عدنان كنفاني
السؤال الملحّ الآن، والذي يشغل كلّ فلسطيني وعربي وحتى أجنبي، وعلى إيقاع ما يجري في فلسطين، في كلّ فلسطين من تصدّ للاحتلال، هل سيتطوّر وضع المواجهات في فلسطين إلى انتفاضة شاملة ثالثة؟ أم هي هبّة فوران انفعالية، ثم تنطفئ؟
لا شك في أنه سؤال يصعب، في المرحلة الحالية وتداعياتها، الإجابة عنه، فإنّ أيّ إجابة قد تأخذ الأمور والأحداث إلى مسارب أخرى قد تكون بعيدة عن طموح الشباب الفلسطيني، وهم عمود هذه الهبّة، وقد تُحسب بطريقة ما على أنها «أيّ الإجابة» إذا جاءت سلباً، محاولة لفرض تراجع الزخم الذي نراه الآن، ولكننا في النتيجة، وفي مجريات الواقع الحالي، نحن أمام معطيات تفرض علينا ولوج موضوعة التحليل العقلاني لنخلص إلى «مشروع» جواب لهذا السؤال الهامّ، والذي يقف عنده العالم كله وهو يتابع بتحفّز وقلق وتوتر هذا الذي يجري.
لم تتوقف انتفاضات الشعب الفلسطيني منذ نكبة عام 1948، وحتى قبل ذلك إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، ولم يتوقف النبض المقاوم عن ممارسة دوره بطرائق متعدّدة من منطلق الفهم المسؤول والواعي للشعب الفلسطيني بأنه صاحب الحق المطلق في فلسطين، كلّ فلسطين، بغضّ النظر عما جرى في أوسلو وما تبع ذلك من اتفاقيات مهينة، وفي الطروحات والشعارات المتنوّعة المزيّفة أصلاً لأنها لم ولن تتوافق مع المشروع الصهيوني الساعي إلى دولة عنصرية يهودية، ومن ثم السيطرة «عسكرياً أو اقتصادياً» إلى مدى ما يصل إليه «الجندي الإسرائيلي» حسب طروحاتهم، بما يتجاوز «من النيل إلى الفرات» بمراحل، إذ لا يوجد حتى الآن مخطط جغرافي يبيّن حدود «دولة إسرائيل» في الوقت الذي يؤمن فيه الشعب الفلسطيني، «ولا أقول السلطة أو حكومة غزّة أو حتى الفصائل كلّ على إيقاع مصالحهم» بأنّ فلسطين، كلّ فلسطين وطنه وبلده والمكان الذي يملكه، يولد فيه ويدفن فيه، وفيه تاريخه وتراثه وماضيه وأحلامه، وهو «أيّ الوطن فلسطين»، كما تصوّره الذاكرة الفلسطينية، وثقافة التوريث المستمرّة بين الأجيال هو الوطن الجميل بكلّ ما فيه، والفلسطينيون أصحابه وأبناؤه، والصهاينة موجة من المحتلين اغتصبوا الأرض، ارتكبوا أبشع المجازر على مدى المرحلة، وطردوا أهلها، ووقفت إلى جانبهم، ودعمتهم قوى عالمية مكّنتهم من مواصلة الاحتلال، وتفوّق القوّة، ورغبة التوسّع، وإذلال الشعب الفلسطيني وقمعه بكلّ الوسائل الهمجية دون حسيب ولا رقيب، ودون مساءلة ولا عقاب ما فرض على الشعب الفلسطيني أن يكون المبادر في كلّ هبّة، يعلن عن نفسه ويتمسّك بالثوابت التي يؤمن بها، لم يحد عنها، ويقدّم التضحيات تلو التضحيات بسخاء، ويستولد من ثقافة المقاومة ثقافات تصبّ دائماً في مسيرة نضاله، وحتى استرجاع حقوقه.
لقد استطاع الفكر الشيطاني الصهيوني أن يستفزّ الفلسطينيين من خلال مشروع ترتيبات جديدة أعلن عنها في هذه المرحلة الدقيقة لتقسيم الوقت بين يهود ومسلمين في الملكية الحصرية للمسلمين في المسجد الأقصى وساحاته وما حوله، ناهيك عن الاستفزازات شبه اليومية باقتحام المسجد والمقدّسات من قبل «المستوطنين» وبحماية العسكر، وتصدّي «المقدسيين» المتواصل والبطولي لحماية الأقصى من دنس المحتلين، هذه التراكمات فجّرت الغضب الفلسطيني نصرة لمدينتهم ومقدّساتهم وفلسطينهم في هبّة غضب لم تخرج عن مسيرة النضال الفلسطيني في وجه الاحتلال، ومنذ العام 1948 وحتى الآن، من خلال هبّات لم تتوقف، وانتفاضات مستمرة شكلت علامات مضيئة في مسألة الصراع المصيري بين المشروع الوطني الفلسطيني، والمشروع الصهيوني الاحلالي.
أمام هذه الاستفزازات المقصودة، وليس بمعزل عما يجري في المنطقة، وفي سورية على وجه التحديد، بل وفي جنوب سورية بوجه الخصوص في منطقتي ومحافظتي درعا والقنيطرة، وتبخّر الحلم الصهيوني بإقامة منطقة عازلة، وابتلاع هضبة الجولان نهائياً، ومنع المقاومة من التمدّد لتوسيع نشاطها إلى قلب الجولان، ما يعني توسّع وتصاعد الفعل المقاوم على الكيان، وفي تماس المباشر معه على الأراضي التي يحتلها سواء في جنوب لبنان، أو في الجولان السوري المحتلّ، وحتى في الداخل الفلسطيني، وأعتقد أنّ عقلية هذا الكيان أوحت له أنّ الشباب الفلسطيني، وخلال فترة الاحتلال الطويلة، وتهالك الممسكين بالقضية الفلسطينية، وحالة الانقسام وتفكك القرار الفلسطيني الموحد المواكب لتطلعات الشعب، تَعِب، أو تدجّن، أو وصل إلى حالة من اليأس اقتربت به من الاستسلام، وبخاصة الشباب الفلسطيني في عمق الأرض الفلسطينية فلسطين 1948 ليفاجأ حقيقة بردّ الفعل غير المحسوب الذي دفع الفلسطينيين في الداخل وفي الضفة وغزة، وفي الشتات إلى هذه الهبّة، وللأسف يا وحدهم ، بدأت بردّ فعل غاضب، مسيرات وتظاهرات، وتصادم مع قوات الأمن والجيش «الإسرائيلي» هنا وهناك، بالصدور العارية، وبالحجر، ما دفع المحتلين إلى تصعيد فعل مواجهتهم، كما العادة، بقوة قمع مشبّعة وصلت إلى حدّ القتل والإعدامات العشوائية بدم بارد، ولم يتعلّم من دروس الماضي أنّ هذا الشعب لا يمكن أن يستسلم، ولا يمكن أن يتراجع عن حراكه النضالي ومواجهته لآلة الحرب الطاحنة مهما قدّم من تضحيات ودماء ومعاناة.
إنّ ما يجري الآن على أرض فلسطين من حراك نضالي هي «هبّة»، قد تصل، إذا صمدت وتطوّرت ولقيت الدعم الرسمي، إلى مستوى انتفاضة شاملة.
ولنفكر معاً في إيجاد جواب للسؤال الهامّ: هل نحن على أبواب انتفاضة ثالثة؟
من المفيد أن نمرّ على بعض معطيات، إذا تمكنا من إيجاد أجوبة لها سنصل بالتأكيد إلى صيغة جواب عن هذا السؤال.
الانتفاضة الشاملة الفاعلة بحاجة إلى حاضنة رسمية وشعبية، وبحاجة إلى دعم مادي ومعنوي، سياسي وتعبوي، وبحاجة إلى قيادة، وبرنامج وأهداف، ومن المفترض أن تتوسع وتمتدّ بين الشرائح العمرية للفلسطينيين، شباباً وكباراً، رجالاً ونساء، فهل يمكن أن تتوفر هذه الشروط؟
هل تستطيع «السلطة» توفير هذه الشروط بداية من الخروج من اتفاقية «التنسيق الأمني» مع قوات الاحتلال، والمكبّلة باتفاقيات جعلت من الضفة الغربية ساحة مناسبة لـ«إسرائيل» لنقل المواجهات إليها؟
وهل تستطيع حكومة حماس في غزّة توفير هذه الشروط في ظلّ حالة الانقسام المؤلم، وحالة الحصار، والبعد المكاني، وانشغالها بأمور خارجية، وتباين المصالح؟
ما هو الدور الي يمكن أن تقوم به الفصائل الفلسطينية؟ وهل تستطيع أن تخرج من عباءة الاتفاقيات المقيِّدة، كي تقدّم الفعل المقاوم المادي، ورفض موقف «منظمة التحرير» الذي يعلنه «عباس» في كلّ مناسبة، بما يعني شطب الكفاح المسلح، وأن لا انتفاضات، ولا سلاح، ولا مقاومة، والتشبّث بمسيرة التفاوض، وسطوة الدعم المادي لها، ثم تعمل على تفعيل المقاومة وهبة الشعب الفلسطيني بطرائق نضالية مختلفة، وهي قادرة على ذلك؟
ما الدور الذي يمكن أن يقوم به فصيلا حماس والجهاد الإسلامي كونهما خارج قيود «منظمة التحرير»؟ وهل يمكن أن يضعا المصلحة العليا للشعب الفلسطيني كأولوية مطلقة تسبق أولوية الانتماء الأيدلوجي؟
ثم نأتي أخيراً إلى مواقف الدول العربية، أو لنقل بعض الدول العربية التقدّمية وغير الرجعية من هذه الهبّة من خلال إعلان وبيان واضح، وعلى رأسها «جامعة الدول العربية»؟
كلّ ذلك يبقى رهن صمود الشعب الفلسطيني في هبّته الغاضبة هذه، وفي تطوير وتصعيد وسائل المواجهة ليرفض واقعاً جديداً على الأرض يدفع كلّ المتردّدين لمواكبة الحدث ولو من باب مُكرهٌ أخوك لا بطل …