-
ليس الهجر كله حرام بل منه ما هو حرام ومنه ماهو مباح .فالمحرم منه ما كان سببه منصباً على تحكيم الهوى ورعونات النفس والانسياق في سعار الشهوات .ويفضي إلى حقد دفين يملأ كيان صاحبه .وهو ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام " فقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزمن المعقول لمراجعة النفس ودراسة الموقف وعلاج الأسباب الباعثة على الهجر وذلك خلال ثلاثة أيام فإن عاد المسلم إلى أخيه والتقيا في إطار علاقة صحيحة فنعم ما حصل وإن استمر الهجر فوق ثلاث فقد تجاوز الحدود ودخل المحظور .تلك أول خطوة بل الخيط الفارق بين الهجر الحرام والمباح .لكن ثمة آية تحدثنا عن لون من الهجر مباح .قال الله عز وجل :" فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا " خطاب قرآني في قمة الرصانة والروعة تلمح فيه مراعاة واضحة للواقع الاجتماعي ، إزاء لون من العلاقات الاجتماعية السلبية ألا وهو الهجر الجميل المقترن بالصبر على ما تسمع من ألوان الكلام ربما سبة أو شتماً أو كلاماً تنزه عنه سمعك .فاقترانه بالصبر رفع عنه وصف القبح وحكم التحريم ,
وارتقى به إلى الإباحة,بل الجواز,ولا مبالغة في ذلك.فكيف يلزم المؤمن أهله ونفسه بهدي القرآن العظيم في هذه القضية؟ أن يدرك ما أحدثه القرآن من انقلاب في هذه العلاقة
فنقلها من في هذا الجانب من السلبية إلى الإيجابية.ومن التحريم إلى الإباحة. وأن يتعلّم المعطيات التي تدخل الهجر ها هنا تحت وصف الجمال.ومعلوم أن الجمال الّذي نراه أو نشعر به في الأشياء من حولنا كالطبيعة,والإنسان والأفكار, والقضايا الّتي تمس العقل والواقع.يدخل السرور والبهجة على القلوب,فتنشرح الصدور,وترتاح النفوس.إنّ نظرة معمّقة في السّماء في ليلة مقمرة,تدخل البهجة والسرور,وتثير شعور العظمة المصحوب بنشوة غريبة.وهلاّ رأيت طائراً متعدد الأوان حسن الصوت ؟!أو كلمات تفيض بالروعة والجمال خطّها قلم شاعر أو أديب.وبوارق الجمال وأنواره تلحظها في القرآن الكريم يتلوه قارئ حصيف بصوت نديّ.ولمحات الجمال في الكلمة النبوية,تأخذ بمجامع قلبك.كما في
الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان,
أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما,وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلاّ لله,وأن يكره أن يعود في الكفر,كما يكره أن يقذف في النار." فجمال الكلمة النبوية,تلحظه في هذا التعبير اللطيف الراقي"وجد حلاوة الإيمان" أنه الجمال القلبي الّذي تتألّق أنواره في القلب,ويبعث في كيانك تلك النشوة الّتي لاتجني لذّتها إلاّ أنت,ولا تعيشها إلاّ أنت.
وتلحظ في العلاقات الاجتماعية على تشعّبها جمالية الحبّ والودّ والتآلف,ذلك نسغها وروحها,وإذا توارت عنها هذه الأوصاف فقدت عنصر الجمال.وانقلبت إلى مجرّد علاقة عنوانها المصالح الدنيوية تبنى على أساسها وتنقطع بانقضائها.
إذاً ما هي اللمحة الجمالية في الهجر الّذي سمّاه الله تعالى جميلاً ؟ المسحة الجمالية هنا تسطع من مشكاة الصبر.الّذي يستنهض في كيان المؤمن طاقة إ يمانية تحمله على الثبات والتحمّل لما يسمع من غيره من هجر القول,فيقابله بتروّ وهدوء,ولا يهبط إلى مستوًى لا يليق به كمؤمن آثر غيره أن يهبط إليه وتمرّغ في أوحاله في الدنيا ويلقى الله ساخطاً عليه يوم القيامة ويزجّ في النار إن لم يدركه عفو الله عز وجل.هذا وإن من جماله إعطاء الفرصة
لمن انساق وراء ثرثرة لسانه وقبح كلامه ليحاسب نفسه,فلا مجال له إلاّ إذا وفقت هذا الموقف الإيماني.ومن جماله أيضاً,الإبقاء على حدّ أدنى من الصلات الاجتماعية, كالتحيّة في أبسط ما تحصل به"السلام عليكم"لعلّها تفتح طريقاً للشعور بالخطأ.
ومن جماله الراقي أنّه لا ينطوي على بغضاء وحقد . بل قمة الجمال تبدو فيه بسلامة الصدر ونقاء السريرة الّتي تدخل صاحبها الجنة يوم القيامة.ومن لمحات الجمال في هذا اللون المباح من الهجر,إ شعارك أخاك المؤمن بأهميته,وحرصك على قربه في إطار علاقة
معتدلة.فهلاّ هجرت جميلاً؟ بعيداً عن رعونة النفس وثورة الغضب.فإنّك إن استطعت أن تضبط نفسك,وتتخذ القرار الصحيح من هذه الزاوية . فاعلم أنّك قد أطعت مولاك والتزمت منهج السّماء وفي ذلك خير لك وربح عظيم في الدّارين.