايات استعمارية بحتة، لكن أمام الضغوط الكبيرة التي عاشتها سلوى تبدأ بالاستسلام ظاهرياً لكنها سرعان ما تكتشف حقيقة افتراءاته. إنه صراع حقيقي أو حرب أراد منها دانيال الخروج منتصراً محاولاً تحقيق فوز جديد أمام قادته ورؤسائه بتدجين زوجته وتحويلها إلى مواطنة إسرائيلية، هذا ما صرح به لمديره الذي لم يخف اعتراضه على إحضاره سلوى إلى إسرائيل.
رفض التطبيع
ضمن سياق الأحداث المتسارعة أدخل كاتب السيناريو عمرو سمير عاطف مجموعة تفاصيل ذكية أراد منها تسليط الضوء على العلاقة الإشكالية بين مصر وإسرائيل، والتي تتضمن نفوراً قومياً وشعبياً جراء الذكريات المريرة التي سجلها التاريخ سبّبتها الأعمال الاجرامية والحروب المتلاحقة التي شنها الكيان الصهيوني لإقامة وإرساء دولة إسرائيل المزعومة، حيث عمد على إظهار علاقات متطرفة جمعت بين أفراد عرب مصريين مع الكيان الصهيوني على الرغم من الرفض المطلق لها، لكنها باتت تظهر على السطح، عندما ركز على حياة بعض المواطنين المصريين العاملين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة «التي تسمى دولة إسرائيل» سواء بالتصريحات أو الممارسات، حيث يحاول دانيال صهر زوجته المصرية الخالصة ضمن بوتقة المجتمع الإسرائيلي، يصطحبها إلى حفل يقيمه مديره في العمل رئيس شعبة الاغتيالات في جهاز الموساد «لعب الدور سليم كلاس» تحصل عندها مواجهة غير متوقعة جمعت سلوى مع مهندس مصري يعمل منذ سنوات عدة في دولة إسرائيل وحقق نجاحات وحضوراً طيباً هناك، لكن ردة فعلها العفوية رفضت هذا الوجود لتصرخ في وجهه « أنت كمان جاسوس» هذه النظرة التي كانت ولاتزال راسخة في ذهنية الشعب العربي الذي يعتبر أن أي عربي يغادر بلده ليسكن أو يعمل في إسرائيل هو جاسوس، أعاد صنّاع الفيلم تقديمها بشكل فني تأكيداً منهم أنه وبعد انقضاء أكثر من ثلاثين عاماً من محاولات التطبيع التي تلت اتفاقية كامب ديفيد والمستمرة حتى الآن، لا تزال قضية السلام مع إسرائيل مرفوضة من قبل عامة الشعب المصري، بغض النظر عن مسألة الاتفاقات ومعاهدات السلام التي وقعتها الحكومة المصرية مع الكيان الصهيوني.
مفارقات بالجملة
تحولت قضية اختطاف سلوى مع أطفالها إلى قضية مصيرية ومحورية وقومية لدى الأجهزة الأمنية المصرية، لذلك كلف جهاز المخابرات المصرية مصطفى «كريم عبد العزيز» أحد أكفأ عناصره للقيام بمهمة إنقاذ سلوى وأطفالها، في هذا الجزء من الفيلم قدم المخرج نموذجاً مختلفاً عن الصورة النمطية التي رسختها مجمل الأعمال الفنية لعميل المخابرات المصرية التي كرست بعد حروب 67و73 ، عندما قدمه وكأنه بطل خارق يستطيع دخول الأراضي الإسرائيلية بسهولة مفرطة دون أن يتخفى عن الأعين أو الإنظار، وإن كان يتقن اللغة العبرية بطلاقة إلا أنه يتنقل دون حذر ويتعامل مع المحيط وكأنه يرى معاناة الشعب الفلسطيني لأول مرة، وتصل المبالغة أوجها عندما يدخل العميل المصري مبنى الموساد الإسرائيلي بمساعدة سلوى ليسرق ملفاً خطيراً من خزنة دانيال! حاول المخرج إيجاد تفاصيل فنية مقنعة لهذه المبالغة، لكنها لم تظهر بالصورة التي أرادها، وحتى تكتمل سلسلة المفاجآت غير المتوقعة، يقبض دانيال على مصطفى أثناء سرقته الملف السري ليعلمه أن إحضار سلوى لم يكن سوى طعم للإيقاع ببطل المخابرات المصرية! ويستشيط الخيال اللا معقول في الفيلم ليصل إلى تفاصيل لا يمكن تقبّلها أو طريقة تقديمها لإفراطها في إظهار بطولات الضابط المصري أمام غباء وتخاذل جهاز الموساد برمّته، هذا ما يصلنا في مرحلة انتزاع الاعتراف والتعذيب البدني بالكهرباء، ولدى توقف قلب مصطفى عن النبض، يحاول دانيال إسعافه إلى أحد المستشفيات القريبة وسط حراسة أمنية مشددة، لكن معركة تنشب بشكل مفاجىء لا نعرف كيف بدأت أو من خطط لها، صواريخ تنطلق لتعصف بسيارات الموساد باستثناء السيارة التي تقل مصطفى، رصاص يحصد الجميع باستثناء البطل الذي ينجح في الهرب والعودة إلى سلوى ليصطحبها إلى بر الأمان! وبعد معركة دامية تجمع بين دانيال ومصطفى ينتصر الخير على الشر كالعادة لينجح مصطفى بالعودة إلى مصر مع مواطنته وأطفالها.
من الناحية الفنية بالغ المخرج في كثير من مشاهد فيلمه بإظهار الصورة البراقة للعمران والتطور الحضاري للداخل الإسرائيلي على حساب ندرة المشاهد التي صورت المناطق الحدودية الفاصلة التي تشهد مواجهات، أما المبالغة غير المبررة في الحبكة والأحداث وطريقة المعالجة البعيدة عن العقل والمنطق والتي كان من الممكن ان تسقط الفيلم فنياً، لعب الأداء الفردي لمجمل الممثلين دوراً كبيراً في تجاوز هفواتها، ومن أكثر هذه الأدوار إقناعاً وتميزاً الشخصية التي قدمها الفنان شريف منير، سواء بإتقانه للغة العبرية أو بأدائه المنطقي الذي اعتمد فيه على الهدوء الداخلي في التعامل مع المحيط، وإبقاء خيوط اللعبة جميعها في يده، أيضاً برزت الفنانة منى زكي في لعبها دور الأم المترددة في انفعالاتها دون إدراكها لخطواتها التالية، وإتقانها في تقديم إحساس متناقض ومتأرجح بين الاستسلام للقهر والذل وبين الرفض للمحيط والحلم بالعودة، عندما امتلأت عيناها طيلة الفيلم بدموع لم تذرفها قط.

أنس زرزر

http://www.albaath.news.sy/user/?id=889&a=79980