بسم الله الرحمن الرحيم
محاضرة ألقيت في المؤتمر الذي أقامته جمعية التجديد الثقافية في البحرين بتاريخ 3\4\2010
محور الحريات الفردية ... { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر القائمين على جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية لدعوتهم لي للمشاركة في هذا المؤتمر الكريم، وأرجو أن أكون عند حُسن ظنهم، وظنكم، وأقدِّم ما هو مفيد، لتأخذ مشاركتي محلها مع مشاركات الأساتذة الكرام ليُشكلوا مع بعضهم رؤية ثقافية لموضوع مازال يُعرض ويُناقش بصورة مستمرة منذ بدء الوعي الإنساني على الأرض.
وهذا يدل على أن الجنس الإنساني ما زال إلى الآن يُعاني من الاضطهاد والاستعباد ويئن تحت رُكام من الظلم والاستبداد، فيحاول بهذه الصرخات المكتومة أن يُوصل إلى الفراعنة والهامانات أنِّي فيَّ رَمق من الحياة، ومازلت أتنفس تحت الحُطام، ومازال بي بَقيَّة من الحركة في بعض الأعضاء لم أستسلم للموت، ولم أيأس من النجاة، أريد الحياة، أريد أن أخرجَ من تحت رُكام التخلفِ والانحطاطِ، أريد أن أتنفسَ هواء الحريةِ، أريد أن أكسرَ قيودي وأتحركَ في ساحةِ بلادي، أنظُر لإخواني، وأبتسمُ في وجوههم، وأبدأَهُم بالسلام عليكم يا أحبابي، السلام عليكم يا معشر الناس.
عَجباً لماذا هم عابسون؟
لماذا ينظرون إلي شذَراً؟
لماذا لم يردوا السلام؟
ماذا حصل في الديار؟ مَن حرق البيادر وقطع الأشجار؟ مَن غرس شجرةَ الكراهية في قلوب الناس؟ مَن يسقي هذه الشجرة بالسم الزُعاف؟ إنها تحمل ثماراً كرؤوس الشياطين!.
عجباً؛ مازال الإنسان يُفسد في الأرض ويَسفِك الدماء!؟ لماذا يمتلئُ قلبُ الإنسانِ حُقداً وكراهية على أخيه الإنسان؟ حتى إن ذلك صار كأنَّه يجري في مجرى الدم عنده، بل إنَّه صار من بُنية عناصر الدم، ودخل في جيناته!.
لماذا نُوَرِّث الحقدَ والكراهية للأبناء في جيناتهم الثقافية، فيكْبُرون عليها، ويحقدون، ولا يعرفون لماذا يحقدون؟ لماذا تحقدُ أيها الإنسان على أخيكَ الإنسان؟ سوف نسمعُ أحدَ الأجوبة يترددُ صَداها: إنَّ الأبَ الخامس عشر بعد المائة لهذا الإنسان قتل جَدّي الثالث عشر حينئذ!. وأنا أريدُ أن أثأرَ له.
لماذا الآباء يَضْرُسون الحصرمَ ، والأبناءُ يتناولونَه.
لماذا الأجيال اللاحقة تعيش في الماضي السحيق؟
لماذا الأجيال الحالية تُوقف عجلةَ الحياةِ وتُرَجِّع دورانها بعكس الاتجاه؟
أسئلةٌ كثيرة، وآهاتٌ مريرة!!.
آن الأوان؛ إلى أن تقفَ أيها الإنسان {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ }الصافات24، وتحاسبَ نفسك، وتعيدَ ترتيب أوراقك الثقافية وأوْلوِّياتها، وتنطلقَ من محور الواجب، وتطالبَ بحقوقك، وتصيرَ فاعلاً ؛ لا منفعلاً{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء36، لن يشفعَ لك الآباءُ، ولن يفيدَك الأكثرية، ولم يكن، ولن يكن الآباءُ أو الأكثريةُ أو قِدَمُ الزمانِ برهانٌ على صواب فكرة أو أحقِّيَّتها، ورحم اللهُ الإمامَ عَليٍّ كرَّم اللهُ وجهَه عندما قال قولتَه المشهورة، التي صارت قاعدةً ثقافية: ويحك إن الحقَّ لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرَفُ الرجالُ بالحقِّ، اعرف الحق؛ تعرفُ أهله. والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبّع، ولو لم يكن معك أحدٌ، لأنَّ الحقَّ قوي بذاته.
أيها السادة الكرام
مفهومُ الحريةِ؛ مسألة حاول جَمهرة من الفلاسفة التشكيكُ بها، فنتجَ عن ذلك ردَّةُ فعلٍ لآخرين يحاولون إثباتها، فزاد الأمرُ تعقيداً وإشكالاً.
إنَّ كلمة (الحرية) من كلمةِ (حَر) صوت الحاء يدل على أرجحة شديدة مُنضبطة، وصوت الراء يدل على تكرار، وجمع الصوتين بهذا الترتيب (حر) يدل على أرجحةٍ شديدة بين أمرين، أو أكثر مع تكرار تلك العملية دون توقف. وظهر هذا المفهوم لدلالة كلمةِ (حر) في حركة الإنسان الواعي من حيث امتلاكه صفة الإرادة والاختيار بصورة لازمة لا تتوقف أبداً، فهو ينتقل من أمر إلى آخر حسب ما يشاء ويرغب.
فالجسم له حاجات عضوية ينبغي إشباعها، التي هي الهواء، والطعام، والشراب، والنوم، وطرح الفضلات، وكذلك للنفس حاجات نفسية ينبغي إشباعها، وعدم إشباعها يؤدي إلى هلاك النفس، وهذه الحاجات هي الحرية والكرامة، فعندما تُصادر حرية الإنسان، أو تُهدر كرامته يُصاب بحالة اكتئاب وحزن شديد تودي به إلى موت نفسي, فالحرية شعور نفسي بالحياة، لذا؛ الحرية تساوي الحياة، بل يضحي الإنسان بحياته الجسمية مقابل الحفاظ على حريته، لأن الحياة الحقيقية هي للنفس الواعية الحرة، والمعيشة للجسم.
وصدق مَن قال: انهض بنفسك واستكمل فضائلها..........فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وصدق مَن قال: الجسم فرس، والنفس فارس، ومعاً يصلان إلى خط النهاية.
ولذلك لم يتم ذكر الحرية في القرآن لفظاً أو إشارة، لأنه ليس من أسلوب القرآن ذكر ما هو تحصيل حاصل، فلا داعي لأن تُذَكِّر الإنسان أنه بحاجة إلى أن يتنفس رغم ضرورة ذلك، ولو فعلت؛ لوضعت نَفسك في محل السخرية، وكان خطابُك عبثاً وحَشواً لا قيمة له، لأن الحرية حاجة نفسية، وإشباعها ضرورة فطرية، وعدم إشباعها يؤدي إلى الهلاك أو الموت النفسي، والقرآن كله متعلق بالحرية، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة 256، فالخطاب التكليفي للإنسان برهان على حريته، ولولا ذلك لما نزل القرآن، ولم يتوجه في خطابه له، هل يُعقل أن يُخاطبَ القرآنُ إنساناً مقيداً بالسلاسل!؟
وهذا العرض يتناول أيضاً مَن يقول :إن القرآن لم يُحَرِّم الرق ( استعباد الإنسان) ولم يذكر ذلك في خطابه. وفاته أن الإنسانَ يُولدُ حُراً كريماً، وقد سجَّل التاريخ لنا مقولة عظيمة لأمير المؤمنين الفاروق عندما قال لعمرو بن العاص مستنكراً فعل ابنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.وبالتالي لا قيمة علمية لمن يُشهر مقولة: إن القرآن لم يتطرق إلى مفهوم الحرية، أولم يذكر كلمة الحرية رغم أهميتها الشديدة؛ وسواء صدر القول منه بسوء نية أم بحسنها، فهو على الحالتين يُظهرُ جهلُه بأسلوب القرآن، ويُغفلُ الجانب الفطري في الإنسان، ويتعامل مع الخطاب القرآني كتعامله مع خطاب الناس لبعضهم بعضا.فمسألة استعباد الناس كمسألة أكل لحم الإنسان ، هل يقول عاقل :إن القرآن لم يُحرم أكل لحم الإنسان!؟ لعدم وجود نص يذكره!! ويُشهر قاعدة ( الأصل في الأشياء الإباحة إلا النص)، بينما نرى القرآن استخدم نفور الإنسان وكراهيته فطرة وثقافة أكل لحمَ أخيه مثلاً لقبح أن يغتاب الإنسانُ أخاه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات12، والأقوام الذين يأكلون لحوم البشر هم قوم فسدت فطرتهم، وهبطوا ثقافياً، ونكَصوا إلى مرحلة الهَمجية البشرية، وبالتالي ينتفي عنهم صفة الإنسان، ولا يُلتفت إلى غياب تلك المفاهيم من الفقه التاريخي الذي وضعه فقهاء السلطة متأثرين بالأحداث الزمنية الراهنة حينئذ، لأن ذلك لا يُمثل القرآن،وبالتالي ينبغي التفريق بين الشرع الإسلامي الممثل بالقرآن فقط، والفقه الإسلامي الذي هو فهم بشري زمكاني، ونحن ملزمون بالشرع لا بالفقه .
- ومن هذا الوجه أيضاً يَظهرُ خطأ قول بعض الفلاسفة الذين أنكروا أو شككوا بحرية الإنسان، و طالبوا بالبرهان عليها، فمثلهم كمثل من يُناقش مسألة حاجة الإنسان العضوية للهواء والماء، ويُطالب بالبرهان عليها!.
- وكذلك مسالة الأخلاق وموقف بعض الفلاسفة منها والتشكيك بأصالتها، فالأخلاق منظومة مرتبطة بمفهوم حرية الإنسان بصفته كائن اجتماعي ضرورة، فالإنسان كائن ثقافي اجتماعي حر أخلاقي.
فهذه الحاجات النفسية، والحاجات العضوية هما حاجات ذاتية للإنسان على صعيد النفس و الجسم تنبع من داخله، وتتطلب الإشباع الخارجي.
ولقد أحسن قولاً من قال: أنا أفكر؛ إذن أنا موجود. ويمكن أن نستبدلها بمقولة: أنا حر، إذن أنا موجود. ولا يتغير المفهوم، لأن التفكير ثمرة للحرية، والحرية أساس للتفكير، فقولك: أنا أفكر. يتضمن قولك أنك حر، وإن قلتَ: أنا حر. يلزم منه قُدرَتك على التفكير، فالإنسان الحر هو القادر على التفكير والعطاء والإبداع، والإنسان المُستَعبد كَلٌّ على الآخرين، وعبء، ولا يُنتظر منه نهضة أو رُقي، وكذلك الشعوب المستَعبدة، هي شعوب مُتخلفة لا يمكن أن تنهض ما لم تُمارس حريتَها التي تدفعها إلى التفكير والعطاء، والحوار والاختلاف في الرؤى، فالشعوب الحرة، شعوب متقدمة ناهضة، والشعوب المتقدمة الناهضة هي شعوب حرة.
والحرية طريق أساسي للنهضة والتقدم والإبداع، وممارسة مقام الخلافة في الأرض.
وحرية الإنسان مفهوم ثقافي ذو بُعدين:
الأول: بُعد فردي متمثلٌ بالحريات الأربعة.
الثاني: بُعد اجتماعي يتعلق بحركة الإنسان في المجتمع وَفق معيار الآداب العامة، والعرف والنفع والضرر.
فالإنسان الذي يعيش وحيداً على قمة جبل تكون مساحة حرِّيَّتِه كبيرة جداً، إذ يستطيع أن يصرخ بأعلى صوته، ويمشي عارياً، ويقذف الحجارة إلى أي جهة يريد، بينما إنسان المجتمع لا يستطيع ذلك، فدائرة حريته تضيق وتنضبط لتفسح مجالاً لحق دوائر الآخرين في الوجود، فالإنسان الاجتماعي لا يعيش وحده، وإنما يعيش ضمن علاقات متشابكة بالغة التعقيد مع الآخرين، والتمرد الفردي الأعمى على نظام المعرفة، قد يقود إلى نفي القيم والمعارف المعمول بها بصورة مدمرة.
لذا؛ قيل: إن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، وهذه الضوابط الثقافية للحرية هي ضوابط اجتماعية يخضع الإنسان لها طوعاً ليستطيع ممارسة حريته الفعَّالة، لأن عدم خضوع الإنسان لهذه الضوابط تدفع الآخرين إلى اختراق دائرة حريته وإلحاق الأذى به، إذاً؛ الانضباط الثقافي الاجتماعي هو قانون يضمن ممارسة الحرية الشخصية بجانب حرية الآخرين دون اختراق أو أذى لأحد.
فالحرية مسؤولية وانضباط والتزام، والمسؤولية قائمة في أساسها على الحرية. فالحر مسؤول، والمسؤول حر، وإذا غابت الحرية انتفت المسؤولية، وإذا انتفت المسؤولية عن كائن ما فهو على واحد من ثلاثة أوجه:
الأول: لا يُسأل عن أمر لاتصافه بالعلم والعدل والحكمة بصورة مطلقة، وبالتالي لا يصدر منه إلا خير وحق وصواب، سواء عَقِل الناس مقاصد ومآل العمل أم لا، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } الأنبياء23، وهذا الوجه غير متحقق إلا بالله الخالق المدبر ويكون هذا المقام مقام الملك والرب الأعلى.
الثاني: فاقد الحرية والإرادة، فلا يُقدم على فعل شيء من تلقاء نفسه، وإنما يتلقى الأوامر من غيره، مثل الملائكة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } التحريم(6)، ومثل الناس الذين صاروا مُلك يمين لغيرهم (تابع اجتماعي واقتصادي من غير الصلات الأسرية) فهم من مقهوري الإرادة نسبياً.
الثالث: الكائنات الحية البهيمية، لا تُسأل عما تفعل لأنها فاقدة العقل والحرية.
والإنسان ليس واحداً من الأوجه الثلاثة، وإنما هو كائن عاقل حر ذو إرادة واعية، وصفات محدودة مكتسبة متنامية ينتمي إلى مجتمع في حياته، وبالتالي مسؤول عن أعماله كائناً مَن كان هذا الإنسان، ومهما كان منصبه أو مقامه في المجتمع، وهذا هو مقام الخلافة.
والإنسان الذي ينفي عن نفسه المسؤولية، هو إنسان ينفي عن نفسه العقل والحرية، ولكم أن تتصوروا رؤساء أو ملوكاً لبعض الشعوب العربية، يزعمون أنهم فوق المُساءلة الشعبية والقانونية، فكيف يكون هؤلاء دون مسؤولية ويحكمون الشعوب؟ وبمعنى آخر كيف يكون هؤلاء دون عقل وحرية، ومع ذلك يحكمون الشعوب، التي تدّعي العقل والحرية؟ إنها معادلة باطلة، جنون واستعباد يحكمان عقلاً وحرية!؟
الجنون والاستعباد لا يَنبُتان إلا في تُربة الجهل والانغلاق الفكري، فإذا أردنا أن نستأصل الجنون والاستعباد، ينبغي أن نحرثَ التُربةَ بمحراث الفكر، ونزرعَ الوعي والثقافة السلمية الإيجابية، فينبتَ العقلُ والحريةُ، ويصيران ظاهرة اجتماعية ينبثق منها قيادة راشدة للشعوب العاقلة الحرة.
وحرية الإنسان بشقيه ( ذكر وأنثى ) تظهر بصور أربع:
الأولى: حرية الفكر.
الثانية: حرية الرأي.
الثالثة: حرية الملكية.
الرابعة: حرية الشخصية.
وهذه الصور الأربع للحرية، منضبطة بثقافة المجتمع وَفق مفاهيمه عن الإنسان والكون والحياة، وما قبل الحياة وما بعد الحياة، وعلاقة هذه المفاهيم ببعضها، وبناء على كل ذلك يُشكل الإنسان قاعدة إيمانية يبني عليها نظام حياته، ويمارس حريته بموجبها، ويكون إنساناً فاعلاً يقوم بواجبه ويسأل عن حقوقه ويطالب بها، من باب قم بواجبك واحصل على حقك، ويظهر إنسانُ الواجب الفاعل، ويتقلص إنسانُ الحقوق المنفعل، ونتيجة اختلاف وجهات النظر لجواب القاعدة الفكرية (كيف ، و لماذا، وأين) ظهر ثلاث مبادئ على أرض الواقع وهم: المبدأ الإسلامي، والمبدأ الرأسمالي، والمبدأ الشيوعي، وتعاملوا مع الحريات الأربعة كل حسب قاعدته الفكرية.
- المبدأ الإسلامي قال: إن الإنسانَ كائنٌ اجتماعيٌ حر منضبط بثقافة الإسلام، وثقافة المجتمع، والدولة نظام للعناية بالمجتمع والفرد جزء منه.
- المبدأ الرأسمالي قال: إن الإنسانَ كائنٌ فرديٌّ حر يجري وراء إشباع شهواته، والدولة لحماية حرياته ولو على حساب الآخرين.
- المبدأ الشيوعي قال: إن الإنسانَ كائنٌ ابن الدولة فقط، والدولة نظام يرعى أفراده كرعايته للماشية.
والحرية لا تمارس إلاّ مُنضبطة بنظام ثقافي، وتتوسع دائرة الحرية كلما ازداد الإنسان ثقافة ووعياً، والعكس صواب، والذي يُوسِّع دائرة الحرية هو العلم والوعي، ومن هذا الوجه ظهرت العلاقة الجدلية بين الحرية والعلم.
فالرب عندما قال: إني جاعل في الأرض خليفة يقصد إني جاعل كائناً حُرّاًً في الأرض متمثلاً بمجتمع، وبالتالي فهو مسؤول، وهذا يقتضي وجود نظام كلي يُنظم ممارسة حرية هذا الإنسان بعلاقته مع المجتمع، وما ينبغي لهذا النظام أن يكون عينياً وذَرِّياً لأنه ينفي الحرية عن الإنسان ويمنعه من التطور، وإنما ينبغي أن يكون حدودياً وخطوطاً عامة، ويقوم على المقاصد لا على الأشكال، كما أنه ينبغي أن ينسجم مع غرائز الإنسان وحاجاته النفسية والجسمية.
إذاً، الإنسان كائن حر فطرة، كما أنه كائن اجتماعي ضرورة، ولا وجود لظاهرة الإنسان الفرد منعزلاً عن مجتمعه، لذا؛ ينبغي عند دراسة حرية الإنسان عدم استبعاد ظاهرة المجتمع، ومن هذا الوجه يصير لحركة الإنسان محورين متلازمين مع بعضهما لا ينفي أحدهما الآخر.
أحدهما فطري: الذي يقوم على الإرادة والاختيار والحرية والكرامة. والآخر اجتماعي: يقوم على الانتماء والانضباط بنظام المجتمع، وينبغي على الإنسان أن يتوازن بحركته وَفق المحورين، وما ينبغي على المجتمع أن ينفي ظاهرة الوجود الإنساني الفطري لأن الوجود الحقيقي إنما هو للإنسان، بينما المجتمع وجوده اعتباري وثقافي وضرورة لاستمرار الجنس الإنساني وممارسة مقام الخلافة لأن عمر المجتمع أطول من عمر الفرد، ومن هذا الوجه ظهرت العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع. والعلاقة بينهما ليست علاقة السن بالمسنن كما في المبدأ الشيوعي، حيث يصير الفرد جزءاً لازماً ثابتاً في المجتمع مقهور بحركته العامة ترعاه الدولة، وإنما العلاقة بينهما علاقة اللاعب مع فريقه، فنجاح الفريق نجاح للجميع، وخسارة الفريق خسارة للجميع، ولو كان الفرد حيوياً في نفسه وحقق شيء من التميز الفردي، ولكن لا يؤثر على الفريق ككل. وهذا يدفعنا إلى أهمية إيجاد النظرة الاجتماعية عند الفرد حيث يصير كل واحد منهم يَعُدُّ نفسه مسؤولاً عن نجاح المجتمع، ويبذل جهده لتحقيق ذلك، والمجتمع الناهض يحمل في داخله الأفراد الذين قصَّروا، أما الأفراد الناجحون المنفردون لا يستطيعون أن يحملوا المجتمع، ومَثلُ ذلك كمَثل مجموعة يركبون في سفينة في البحر، فالمحافظة على سلامة السفينة وأدائها؛ نجاة للجميع، وهذا ينبغي أن يكون هدفهم. لا علاقة للمجتمع بحركة الفرد الخاصة في معيشته، طالما أنه يملك الشعور بالانتماء الاجتماعي، وحريص على سلامته ونهضته، وبالتالي تكون دولته دولة العناية لا الرعاية.
لذا؛ الحذر من قهر الجانب الفطري في الإنسان لأن ذلك يَسلب من هذا المقهور مبرر الانتماء للمجتمع، وبالتالي لا يبالي إن غرقت السفينة أم لم تغرق؛ بل يمكن أن ينقلبَ ضد المجتمع ويحاول أن يهدمه، وهذا ما نراه الآن من أعمال تخريبية وإرهابية يقوم بها أبناء المجتمع جهلاً منهم بخطورة ما يفعلون!.
أيها السادة الكرام
إنها معادلة اجتماعية، الإنسان يحافظ على المجتمع وينتمي إليه، والمجتمع يعتني به ويمده بمقومات النهضة من خلال تحقيق الأمن والسلام له، والمحافظة على محوره الإنساني الفطري المتمثل بحرية الإرادة ووجود الكرامة، فيقوم هذا الإنسان الحر بالإبداع ورفد المجتمع بعوامل النهضة، وهكذا تتم عملية التفاعل الإيجابي بين الإنسان ومجتمعه.
وهنا يعترضنا أمر ربما يراه بعض الناس معضلة، وهو إذا كان القائمون على قيادة المجتمع فراعنة وهامانات، ويُقوِّضون بُنية المجتمع ويعتدون على حقوق الناس ويستعبدونهم، وبالتالي صار هذا المجتمع أشبه بالمجتمع العنكبوتي، يأكل أبناءه!!. فماذا نعمل للخروج من هذه المعضلة والمتاهة؟
أيها السادة الكرام
من المعروف تاريخياً أن أي خروج على المجتمع بالقوة هو أشبه بالعملية القيصرية سوف ينزف المجتمع دماً كثيراً، وسوف يبوء بالفشل الذريع فيما بعد، ولو استطاع أن يُزيل الفراعنة والهامانات الموجودين حالياً سوف يَحل محلهم آخرون ويُعيدون الكرَّة في استعباد الشعوب بثقافة جديدة لوجود القابلية للاستعباد نتيجة الجهل والانغلاق الفكري؛ إلى أن يُصاب المجتمع بالإحباط فيستسلموا لهذا الوضع، وتنتشر المقولات السلبية الانهزامية نحو: فالج لا تعالج، العين لا تقاوم مخرز، ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قاطع الرؤوس، إلى غير ذلك من المقولات التي سوف تصير فيروسات ثقافية يحملها الأبناء من الآباء إلى أن يظهر مجتمع سخيف ومُستحمر يحكمه مثلث الإجرام فرعون وهامان وقارون، ويتوارثون استحمار الشعوب.
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ }الزخرف54
ولا يوجد حل أرضي لهذه المعضلة؛ بل لابد من حل سماوي، وقد قام به الإله العظيم فبعث النبيين منذرين ومبشرين ومعلمين وهداةً للناس، فقاموا بتغيير ثقافة السخافة والاستحمار، ونشروا ثقافة الوعي والانفتاح، وَفق مفهوم السلام والعدل والنهضة التي تقوم على مُحْوَرَي حركة الإنسان الفطري والاجتماعي من خلال تدريب الناس على أن يكونوا أفراداً ضمن الفريق، ويحملوا ثقافته ويرون رؤيته، لا للأنانية والسلبية والانهزامية، ونعم للثقافة الاجتماعية، وبالتالي تنضبط حركة الفرد بنظام الفريق فلا يصدر منه ردَّات فعل انفعالية، ولا ينفرد بقرار يتعلق بالمجتمع، وإنما يُقيد حركته حسب الثقافة الجديدة التي يحملها، ثقافة المحبة للجميع ولا كراهية لأحد، والسلام للجميع لا غدر بأحد ولو أدار ظهره لنا، نهدف الحياة للناس لا قتلهم، {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }آل عمران119، وهذا ما أراده الخالق العظيم منَّا عندما سَجَّل في كتابه الكريم مواقف مُشرِّفة وعظيمة لمن سبقنا نحو قوله تعالى :
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }غافر28 هذا الرجل يحمل ثقافة (ربي الله) ثقافة تقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، إنها قاعدة ودافع للجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله من خلال الحرية والسلام والعدل ليحظى برضا الرب الأعلى.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }البقرة62.
إنه رباني الثقافة، وماذا يعني ذلك سوى المحبة والسلام والعدل والتعاون والنهضة، وعمارة الأرض بالخير والصلاح، والعلم والإيمان والقيم، إنه إنسان ربَّاني من التربية والتعليم والأدب، هذا الإنسان السلمي الآمن في نفسه ولغيره، والفاعل في مجتمعه خيراً ونهضة، لماذا يريد الظالم أن يقتله ويعتدي عليه؟ لأن الحق والباطل لا يجتمعان، العدل والظلم لا يجتمعان، هما نقيضان؛ لذلك عندما سمع رجلٌ النبيَّ يقول: لا إله إلا الله. قال: سوف تقاتلك على ذلك العرب والعجم. أي الظالمين منهم، لأن ذلك خطر على عروشهم، فهؤلاء الظلمة والطغاة يستمدون وجودهم من الكراهية، والحقد، والتخلف، والانغلاق الفكري، والفساد في المجتمعات، هذه هي تربة السخافة والاستحمار المناسبة للفراعنة.
لذا؛ كل إنسان ينشر المحبة والسلام والعدل، ويساعد الناس على النهضة بالعلم والأخلاق، ويتحرك بصفته الاجتماعية هو إنسان عدو لدود للظالمين، ولو أنه سلمي وآمن في نفسه وعلى غيره، ويحب الجميع.
لذا؛ ينبغي على الإنسان المسلم الرباني أن يحافظ على صفاته الربانية،{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }آل عمران79، ولا يَصدر منه انفعالات، ولا يستَخِفَّنه الظالم {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ }الروم60، حتى يصير ذلك معلوم لكل الناس أو معظمهم، أن هذا الإنسان وفريقه الذي ينتمي إليه يحمل ثقافة ربانية سلمية غير عدوانية، فاعلة لا منفعلة، إيجابية لا سلبية، اجتماعية لا فردية، لا يريد من الناس جزاء ولا شكوراً، وإنما يقصد بذلك وجه الله ، ولا يريد إلا الإصلاح، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }هود88، وعندما يحمل هذا الفكر الثقافي الرباني الاجتماعي فريق من الناس يكونون هم نواة المجتمع الجديد، ويمكن أن يلتف حولهم الناس، ولا يملك الظالم أن يُهلكهم لانتفاء إمكانية وجود توجيه أي تهمة إجرامية لهم سوى تهمة قولهم: ربي الله!.
ونَقل لنا الله مَثل آخر هو ابنَي آدم بقوله: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }المائدة28، فالإنسان المسلم الرباني لا يمكن أن يبسطَ يده ليقتلَ أخاه إطلاقاً، هذا مفهوم ثابت في ثقافته الإسلامية، وهذا لا يعني أن لا يَبسطَِ يده ليمنع عدوان أخيه عليه بالحد الأدنى مع المحافظة على حياة أخيه قبل حياته هو، فالمسلم دائماً يلجأ في حلول مشاكله واختلافاته إلى الحوار السلمي الإيجابي الفاعل، وبعد ذلك {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً }الكهف29 ، ولكن لا أسمح لك بالعدوان عَلي، أو على الآخرين، ويجب أن تنضبط بالمحور الاجتماعي، وحر أنت بمحورك الشخصي.
أيها السادة الكرام
يجب أن نضع النقاط على الحروف، ونحدد المفاهيم، ونضبط المصطلحات لأن الظالم يلعب لعبته في تغيير المفاهيم وقلب الباطل حقاً، أو إدخال الباطل في الحق،. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة41
إن ثقافة السخافة والاستحمار لها مصادرها ورجالها الذين يُروِّجونها، لذا؛ ينبغي التحذير منها وتعريف الناس ببطلانها من خلال الدراسات والمحاضرات والمؤتمرات، واستخدام كافة وسائل الإعلام المتاحة.
إن الناس لا تثق إلا بما هو رباني المصدر لثقتهم بالله، وأنه لا يريد بهم إلا خيراً، ولا يأمرهم بالسوء والفحشاء، وهذا الأمر يدركه الهامانات، لذا؛ قاموا بوضع مصادر ألبسوها صفة الربانية من خلال تلبيس وتدليس على الناس، وخداع عقولهم، وليّاً بألسنتهم ليحسبوه من عند الله، وهو ليس من عند الله، فويل لهم مما يكسبون.
فالمصدر الإلهي الرسالي عند المسلمين المتفق عليه قاطبة دون اختلاف به هو القرآن فقط، وهو كتاب محفوظ بحفظ الله له، وهو موجود بين الناس جميعاً لا يُحابي أحداً، ودائماً معه شاهدين عدلين هما: الآفاق والأنفس، وبذلك قطع الطريق على الهوى والتعصب أن يدخل تحت ظلاله من خلال التفسير.
ولكن الهامانات لم ييأسوا، فقاموا بتحريف مفاهيم القرآن وابتدؤوا بلسانه العربي عندما جعلوا اللسان العربي اعتباطي النشأة، ونتج عن ذلك القول بالترادف والمجاز، ولكم أن تتصوروا كيف يمكن أن ندرس نصاً يعتمد على أصوات اعتباطية، وكلمات يصح أن نضع بعضها بدل بعض، وكلمات لا مفهوم حقيقي لها، وإنما هي مجاز، ولكل فهمه، وأبعدوا النص القرآني من المرجعية التاريخية وعدّوا قصصه للتسلية وعزاء للنبي ليس إلاّ، والغريب أنهم اعتمدوا التوراة والتلمود والفخّار والحجر مصادر تاريخية!!، وبذلك قلبوا التاريخ رأساً على عقب، وحرَّفوا الحقائق.
واخترعوا أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وألزموا الأمة بفهم المجتمع الذي زامن نزول النص القرآني، وقاموا بقطع نصوص قرآنية من سياقها لتقويلها بحجية الحديث النبوي، وأنه مصدر إلهي موازي للقرآن؛ بل تجرأ بعضهم فقال: السنة تقضي على القرآن، وما أحوج القرآن للسنة، ولولا السنة لهلك القرآن وضاع فهمه ودراسته. وعندما نجحوا في جعل حديث النبي مصدر إلهي، ووحي من الله موازي للقرآن في ثقافة المسلمين على مختلف أطيافهم، قاموا بدس المفاهيم والأحكام التي يريدونها بواسطة افتراء أحاديث على لسان النبي، ويكفي أن ننظر في معظم عقائد المسلمين ومفاهيمهم التي هي محل اختلاف بينهم، وتناحر وعَداء وحقد، هي مسنودة بأحاديث منسوبة إلى النبي ليعطوها قداسة، وقد نجحوا نجاحاً منقطع النظير، فها هي الأمة الإسلامية تقوم في معظم معتقداتها على هذه الأحاديث المفتراة، والمنسوبة إلى النبي، ولكل جماعة أحاديثها، ورجالها، وسندها، بل؛ اخترعوا ما أطلقوا عليه اسم علم الحديث، وصار طلبة العلم يغوصون فيه لسنوات كثيرة، بل؛ ويُضَيِّعون عمرهم في معرفة الرجال ظناً منهم أن هذا علم تنهض به الأمم، فزاد الأمر تخلفاً، وغاصت الأمة في وحل أسود نتن ؛ بل وصارت تحفر في قعره.
ولم يذكر التاريخ لنا أمة مغفلة، ومغلقة العقل، وتعتمد العنعنة، كما الأمة الإسلامية؛ حتى صارت أُمَّة حدثنا، وأمة القيل والقال، وأمة هجرت القرآن وجرت خلف ثقافة أهل الكتاب، وأغفلت الواقع والعلم، وحَكَّمت النصوص والأقوال، واستنطقت الأموات، وأغلقت أفواه الأحياء!.
فهذه أمثلة من التحريف التي قام بها ومازال الهامانات لإضلال الأمة ولاستحمارها، وإبعادها عن كتاب ربها، وبالتالي تبقى في مستنقع التخلف والفقر والجهل والتناحر والعَداء والحقد، وقَتل بعضهم بعضاً.
فالقرآن يجمعنا وما سواه يفرقنا {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103، القرآن يُنشئ ثقافة سلمية فاعلة إيجابية ينتج عنها المحبة والحرية، والثقافة الاجتماعية، ويأمر بالتفكير والسير في الأرض بحثاً ودراسة، ويكرس شعار التعايش السلمي الإيجابي، والتماسك الفاعل، والنهضة بالعباد والعمران.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13.
وأي دعوة لغير القرآن فهي دعوة طائفية مآلها الفشل، وسوف ينتج عنها الكره والبغضاء، والقتال في أي لحظة يقوم باستغلالها المستبدون والمستعبدون للشعوب، على صعيد الداخل أو الخارج, لذلك يقوم هؤلاء بدعم الدعوة إلى الحديث والفقه ونقد التراث، والتقارب المذهبي، وإقامة الندوات والحوارات الساخنة الصِِّدامية ، التي تقطر كرهاً وحقداً!! لترسيخ التخلف والذل، وعدم قيام الأمة برفع رأسها أبداً, واستمرارها بعلك المعلوك! وتقمص التاريخ , فالحذر، الحذر من هذه الخدع والحيل!.
فالقرآن هو المصدر الوحيد للتشريع الإلهي, وما سواه من أحاديث نُسبت للنبي، أو للأئمة، أو للفقهاء، أو غيرهم في أي زمان ومكان, هي مادة فقهية لا قداسة لها أبداً, وغير مُلزمة لأحد, وهي محاولة زمكانية مرتبطة بالأدوات المعرفية السائدة حينئذ لفهم النص القرآني صَلُح بها حالهم وارتضوها لمجتمعهم. أما نحن فقد قال الربّ جل شأنه مُعلِّماً لنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }البقرة134، فمادة الحديث وأقوال الأئمة والفقهاء، وغيرهم على مختلف الأطياف، مادة فرّقت المسلمين، وألقت العداوة والبغضاء بينهم , ووقعوا في ما وقعَ فيه أهل الكتاب من الغلو والتطرف، وصار لسان حالهم هو (ولن ترضى عنك الشيعة ولا السنة حتى تتبع ملتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى)!، وصار المسلمون من أهل الكتاب.
وتطرقت إلى هذه النقاط لأنها مصدر للإرهاِب والحقد والكراهية، وهي التي تُسيء إلى ثقافة (ربي الله ).
لذا؛ الحل هو تعرية هذه المفاهيم وإظهار عوارها وضلالها، وإقامة ثقافة سلميّة ربانية لينشأ عليها جيل رباني يتفاعل مع المجتمع إيجابياً ليصبغَه بالثقافة السلميّة الفاعلة لنصل إلى مجتمع راشد يخرج منه قيادة راشدة، ونِعْمَ الأمة التي تَصنع الأبطال، وبئس الأمة التي تنتظر أبطالاً ليصنعوها أو يخلصوها.
فالأزَمة، أزَمة غياب ثقافة اجتماعية راشدة تعتمد على القرآن والعلم، وقانون النفعية والأحسن للناس تحمي حريات الإنسان بمحوريها الفطري والاجتماعي، وهذه الثقافة الاجتماعية الراشدة هي صمّام الأمان، وهي جهاز المناعة الذي يحمي الأمة من الإرهاب والاستبداد والاستعباد، وقمع الحريات، وليس قانوناً يوضع حبر على ورق، لأن الأمة الحرة تصنع قانوناً، بينما القانون لا يصنع أمة.
أيها الناس
كلكم أبناء آدم , وآدم من تراب , لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى , وأنفعكم أنفعكم للناس. فلا للطائفية ! ولا للعرقية والقومية ! ولا للاصطفاء والفوقية ! ولا للأسرة والقبيلة, ولا للعنف والإرهاب.... إنها دعوات وروابط جاهلية منتنة !، ونعم للإنسانية، والحرية، والكرامة، والعدل، والأمن، والنهضة في مجتمع يقوم على المواطنة والعناية، لا على الاستعباد و الرعاية !، ويرفع شعار العلم والأخلاق أساس للنهضة والعمران .
وأرجو أن أكون قد وفقت في عرض مفهوم الحريات الفردية المرتبطة بالمحور الاجتماعي وكيف نحافظ عليها.
وشكراً لحسن إصغائكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مؤتمر الشرائع السماوية وحقوق الإنسان ... عودة إلى الجذور
جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية
مملكة البحرين
سامر إسلامبولي
السبت 3\4\2010
عذراً عن عدم ردي على الترحيب الطيب من الأخوة الكرام فيما مضى وذلك راجع لنسيان كلمة السر وعدم معرفة الإميل الذي وضعته وجربت ما عندي فلم يفلح شيء، فقلت سوف اسجل باسمي الاخير مرة ثانية.
فشكراً للمشاعر الرائعة ودمتم بخير جميعاً