لقد ارتقينا وأصبحنا نتَّبِع "الإيتيكيت" و"الجنتلمانية" في كلِّ شيء، حتى في التعامل مع من يختلف معنا معتقديا (!!)
فنحن بعد أن لم نعد نستطيع "حرق مخالفينا بالنار"، ولا "قطع رؤوسهم بالسيف"، إذا كانت معتقداتهم تمسُّ مصالحنا ومكتسباتنا، أو تهز أركان وأساسات معتقداتنا، أصبحنا نكتفي بوصفهم بـ "الشواذ"، أو بـ "المنحرفين"، وإذا كان حُنْقُنا عليهم شديدا، سارعنا إلى وصفهم بـ "الإرهابيين"، حتى لو كانوا يدافعون بالقلم والقرطاس، عن حقٍّ اِغْتُصِبَ منهم بالمدفع والصاروخ (!!)وكأن كلمة "شاذ" أو "منحرف" أو "إرهابي" في هذا الزمن، تختلف كثيرا عن "محارق" القرون الوسطى، وعن "مقاصل" سيافيها (!!)الا فلنفهم أن لكل زمان كهنته وسيافوه الذين وإن اختلفت أدواتهم في معاملة مخالفيهم، فإنهم يلتقون عند نقطة مركزية واحدة هي "الإقصاء" و"الإبعاد" و"التصفية"، بصرف النظر عن كون ذلك كان في الماضي "فيزيائيا"، ليصبح في الحاضر "معنويا" (!!)
فمعايير التصفية والإقصاء قديما كانت هي "القتل"، أما معاييرها اليوم فقد أصبحت هي "المنع" (!!)
إن "قتيل الماضي" هو نفسه "ممنوع اليوم" ولا فرق (!!)
وإذن فلا داعي لادعاء الارتقاء الذي لم يحدث سوى في أدوات "القتل" التي أصبحت "ناعمة" و"مُخَدِّرَة"، بعد أن كانت "خشنة" و"فَجَّة"، وليس في التعاملِ مع مبدأ القتل الذي ما يزال تعاملَ "اعترافٍ" و"إقرار" و"تقديس" بل و"حاجة ماسَّة" أيضا (!!)
إن حضارة اليوم لم تعمَد كي تختلف عن حضارة الماضي سوى إلى تغيير "أدوات القتل"، فيما أبقت على "فكرة القتل" ذاتها دون أيِّ مساس (!!)
فكم هو بائس وتافه حجم التغيير الذي اعترى الحضارة، لتنتقل بواسطته من ممارسة "القتل الخشن" إلى ممارسة "القتل الناعم" (!!)