علال الفاسي .. مقاصد الشريعة من أصول الفقه
د. بوبكر جيلالي
المقصود من مقاصد الشريعة عند علال الفاسي"1910-1974" هو«الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها».[1]
لقد اعتنى العلماء باستكشافها لأن الإسلام دين عقل وفكر ونظر، وأن الفعل الإلهي مبني على ما فيه صلاح الإنسان وعمارة الأرض، وهذا مؤكد في النصوص الدينية. وعلاقة الإنسان بخالقه أزلية تقوم على «عقد رباني إنساني، هو السرّ في خلق الله للكون وفي تكريم الإنسان وامتحانه بأنواع التكليف».[2]
أحكام الله هي خطاباته الإلهية موجهة للإنسان لتنظيم سلوكه الجوارحي والقولي والفكري الباطني. والخطاب الإلهي هو أساس التشريع، والأعمال الإنسانية هي موضوع الأحكام الإلهية، فوظيفة الشريعة «هي التعريف بصفات الأعمال الإنسانية وتبيين مفعولها وأثرها وعلاقتها».[3]وهي تقوم على الوجدان الإنساني وليس على قوة السلطة الخارجية، وغايتها مصلحة الإنسان باعتباره خليفة في المجتمع الّذي هو منه وأمام الله الذي استخلفه لإقامة العدالة وتحقيق السعادة الفكرية و الاجتماعية والطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة.
الشريعة الإسلامية تنبني على كون الإنسان نفسه حامي العدل والحق، ولا يكفي فيها التكليف بظاهر القضاء والقانون، بل كلّفت الإنسان بأن يُنصف غيره من نفسه ولو كان القانون والقضاء في صفّه. لذا ميّز الفقهاء بين ما هو ديني وما هو قضائي، «وقد أطلق الشارع اسم المكلّف على كل مسلم وغيره إشارة إلى أن المواطنة الإنسانية في الدولة الكونية إنما تقوم على شعور كل واحد بالمسؤولية في إحقاق الحق وتطبيق القانون الإلهي وضمان حرية الإنسان وكرامته، فالمكلّف في هذه الدولة هو المواطن وشعوره وسلوكه هما منهجه الأخلاقي، وواجباته هي عمارة الأرض والخلافة عن الله في استصلاحها».[4]
إذا تأسست فكرة العدالة خارج الشرائع اللاتينية والإنجليزية، فإن الشريعة الإسلامية مصدرها الوحي القرآني والسنة والاجتهاد الذي «هو بذل الجهد في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة بطريق المنطوق أو المفهوم أو القياس، فالعدالة في الإسلام من صميم التطبيق للأحكام الشرعية وليست نظرية مستقلة عنها».[5]
إن مقاصد الشريعة والأدلة الأصلية جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، والمقصد العام هو عمارة الأرض، وحفظ النظام تعايش فيها، «واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كُلّفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع».[6]
يستشهد علال الفاسي في حصر المقاصد في قول ابن القيم في كتاب 'أعلام الموقعين'، «وجماع المقاصد ما قاله ابن القيم: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها».[7]
أمّا التشريع بالمعنى العام هو السلطة التشريعية التي تمثل الدين والعرف والقضاء والفقه، والتي تضع القواعد أو تستنبطها لتكون ملزمة في تنظيم العلاقات داخل المجتمع وفقا للتدابير المقررة في ذلك. أما في معناه الخاص فهو تلك القواعد القانونية ذاتها.
أصول الشريعة في الإسلام الكتاب والسنة، وأضاف الجمهور من أئمة السنة إلى ذلك مصدرين هما الإجماع والقياس، وأضاف جمع آخر من الأئمة الاستحسان والمصالح المرسلة و الاستصحاب ومراعاة العرف وسد الذرائع.
القرآن كلام الله هـو مصـدر التشريع المجمل و التشريع المفصّل وغيره، والقصد منه هداية الخلق وإصلاح البشر وعمارة الأرض، وسبيل ذلك التربية والتعليم والإرشاد. والتشريع القرآني هو أقوى أدلة الإعجاز، أما السنة فهي عند الأصوليين «ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير من جهة دلالته على أحكام الشريعة»،[8]وهي متواترة وأخبار آحاد. إذا لم يكن هناك نص قطعي من القرآن ولا ظني من السنة فإن الحجة تُؤخذ عن طريق الدليل النظري بالإجماع أو القياس.
الإجماع في الاصطلاح هو «اتفاق مجتهدي الأمة بعده عليه السلام في عصر من الأعصار على حكم من الأحكام، قال الشافعي في الأم؛ ولا يكون عن قياس أو اجتهاد ولأنهم لو اجتهدوا لم يتفقوا».[9]أما « القياس عند الأصوليين فهو إلحاق فرع غير منصوص بأصل منصوص عليه لمساواته له في علة حكمه».[10]تبدأ عملية القياس من استنباط العلة (المناط) و هو تخريج المناط ثم التأكد من اعتبار العلة شرعا بنص أو إجماع أو استنباط و هو تحقيق المناط ثم التأكد من تساوي الواقعتين في العلة و من ثم في الحكم وهو هدف القياس.
ويأتي الاستدلال نوعا خاصا من الأنواع الأدلة و طريقة العقل المحض وهو ليس نصا و لا إجماعا و لا قياسا و هو على أنواع، منها نفي الحكم لانتقاء مداركه و منها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر. هذا الاستدلال المنطقي لا يفيد في عصرنا ما يصح الاحتجاج به، لكنه يُبرز تفتح الذهن الإسلامي و انفتاحه للنظر في كل ما يمكنّه من الوصول إلى اليقين.
من أنواع الاستدلال الاستصحاب، يقول به أئمة المالكية و يعني «اعتبار الحكم الذي ثبت في الماضي بدليل مصاحبا لواقعته و ملازما لها حتى يوجد دليل آخر يدل على زوال هذه المصاحبة».[11]ويتجلّى الاستصحاب في خمس صور هي البراءة الأصلية و النص حتى يرد التغيير، و العموم حتى يرد التخصيص والوصف الثابت شرعا حتى يرد ما يغيّره، والحال في الماضي أو الاستصحاب المقلوب.
أما أصل الشرائع السابقة فهو مرتبط بشرائع ذكر أمرها في القرآن أو في التوراة والإنجيل، و اختلف العلماء في حجية هذا الأصل، و يقول علال الفاسي في هذا الأصل: «و عندي أن مقاصد الشريعة لا تأبى أن تستـفيد من تجارب السابقين و من شرائعهم إذا كـانت تندرج تحت أصل عام من أصول الشريعة وأخرى إذا ذكرها الرسول وأكدّها».[12] و يضـيف «ومن حسن الـحظ أن الاتجاه العالمي لدراسة الشرائع المـختلفة و مقارنتها ببعضها سيـعمل على التقريب بينها، لأنها كلها تبحث عن طرق الإنصاف وتحقيق العدل بين الناس».[13]و« الاستحسان هو إيثار دليل على دليل يعارضه لمرجح يعتد به شرعا».[14]ومن أنواع الاستحسان مراعاة الخلاف عند الإمام مالك و يُعرف بأنه إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه و مثال ذلك «قولهم في النكاح المختلف في فساده أنّه يفسخ بطلاق و فيه الميراث. فقد روعي الخلاف بترتيب الميراث وبضرورة الطلاق لحلّ ميثاق الزوجية واعتبر مع ذلك فسخا».[15]
أما المصلحة المرسلة أو الاستصلاح عند الأصوليين هي تشريع الحكم في حادثة لا نص فيها و لا إجماع، بناء على مصلحة مرسلة أي مطلقة أو ساذجة لم يرد عن الشارع دليل باعتبارها و لا بإلغائها وهي مشروطة عند المالكية بثلاثة، اتفاقها مع مقاصد الشرع و معقوليتها في ذاته و حفظها لأمر ضروري أو رفعها لحرج لازم في الدين.
ومن الحنابلة "نجم الدين الطوفي" المتوفى سنة 716هـ الذي وقف عند شرح الحديث النبوي "لا ضرر و لا ضرار" فتوصل إلى نظرية كبيرة الأهمية لم يسبقه إليها أحد، و هي «اعتبار المصلحة و تقديمها على جميع الأدلة، و قد كان لما عمله "الطوفي" شفوف عظيم في العصر الأخير حينما بدأ المسلمون يبحثون عن وسائل التطور في فهم أحكام الشريعة و التوفيق بين مقتضياتها و بين حاجات العصر الحاضر».[16]
لقد اعتمد "الإمام مالك" عمل أهل المدينة في استنباط بعض الأحكام لاعتبارات عدة، منها قربهم من موقع الوحي وهم حديثو عهد بالنبوة وبالتشريع وباجتهاد الصحابة الأوائل. أما العادة باعتبارها أصلا فهي عند البعض «ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة».[17]ولم يفرق الفقهاء بين العرف و العادة، «فالفوائد و الأعراف تعتبر سببا للأحكام الشرعية فهي بهذا الاعتبار من مصادرها».[18]
ويعتبر سد الذريعة أصلا في التشريع الإسلامي و يعني أن الشريعة منعت المفسدة ابتداء، كذلك منعت ما فيه المفسدة نهاية، و يعرّفه البعض بأنه منع ما يجوز لكي لا يتطرق به إلى ما لا يجوز، و لم تعتبر الشريعة الذريعة من ناحية سدّها فحسب بل اعتبرتها من جهة فتحها، و سدّ الذريعة الفساد أما فتح الذريعة فهو الصلاح.
و يأتي الاجتهاد باعتباره استفراغ الوسع في طلب العلم بالأحكام و استنباطها من أدلتها التفصيلية يمثل العلم الذي وضعه الإسلام ليشرك به المجتهدين في التشريع، وهو ما يجعل الشريعة الإسلامية مرنة تتطور مراعاة للمصلحة العامة والخاصة في جميع الجهات و في كافة الأزمنة. ولما كانت الشريعة واحدة والفهوم عند أهل الاجتهاد متعددة فإن التباين في الأحكام يعود إلى عدة أسباب، مثل الخصوص و العموم، والرواية والنقل والإباحة والتوسيع، ومعرفة هذه الأسباب تمكّن الباحث من معرفة وجهة نظر كل فريق من المجتهدين، ومعرفة المجهود المبذول من قبل كل مجتهد لتطبيق الأحكام المستنبطة على أحوال البيئة التي يعيش فيها.
إن فهم مقاصد الشريعة على أكـملها شرط أول لبـلوغ مرتبة الاجتهاد ومراعاة المصالح مقصد أساسي، حيث توجد قواعد فقهية تقيّد المصلحة بالمقاصد مثل تحمل الضرر الخاص على اعتبار رفع الضرر العام، ودفع المفسدة أولى من طلب المصلحة. و قاعدة اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها. كما أن مكارم الأخلاق تمثل مقياسا لكل مصلحة عامة وأساسا لكل مقصد من مقاصد الإسلام، وفي هذه المكارم أصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع، من عفو وعرف و إعراض عن الجاهلين، وهي قواعد مستنبطة من القرآن، فالأخذ بالرفق وتجنب التكليف والأمر بالمعروف والتحلّي بالتواضع والدعوة إلى السلام هي من أخلاق الفطرة مقيّدة للمصلحة ومبيّنة لمقاصد الشريعة.
أما الجانب الاجتماعي في الإسلام مُصان بالقصد الأساسي من الدعوة الإسلامية التي تنفي أي شريك عن الله، « وهو تحرّر الإنسان من الخضوع لأي إله آخر مع الله، ولا سيّما هؤلاء الطغاة الذين كانوا يتعبدون شعوبهم من فراعنة ونماردة وأمثالهم من كل ملك جبار يعطي لنفسه صفة الإلوهية في الأرض أوصفة التمثيل الإلهي الذي لا يحده قانون ولا يتعرض عليه إنسان».[19]ومصدر السيادة والحكم في الإسلام هو القرآن والعمل به وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بها، وإجماع أولي الأمر، وعرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة في الكتاب والسنة.
وفي إطار الوجود الاجتماعي الإسلامي، تكون الأمة وحدة سياسية دون اعتبارات جغرافية، وهي أوسع من الدولة بالمعنى الحديث والمعاصر، فقيام «الدولة نتيجة قيام الأمة وسلطتها الآمرة الناهية».[20]
إن التكّيف في الإسلام يحلّ محل المواطنة في العرف الديمقراطي الحديث، ويقترن التكليف بأداء الواجب وطلب الحق الذي يضمن أداء الواجب مثل حق الحياة، حق الأمن والسلام، حق الكرامة، حق الحرية الفردية والسياسية وحرية البحث العلمي وحرية العمل وحق الملكية مع مراعاة التعاون الاجتماعي وحفظ المساواة والعدل بين الأفراد وبين الدول وفي القضاء.
والقاعدة الأصولية الأصلية التي لم يتنبه إليها علماء الأصول حسب علال الفاسي هي قاعدة أمر الإرشاد، ومن الأمثلة لذلك قوله تعالى في تعدد الزوجات «فإن خفتم أن لاتعدلوا فواحدة».[21]فقد أرشد الشارع إلى الاكتفاء بواحدة عند الخوف من اللاّعدل، «فأي مانع من الاعتداد بهذا الأصل الذي هو أمر الإرشاد، والذي يتحقق بتحقق ما يقصد إليه الشارع في أمر معين».[22]
إن هذا البحث في مقاصد الشريعة ومكارمها يُعدّ لدى علال الفاسي من جوهر وروح و صميم علم أصول الفقه، به تجاوز نظرية المقاصد الشاطبية، ولم يكن على منوال البحوث والكتابات التي تلت الشاطبي من حيث المادة والمنهج معا، فمن حيث المادة الأصولية المقاصدية جاءت ثرية بحقائق تاريخية وواقعية ودينية عن الإسلام وعن القانون و عن الأصول وعن المقاصد و عن الإنسان وعن الدولة والأمة وعن حقوق الإنسان وعن مكارم الأخلاق وغيرها. أما من حيث المنهج فقد اعتمد على أسلوب العرض والتحليل والنقد والاستنتاج وهو منهج شمل الموضوع من كافة جوانبه، وجمع بين الجديد والقديم في موضوع المقاصد وأصول الفقه في نظرة شاملة تتوفر على عنصري الانسجام والاتساق بين المقاصد والمصالح والأصول وفروعها. وتوصل إلى نتائج أثبتت كفاءة الفقه الإسلامي في تحقيق العدالة بأصوله وقواعده الذاتية دون اللّجوء إلى مصادر أخرى خارجة عنه، وأن ما تتضمنه الدعوة الإسلامية من مقاصد وأصول جعل الشريعة الإسلامية متفوّقة وتمثل بحق القانون الذي يضمن الوصول إلى العدل وهو مطلب كل شريعة.
الدكتور جيلالي بوبكر
جامعة حسيبة بن بوعلي، الشلف، الجزائر
.................
[1]علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء،المغرب، ص 3.
[2]المرجع السابق: ص 5.
[3]المرجع السابق: ص 7.
[4]المرجع: السابق ص9.
[5]المرجع السابق: ص41.
[6]المرجع السابق: ص 42.
[7]المرجع السابق: ص 50.
[8]المرجع السابق: ص105.
[9]المرجع السابق: ص114.
[10]المرجع السابق: ص 120.
[11]المرجع السابق: ص 127.
[12]المرجع السابق: ص 132.
[13]المرجع السابق: ص 133.
[14]المرجع السابق: ص 134.
[15]المرجع السابق: ص 136.
[16]المرجع السابق: ص 143-144.
[17]المرجع السابق: ص 151.
[18]المرجع السابق: ص 153.
[19]- المرجع السابق: ص206.
[20]المرجع السابق: ص 219.
[21]سورة النساء :الآية رقم 03.
[22]علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 241.