قصة قصيرة: (20) الوجـه الآخر لناديـة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

مع اللحظات الأخيرة لوداع آخر خيط من نهار الأربعاء، الرابع من أيلول عام 2002، المشحون بضوضاء مولد كهرباء جارهِ، والمطعم بنكهة حرارة أواخر أيام الصيف التي، على ما يبدو، طاب لها الاسترسال في البقاء، تسللت عتمة لا تفتقر إلا إلى الشموع لتكتمل إنارة المكان ..... وسط هذا الجو المكفهر، دلفت إلى شرفة مكتب الترجمة وتدريس اللغات الأوربية، كهله في خريف عمرها، تصاحبها شابة خيل للأستاذ المحاضر بأنها ابنتها أو زوجة ابنها أو جارتها. وللتو، توقع أن يكون غرض زيارتهما له هو ترجمة مستمسكاتهما الرسمية. بيد أن حدسه اخطأ هذه المرة.
رحب بهما حسب الأصول، ودعا السكرتيرة (م)، أن تضيفهما، لكنهما اعتذرتا شاكرتين. وفجأة رن جرس الهاتف الذي يبعد بضعة أمتار عن الشرفة. ثم مضى كي يرد عليه، فيما أكمل الحوار معهما فني الكهرباء (غ)، الذي تزامن وجوده معهما وقتذاك. دقائق معدودة مضت ثم عاد إليهما الأستاذ، فإذا بالسيدة وقد اندمجت في حوارٍ شائق معمق مع فني الكهرباء، كأنهما أصحاب منذ أعوام ! إلا أن عيني الشابة نادية أوحتا له وكأن لسان حالهما يقول: "لقد أطلت الغياب، يا أستاذ "!!! "
أحس، للتو ، بأن ثمة خيطاً روحياً دقيقاً شده إليها من غير سابق ميعاد، مما جعله تواقاً لإماطة اللثام عن كنهه. وعرف من ملامـح وجهها بأنها شابة، ثلاثينية، طافحة بالأنوثة المتقدة، والحيوية المتدفقة، والغارقة بالآمال والطموحات البريئة. وربما كانت تنحدر من أسرة مرموقة ..... كان اللون العسلي الداكن يطغى على عينيها، المؤطرتين بكحل أحسنت اختياره، شع منهما وميض خافت لحزن دفين، يكاد لا يفارقها. فيما كان يبدو أنها أمضت وقتاً ليس بالقصير معتنية بماكياج وجهها رغم أنه نضر ومعبر. على أن شعرها الذهبي الأملس انساب ، بدلع ، على كتفيها البضين، فيما زين الاسم (نادية) ، بالحروف الإنكليزية المجسمة ، المتدلي من السلسلة الذهبية، عنقها البرونزي، إذ كان يبدو أنه مصنوعٌ من الذهب الخالص، عيار (21)، أو هكذا خيل له. وكان يبدو أن ذلك الاسم وفر عليه الكثيرً من العناء، كما اختزل الكثير من الأسئلة والوقت إذ بادرها مباشرة قائلاً:
"أهلا، ست نادية والسيدة التي معها. "
فوجئت بهذه التحية ثم قالت :
"لابد أنك تعرفني !؟"
"وأخال أنك تحبذين اللغة الإنكليزية ، أليس كذلك؟"
" وأعجبي ! كيف عرفت ؟"
"أحزري........"
وهنا قطعت السيدة حوارها مع فني الكهرباء ومضت تقول :
"
يا أستاذ، لابد وأن الموظف الذي دلنا عليك أعطاك فكرة عن نادية!"
"ومن يكون ذلك الموظف ؟
"انه مسئول دائرة البريد في حينا، والمكنى بالسيد (م) ."
أجابها قائلاً:
"كلا، يا سيدتي . فاسم نادية يزين عنقها. وبما أنه مثبت باللغة الانكليزية. إذن لابد وأنها ميالة لتلك اللغة."
أجابته السيدة قائلة:
"أحسنت، وهو كذلك ." ثم أردفت تقول:
"إن السيد، (م) أشاد بك كثيراً جدا، ناهيك عن إشادته بإمكانياتك التدريسية الهائلة. ولهذا وجدتنا في مكتبك كي نبرم الاتفاق معك على عملية التدريس بكل تفاصيلها. وبدءاً أقول إنني أمها. وقد كرست كل حياتي لأجلها، ولأجل شقيقتها، المتزوجة، والمقيمة في السويد، إضافة إلى ابني الوحيد،(......................)، خصوصاً بعد وفاة والدهم."
شرع يسألها أسئلة عامة، إلا أن أمها كانت تجيب بدلا عنها، مما دفعه الفضول إلى الاستفسار منها قائلاً:
"هل سأدرسك أنت أم سأدرسها ؟"
عاجلته بالإجابة قائلة :
"لقد أحرجني تلعثمها في أجابتك، مما حداني إلى حسم الموضوع، والإجابة بدلاً عنها ."
سألها:
"بما أنكما متفقتان على تدريسي نادية مادة اللغة الإنكليزية، أليس الأجدر بي أن أطلب منها تقديم نفسها بنفسها وباللغة الإنكليزية ذاتها ؟ إذن، دعيها تعبر كما تشاء كي أعرف من أين أنطلق في تدريسها"
أرخت نادية العنان لأفكارها كي تتدفق بحذر أنثوي لبق أخاذ، وقد تورد وجهها، ناصع البياض، وهي ترفع، بشكل لاشعوري ، يدها اليمنى المثقلة بثلاثة أساور من العيار الثقيل ذهبا، ومحبس فخم تلألأ مستقرا في إصبعها الوسطى، لتزيح شعرات تدلت بجاذبية على وجهها المعبر، وهي تتحدث بلغة العم سام:
"إنني ........ ولدت بتاريخ ........ في مدينة ........ واحمل درجة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية ........ بجامعة......... "
قاطعها قائلاً:
"أتمزحين يا نادية ؟ أنت زميلتنا إذن وليس طالبة ! ماذا سأضيف لك ؟ بإمكانك تطوير مهاراتك اللغوية الحالية بالاستعانة بالكتب والقواميس والأقراص الليزرية والحاسبة والانترنيت إن تمكنت من ذلك في الجامعة فقط، خصوصا وأنك لست طارئة على هذه اللغة الحية ."
استجمعت الأم أفكارها، وبدأت التدخل ثانية، ومضت تقول:
"
قم أنت مقام ما ذكرت آنفا، يا أستاذ, واعلم بأنها تحضر للحاق بشقيقتها في السويد على جناح السرعة. أرجوك، ركز عليها، وليكن الغد اليوم الأول للشروع بتنفيذ المهمة، ودعك من الآليات الأخرى."
تسارعت عقارب الساعة بشكل غير مألوف، فإذا بشمس الخميس تستطع ، والأستاذ مشدوه بالعينة الأنثوية الملفتة للنظر، وعلامات الاستفهام ما برحت تتراقص في مخيلته، وأخماسه تضرب أسداسه، وكأن نادية، بسحنتها الدافئة، وطولها المعتدل، وبقوامها الممشوق، ومشيتها الرقيقة ، شاخصة أمام عينيه. لقد كان يبدو وكأنه انقلب، بقدرة قادر، من مدرس إلى أديب، يقتنص المفردات البلاغية المعبرة، ويهيم في بحر من الخيال بقارب ضاع مجدافاه ! كان يسأل نفسه ثم سرعان ما يجيب:
"اسمها الثلاثي هو (................). إذن فهي، بلا شك…… لكن صورة القديس، ............ المثبتة على ساعتها التراثية الواسعة، التي طوقت معصمها، فكت رموز اللغز بسرعة، وأضفت جوا بانوراميا أخـاذا عليها، أماط اللثام، لاسيما عن أناملها التي شع منها لون خمري بهيج، فيما استقر في بنصرها محبس ذهبي تعلوه فصوص ثمينة نادرة.
دنا موعد المحاضرة، وتطلع المحاضر إلى الساعة الجدارية، فإذا بعقاربها تشير إلى تمام التاسعة والنصف صباحا. ولفرط دهشته فاح عطر باريسي مركـز، أعقبه وقع أقدام تناغمت مع نوتة موسيقية شجية. فإذا به أمام أنثى متكاملة.
حيته، فرد عليها بأحسن منها. ثم أخذت مكانها. وهكذا بدا الحوار:
"
اسمك الثلاثي واللقب."
."................................................ ............................."
لفت نظره لقبها، وتأكد بأنه ليس غريبا عليه. ثم أردف يقول:
"أي متكلم لا يجيد اللغة إلا بممارستها. "
قاطعته ، مستأذنة:
"اجل. ذلك صحيح، يا أستاذ."
"إذن ، لنبدأ المحاضرة. حدثيني عن نفســـك، هواياتك، طموحاتك، شهاداتـك، نشاطاتك، ممارستك. تحدثي عن كـل شي بانسيابية وبدون تكلف وبســـرعة. ودعيني أصحح أخطاءك اللغويـة إن وجدت، ومن خلاله يتعمق الحوار ويتجذر."
تحدثت عن كل شي بســخـاء منقطع النظير، دون تحفظ، وهو يصحح لها حينا ويضيف لها أحيانا. كان يدون، على غير عادته، أفكارها، ويستنبط الأسئلة كأنه في جلسة تحليل نفسي. ويبدو أن الأسلوب التربوي الصارم نوعا لديه راق لطالبة العلم المثابرة، بحيث راحت تجزل العطاء في البوح عن مكنوناتها بلا تحفظ، يحدوها الأمل في إتقان التعبير. وقد بادلها المشاعر بصدق، فأنشدت إليه وكأن عقدة لسانها قد حُلت، وكأن عقلها الباطن قد وجد الفرصة السانحة كي يبوح بما يعتمل في أعماقه، طارحاً خزينه المتراكم من التساؤلات على طاولة الدراسة بانسيابية .
انتهت المحاضرة الأولى بكل تفاصليها الممتعة، وتأبطت أوراقها، وتأملت واجبها ألبيتي، وانصرفت مباشرة إلى عملها، كطباعة كومبيوتر في مكتب (.............).
لقد كانت الابتسامة العريضة مرتسمة على محياها، وبريق عينيها يبعث برسالة مفادها أن كل شيء سار على ما يرام في بحر تسعين دقيقة وكأنها تسعون ثانية ! وهكذا توالت المحاضرات بانتظام. في حين سجل المقرر التعليمي لها غيابين فقط بعذر طيلة مدة الدراسة: الأول حين داهمها مرض الأنفلونزا، والثاني حين اضطرت لقضاء أمور منزلية ملحة. كانت الخطوط البيانية للمحاضر تسجل استقراراً في مواظبتها وسلوكها وتفاعلا إيجابيا مع المحاضرات. فيما كانت مثالية في استجابتها لواجباتها ألبيتية. كما أثبتت أنوثتها الرقيقة، وطموحها اللا محدود ، عبر ساعات الدراسة المحدودة، فلم العجب ؟ أليست نادية خريجة جامعية !؟
وعبر ساعات المقرر التعليمي المتواصلة، تجسد الوجه الآخر لنادية، في كونها منظرة فيلسوفة أكثر منها طالبة...، تكره القيود، وتحب الحرية، وتتوق إلى الانعتاق. ومن سياق إجاباتها، خصوصا الإنشاءات التحريرية منها، توصل المحاضر إلى أنها كانت تحب الحفلات والاختلاط، وتعشق الدبلوماسية والأتيكيت. كما كانت تقدس العمل، كأن لسان حالها يقول :
"
يجب على كل الفتيات العمل حتى ولو امتلكن كنوز الدنيا. فسر نضرتهن يكمن في عملهن."
ولعل أطرف ما ميزها بالبراءة والعفوية عدم خلو حقيبتها من الحلوى وقطع الشكولاته، التي كانت تقدمها للأطفال متى ما تواجدوا مع ذويهم في المكتب أثناء تلقيها المحاضرات. كانت لا تجيد سوى الابتسامة لغة للتعبير، بحبال صوتية ناعمة لا تخدش طبلة الأذن، فيما وظفت عينيها للإجابات التي لا تتطلب طويل وقت. كان الجلوس معها لا يمل قط.

لقد أضحت شغوفة برفد ذاكرتها الطفولية البريئة بكل المفردات الإنكليزية المثيرة، التي لم تسمع بها عندما كانت على مقاعد الدراسة الجامعية، هذا، ناهيك عن أنها كانت شديدة اللهفة إلى اقتناص التعبيرات الشبابية المعاصرة وتدوينها. إنها كانت أشبه بالأيقونة في سكونها إذ كانت تسمع أكثر مما تتكلم مؤمنة بالقول المأثور":إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب! "

ولأن الإنشاء التحريري كان أفضل ميدان لصقل ملكتها الأدبية، فقد لجأ المحاضر إليه أملا في سبر غور شخصيتها الشفافة من ناحية، والتلذذ بأفكارها التي لم تلوثها إفرازات الإحباط والتشاؤم والصدمة بعد. لقد لفت أحد الإنشاءات باللغة الانكليزية نظر أستاذها، لدرجة اعتبره انعكاسا صادقا لما يعتمل بداخلها من عواطف وأحاسيس وليس نسجا من الخيال ، رغم العدد المحدود للكلمات الواردة فيه. كما اعتبره لمحة قلميه وجيزة لمذكرات امرأة تثير الفضول وكأنهـا وثيقة رسمية على قدر كبير من الأهمية، بما جاء فيها من بصمات حددت هويتها كفتاة تدير الأعناق أينما ذهبت!