تسبَّبتُ اليومَ بحادثة طريفة، وأنا أحب التسبُّبَ في مثل هذه الحوادث، على ألا تُؤذي الآخرين، وهي لم تؤذِ أحدا على كل حال (!!)
كنت في منطقة "القُلَلي" وسط مدينة القاهرة، حيث موقف الميكروباصات المتجهة إلى مدينة "6 أكتوبر" حيث أسكن (!!)
صعدت إلى المقعد الأمامي في العربة التي يقع عليها الدور، لأجد نفسي أجلس إلى جوار شابٍّ وسيم وملتحٍ أخذ مكانه بيني وبين السائق، وكان منهمكا في قراءة القرآن من مصحف جيب صغير، ولكن بعينيه فقط، فأنا لم أسمع له صوتا (!!)
كانت سحنةُ الشاب توحي بأنه ليس مصريا، وهو ما تأكدت منه عندما سألتُ السائق سؤالا تقليديا كي أتأكد من وجهة الميكروباص (!!)
فقد انتبه الشاب للهجتي التي اختلطت فيها اللكنة الشامية باللكنة المصرية، ليتوقف عن القراءة، ويضع المصحف في جيبه (!!)
ثم لتبدو على وجهه علامات السعادة وهو يسألني بلهجة سورية غير مشوبة بأيِّ أثرٍ للكنة مصرية:
"إِنْتَ سوري" (؟!)
نظرت إليه وأنا أبتسم ورددت قائلا:
"نعم" (!!)
اهتم بالأمر وقال لي مبتسما:
"أهلا وسهلا، أنا زياد، سوري من حمص، وإنت من وين بسوريا" (!!)
فقلت له وأنا أنظر إليه على نحوٍ يساعدني على سَبْرِ ردَّة فعله على ما أنوي قوله، دون أن يشعرَ بأنني مهتم بالنظر إليه:
"أهلا أخي زياد، وأنا أسامة، سوري من عَماَّن" (!!)
قطٍّب جبينه مستغربا، فاختفت ابتسامته استغرابا، وسأل بطريقة توحي بالجدِّيَّة:
"شو عمان ما عمان، ليش هو فيه بسوريا ضَيْعَة اسمها عمان" (؟!)
أجبت وأنا على حالي لم أغيِّر فيها قيد أنملة، ولكن بهزِّة رأسٍ خفيفة تنطوي على التأكيد:
"لأ أخي زياد، عَماَّن مو ضيعة، هاي مدينة كبيرة" (!!)
وقد ازداد استغرابا:
"شو هالحكي، وين هاي، أول مرة باسمع بعمان في سوريا" (!!)
بفضول لمتابعة ردة فعله:
"مو بعيدة عن دمشق، شي ماتين كيلو للجنوب" (!!)
ثم وكأنه قد اكتشف أني أكذب أو ألهو أو أتمسخر:
"أي لا، إزا كانت كِلّْ سوريا جنوب دمشق ما بتزيد عن مائة كيلو، وبعدها بتيجي الأردن، كيف لكان بتقول إنها عَمَّان هاي بتيجي بعد دمشق بماتين كيلو للجنوب" (؟!)
ثم بهيئة من انتبه لأمر ما:
"إوعي يكون قصدك عمان عاصمة الأردن" (؟!)
غيرت نظرتي إليه دون أن أعلق، ولكني هززت رأسي هزة خفيفة دلالة الحَسرة مرفقة بمطة شفتين ذات دلالة على الموافقة (!!)
ربما فهم (!)
ربما لم يفهم (!)
ربما تسأءل (!)
لكنه صمت ومطَّ شفتيه بهزةِ رأسٍ تحتمل كلَّ المعاني، وقد شعرتُ بخجلِه الحقيقي على وجهه الذي أشاح به عني بلطفٍ (!!)
لم يتكلم أحدنا بكلمة طول الطريق ولمدة زادت عن نصف ساعة (!!)
نزلتُ قبله (!!)
وبعد أن أغلقت باب الميكروباص وأنا خارجَه، لوَّحتُ له بيدي وأنا ابتسم وقلت:
"الله معك أخي زياد" (!!)
فاستجاب بابتسامة حذِرة ولوَّح بيده قائلا:
"شكرا، الله معك رفيق أسامة" (!!)
"سوريا" و"عمان" (!)
"قرآن" و"رفيق" (!)
لم أتمالك نفسي فانفجرت ضاحكا (!!)
اندهش وبقي ملتفتا نحوي باستغراب حتى بعد أن ابتعد الميكروباص، وأنا ألوِّحُ له من بعيد إلى أن اختفت معالمه عن مدى نظري الضعيف أصلا (!!)
لكني توقفت عن الضحك، وقد أصابتني غُصَّة لم أشعر بمثلها من قبل، عندما تذكرت أن "ديفيد كاميرون" يناقش في هذه اللحظة مع برلمان دولته "الهجوم على سوريا" (!!)
لم يخطر ببالي في تلك اللحظة أن سوريا التي يتحدثون عن الهجوم عليها يحكمها "بشار الأسد"، أو "حزب البعث"، أو "17 جهاز أمن ومخابرات"، أو "مجموعة من القتلة" (!!)
وكل ما خطر ببالي أن سوريا التي يتحدثون عن مهاجمتها هي دُرَّة التاج الباقية من أيقونة التاريخ، كلِّ التاريخ، ومن كرامة الأمة كلِّ الأمة (!!)