الاغتراب؟!سلام مراديتناول الدكتور حليم بركات، في كتابه: الاغتراب في الثقافة العربية، متاهات الإنسان بين الحلم والواقع؛ ظاهرة الاغتراب مركزاً بصورة خاصة على المجتمع العربي.
وقد قام الباحث بتحليل واقع المجتمع العربي السائد من حيث هو واقع مُغرِّب يحيل الشعب، وبخاصة طبقاته وفئاته المحرومة والمهمّشة، إلى كائنات عاجزة لا تقوى على مواجهة تحديات العصر، وهذا الواقع برأي الباحث من أهم مصادر الإخفاقات العربية والحدّ من القدرة على التغيير التجاوزي للأوضاع السائدة في القرن العشرين.
فالشعب كما يراه حليم بركات عاجز في علاقاته بالدولة والأحزاب والمؤسسات العائلية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهي تسيطر على حياته ولا يسيطر هو عليها، ويعمل في خدمتها ولحسابها أكثر مما تعمل في خدمته ولمصلحته، حتى يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التكيّف مع واقعه بدلاً من الانشغال بقضايا الإصلاح التجاوزي، وإلى الامتثال للسلطات المهيمنة على حياته بدلاً من اتخاذ المبادرات الجريئة.
وهذه الملاحظة تظهر واضحة في الدوائر والمؤسسات الرسمية العربية بشكل عام، فالمبادرة الفردية والاجتهاد الفردي من قبل العمال والموظفين تكاد تكون غير موجودة.
فالموظف إذا حاول أن يجتهد يقابل صدمات وصدود من قبل مدرائه ورؤسائه الذين ينظرون إليه نظرة دونية.
فالإنسان محاصر ودائرة الحصار تضيق باستمرار، فيضطر بفعل اليأس للانشغال بتدبير شؤونه الخاصة، وتحسين أوضاعه المعيشية المادية على حساب كرامته وإنسانيته وطاقاته الإبداعية، لقد سلبته هذه المؤسسات حقوقه وحرياته في السيطرة على إنتاجه في مختلف الحقول.
أظهر حليم بركات في كتابه؛ أن المؤسسات الاجتماعية، وخاصة العائلية والدينية والاقتصادية، هي هرمية قمعية في تنظيمها، واستشهد بقول لابن تيمية إن: "الله خلق الخلق لعبادته"، بين الباحث أن سلطات الدولة والعائلة والدين والعمل تتصرف في واقع الأمر وكأن الشعب خُلق لعبادتها وخدمتها والامتثال الطوعي أو القسري لأوامرها ولإرادتها التي هي فوق كل إرادة أخرى.
وبالتالي فإن المجتمع بشكل عام أصبح عاجزاً، إذ فقد الكثير من مناعته وتحكمه بوظائفه الحيوية وموارده المادية والروحية في علاقته بالدولة التي تخضع بدورها لإرادة القوى الخارجية والعائلات الحاكمة المحلية.
من هنا يعجز المجتمع عن تجاور أوضاعه وإعادة بناء نفسه من جديد، فتتسع الفجوة وتتعمق بين واقعه الهزيل وأحلامه الضائعة، بل من هنا قد يضطر الإنسان في مثل هذه المجتمعات المستبدة إلى تقبّل واقعه، ويصل الباحث إلى نتيجة أن الإنسان في هكذا مجتمعات يفقد الجرأة بأن تكون لـه أحلام وطموحات بتجاوز عصره تلك هي أقصى أنواع التدجين والتهميش والإفقار.
والاغتراب متصل في هكذا مجتمعات بمشكلات التفكك الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتدهور القيم، والتبعية، والطبقية، والطائفية والفئوية، والسلطوية، فتسود علاقات القوة والنزاع بدلاً من علاقات التعايش والتضامن والتفاعل الحرّ والاندماج الطوعي.
ولا يقتصر التفكك على العلاقات بين الأقطار العربية في ما بينها؛ بل هو يسود داخل البلد الواحد، فتغلب النزاعات الفئوية على حساب الإنسان والمجتمع.
وبرأي الباحث هذا ما يفسر كيف أن الجماعات التقليدية الوسيطة بين الفرد والمجتمع أو المواطن والدولة (القبيلة، الطائفة، الفئة، الجماعة) لا تزال تزدهر في ظلّ الدولة التعسفية على حساب الأمة والإنسان معاً.
في ظل مثل هكذا مجتمعات تتوالد الصراعات والاختلافات؛ فهناك زعزعة للقيم والمفاهيم السائدة، خاصة في المرحلة الانتقالية، توجد أطراف تتمسك بالتقاليد المتوارثة، وهناك أطراف أخرى تقبل بشكل عشوائي على اقتباس كل ما يُرد من الخارج على رغم ضحالته ونزوعه الاستهلاكي.
ويرى الدكتور حليم بركات أن الإنسان الذي يتمسك بالتقاليد كردة فعل لما يراه من غزو ثقافي لا يختلف كثيراً عن ذلك الإنسان الذي يبدو نقيضاً له بإقباله على تقليد الغرب كنموذج لحياته.
كل منهما؛ "المتمسكَ بالتقاليد الموروثة، والمقبل من دون تحفظ على استيراد المقتبسات الغربية السطحية" يسلك طريقاً خاطئاً، وذلك بتخليهم عن تنمية القدرات الذاتية الإبداعية والنقدية، والمشاركة في تغيير هذا الواقع المربك.
فالمجتمع العربي موزع بين القديم والحديث من دن أن يكون أي منهما حقاً، ليس هو بالقديم، كما ليس هو بالحديث، يعيش في عالم "بين بين" في تأزم دائم، فيشهد صراعاً مريراً تتجاذبه قوى الوعي التقليدي وقوى الوعي الحداثي المزيف، قوى المحافظة وقوى التقدّم الشكلي، وقوى الجمود والانذهال بسلع الغرب الاستهلاكية، الانصراف عن تراثه الثقافي والإبداعي، فالعربي يعاني في علاقته بنفسه وتراثه وهويته كما يعاني في علاقته بالغرب والحداثة.
لذلك نرى أن المجتمع العربي يسعى إلى تجاوز واقعه الهامشي، من دون تخطيط ورؤية لتجاوز حاضره الهزيل.
أن مثل هذا الإحساس العميق بالاغتراب عند الذات والمجتمع والدولة والمؤسسات هو معاناة في صلب البحث العربي للخروج من الحالة السائدة.
وهي مشكلة واجهت المجتمع العربي منذ بدايات النهضة أي منذ ما يزيد على قرن من دون أن يتمكن من إيجاد مخرج.
وكلما سلك المجتمع العربي طريقاً للوصول إلى حلول، كشفت التجارب أنه يسلكَ متاهة أخرى لا تقل قسوة عما سبقها، وبسبب هذه الأوضاع يغترب المجتمع.
لذلك يسعى المجتمع العربي في ظل واقعه الهامشي، لتجاوز حاضره الهزيل، في ظل وعي الإنسان لهذا الوضع وإحساسه العميق بالاغتراب عن الذات المجتمع والدولة والمؤسسات، وهي بالنتيجة معاناة البحث الدائم للخروج من الحالة السائدة.
بقي أن نقول أن النظرة إلى الاغتراب متنوعة ومختلفة، فكل باحث يعرفه حسب مفهومه أو المفاهيم التي ينظر من خلالها للاغتراب، فعالم الاجتماع الأمريكي ملفتين سيمان 1959، يحدد خمسة مفاهيم مختلفة للاغتراب:
1ـ العجز 2 ـ فقدان المعايير.
3 ـ غياب المعاني 4 ـ اللا انتماء.
5 ـ وما يسمى الاغتراب الذاتي.
وقبله أجرى الباحث الأمريكي أنتوني ديفيدز في جامعة هارفرد بحثاً ميدانياً، خلص إلى نتيجة أن مفاهيم الاغتراب خمسة:
1 ـ التركيز على الذاتية 2 ـ عدم الثقة
3 ـ التشاؤم 4 ـ القلق 5 ـ الاستياء.
نصل إلى نتيجة من خلال التعريفات والأبحاث أن هناك وجهات نظر مختلفة من خلال النظر إلى الاغتراب، أي هناك إشكالية في تعريفه وذلك حسب المعرف والباحث، إلا أن الجميع متفق على أن الاغتراب حالة تعاني منها المجتمعات وبالأخص المجتمعات الحديثة.الكتاب: الاغتراب في الثقافة العربية ـ متاهات الإنسان بين العلم والواقع.
الكاتب: د. حليم بركات.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية ـ أيلول ـ بيروت 2006.