كاترين تغني..!!
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

... العربنجية "كاترين" من مغتربي مدينة حلب في ولاية فيرمونت الأمريكية ،،
صوت "كاترين" من الأصوات النقية : أم كلثوم على شكيرا على أم مهلبية...و شكلها بالملامح الشرقية شكل نانسي على هيفا على أم عبدو الحلبية..
كانت أمنية "كاترين" الالتحاق إلى مسابقة "أرب أيدل" أو "أحلى فويس..." إلا أن الحيلولة في تحقيق هذا الحلم سببه أن أم كاترين هي أمٌّ من الأمهات المحافظات اللواتي يرفضن لبناتهن الخوض في هذا المضمار.. و السبب الثاني هو تأزم الحالة الاقتصادية من جراء حروب الربيع الأمريكي ، فاضطرت "كاترين" للعمل عربنجية في معبر الموت في ولاية فيرمونت ...
نعم في معبر الموت اختارت كاترين أن تعمل "عربنجية" أي سائقة عربة ، و هي عربة تــُدْفع باليدين ، و لا تجرّ بالحمار ...
كانت كاترين بصوتها الحنون تجتذب الزبائن حين تغني : " اركب الحنطور و اتحنطر"..أو ."بحبك يا حمار" ليظن الزبون أنه هو الحمار المقصود في هذا الحب العذري فيتجه بحمولته إليها مباشرة و قد يعاونها في دفع العربة أو جرِّها...
العربنجية "كاترين" معروفة في معبر الموت في المدينة المحاصرة... ، و معبر الموت هو المعبر الواصل بين قسمي المدينة المتصارعة...، و قد سمي بهذا الاسم لأنه يـُقتل يومياً من المدنيين من شخص إلى عدة أشخاص...؛؛... هي نسبة ضئيلة فيما لو قورنت بعدد العابرين من هذا المعبر الذي قد يصل عددهم إلى ألف شخص بالدقيقة الواحدة في أوقات الذروة ...
و "مالووو" لو قتل كم شخص...
و "مالووو" لو قلنا يا عيني على معبر رفح..
و"مالووو" !!!
لقد ضاعت كاترين في تحليلها لحركة العبور الرهيبة مع رائحة الموت في كل لحظة من ذلك المعبر.. ضياعها هذا كان يجعلها تتساءل في لحظات : هل حركة العابرين هي حيوية شعبٍ يُحتضر ، أم أنها آلام مخاض لمرحلة مقبلة من الصعب أن تـُختصر!!
و مع ذلك فحين تغني "كاترين" و تباشر عملها ،، فإنها تضع هذه التساؤلات جانباً لتقطع أسخن مناطق المدينة بهمةٍ عالية..
نعم تغني مهملة كافة النظريات التي يستخدمها العابرون ، و تلقيها لتستطيع العمل بحيوية و دون وجل...
أهم تلك النظريات التي يستخدمها العابرون في المعبر :
"نظرية السير رملاً مع القطيع ...نظرية الانبطاح ، و نظرية الزحف .."
هي تتأسف من استخدام أبناء مدينتها لتلك النظريات , و لكن بالمقابل تعذرهم فهم في حالة اضطرارية للتفادي من الاشتباكات المفاجئة ،،، أو قذيفة الفجأة ،،، أو طلقات القناصة الفجائية..
كاترين العربنجية بعضلاتها المفتولة القوية تقوم بحمل الحقائب ، أو البضائع ، و أحياناً العجائز و المرضى في عربتها الخاصة..
و حين ينتابها التعب تتوقف عن الغناء لتباشر بالصياح :
"ذل قرشك...عز نفسك"
لتبقى حالة اجتذب الزبائن العابرين متواصلة..
مع أن كاترين تدرك أن ما يعيشه العابرون هي مرحلة من أقسى مراحل الذل ، فهم مرغمين على أمرهم ، مضطرين للتنقل من هذا المعبر الوحيد لإنجاز عمل ، أو لصلة أرحام ، أو لمتابعة مرض ، أو تجارة ، أو قد يكون السبب نزوحاً و هروباً من مناطق ساخنة إلى أكثر أمان..
تقف كاترين على أحد طرفي المعبر طالبة الرزق الحلال في معبر طوله حوالي كيلو متر ...،، بدايته حاجز عناصره مدججة بالسكاكر.. و نهايته عناصر معادية للأول مدججة بالشوكولاتة.. و الويل ثم الويل لو اشتبكت السكاكر بالشوكولاتة...
ما يلفت الانتباه في المعبر هو تناثر المتسولين في المعبر الذين يغردون :
"بس خمس ..يا حمامة ..الله يـْرَجـْعِكْ بالسلامة
بس خمسة يا حبي ...من كل داء يشفيك ربي..."
فإن أراد أحدهم التصدق عليهم .. لا مانع .. , و لكن بشرط أن يكون مجهزاً صَدَقـَـته من بداية المعبر حتى لا يتلبك بإخراجها فيقنص على حين غرة...
ما يـُـمَيـّز "كاترين" هو عِـزَّة نفسها و عِفتها ، فتتعفف عن مدِّ يد التذلل كما يفعل أولئك المتسولين..
و "كاترين" تعلم كل العلم أنَّ لدى العابر احتمالان في حالة قـَنـْصِ الذي يسير أمامه :
ـ فإما أن يكون صاحب نخوة ، و يستغني عن روحه ليسعف المصاب...
ـ أو أن يدوس على جثة المقنوص ، و يجري كالغزال ناسياً مشهد الدماء..
" كاترين" من القلائل الذين يتحلون بتلك النخوة ..رغم تعرضها للقنص أكثر من مرة من جراء مدِّ يد العون للمصابين..
....كانت تلك صورة عامة لطبيعة المعبر و طبيعة كاترين معاً
...أما الآن تبدأ قصة "كاترين" القصيرة ..

"كاترين" تحمل والدتها المحتاجة لعملية غسيل الكلى فتنقلها بعربتها لتقطع المعبر ...، فالمشفى المختص في القسم الثاني للمدينة المقسَّمة...
و فجأة ذُعِرَت "أم كاترين" من الطيران الذي اخترق جدار الصوت.. ، فأَخَذَت "كاترين" تهون على والدتها بالغناء لها :
طــيري يا طيارة طيري يا ورق و خيــطان
بدي ارجع بنت صغيرة على سطح الجيران
ثم أخذت تناغش والدتها : ما رأيك أن أتطوع ؟؟؟
ـ دخيلك ،، تتطوعي !! لنصرة من !..أحسبك ذكية ، و أنك لا تحبين حمل سلاح الأغبياء .. أما كفانا تقتيل بعضنا البعض...على رقعة الشطرنج هذه...
ـ قصدي أتتطوع للغناء في "أرب أيدل" أو "أحلى فويس"!!
و في تلك الأثناء ،، و قـُبيل العبور أوقفها الحاجز ليسألها عن حمولتها في العربة ، و ليؤكد لها بأن خروج المعلبات من منطقتهم ، و غذاء الأطفال ، و الحفاضات هو أمر ممنوع ، و كذلك الخبز ، و الطحين ممنوع ، و الفوط النسائية و اليومية ممنوعة ...
و الغريب لم يسألها عن قطعة سلاح مهربة أو عبوة ناسفة أو حتى فرد رشاش ماء ...
فأجابته مُشيرة إلى والدتها : أحمل أجمل صبية , و ربطة خبز , و قوت يومنا ..
فصاح العنصر : أما هذه الحيزبون فلا حاجة لنا بها ...
ثم كبـَّر على ربطة الخبز ، و طعامهم و قال لهما : أصبح الخبز و الطعام حلالنا و بإمكانكما الآن العبور..
قامت العجوز "أم كاترين" من العربة ناسية ألمها ، و أمسكت العنصر من زمارة رقبته ، ثم حضنته ، و كبرّت عليه ثلاث تكبيرات ، و قالت له : و الله إنك الآن أصبحت حلالي ...خذني معاك...!!!
فأجابها مذعوراً : خذي خبزك و حلـّي عني كنت عمــ أمزح معك!!
تعبر ..أم كاترين...و تعبر كاترين...معبر الموت...
هو القدر ...
أن تصاب أم كاترين مع هذا العبور ...
بطلقة عابرة.. بطلقة طائشة ...
بل بطلقة قناص مقصودة...
عندها تبدأ أم كاترين بالاحتضار.. ،، و تقول لابنتها خذي هذه المجرفة ، و احفري قبري على قارعة الطريق قبل أن يلقوا بجثتي في نهر الموت ...
تذكرت "كاترين" أن العابرين بدؤوا يستعينون بنظرية جديدة مع النظريات الثلاثة للعبور هي نظرية العبور مع المعاول و المجارف...فالمقابر أضحت من سابع المستحيلات الوصول إليها ...يعني لا الحي "خلصان" و لا الميت "خلصان"...
حاولت كاترين القوية الصمود... لكن أبت دموعها أن تتماسك فتناثرت كاللؤلؤ المنضود ، و كأن تلك العَبـَرَات تتوعد باليوم الموعود .. تتوعد بأن :
" الثورة الحقيقية لم تبدأ بعد ، و لكنها ستبدأ حينما تصبح شعبية بكافة أطيافها عندها ستنزع صدورنا سلاح الأغبياء..."
عندها صاحت دون أن تتمالك نفسها : أغبياء قتلوكِ يا أمي ..قتلوكِ الأغبياء..
بدأ الناس يهرولون ,,, و دون نخوة على أم كاترين يدوسون ...
لم يبقى بين جموع العابرين سوى "كاترين" و والدتها...
"كاترين " و أمّها في عالم آخر قد نسيا أنهما في معبر الموت في فيرمونت..
عندها أسدلت الأمُّ عينيها على دندنةِ ابنتها التي تجهشُ بــ :
"ست الحبايب يا حبيبة يا اغلى من روحي ودمي
يا رب يخليكِ يا أمي ...يا ست الحبايب يا حبيبة.."
بقلم : فادي شعار