*بمن أستجير من جورك* !
أعرابي كان متزوج بابنة عمه فاتنة اسمها سعدى ، كانت سنده و ملجأه لنوائب الدهر ، كان للأعرابي مال و إبل لكن مرت عليهم سنين من القحط ، ماتت إبله و لم يعد له مال ، فعلم أب البنت ( عمه) أن لم يعد للأعرابي شيء مما كان يملك ، فجاءه في يوم من الأيام فأخذ ابنته غصبا عن الأعرابي و انصرف بها . فهرع الأعرابي إلى الوالي الذي كان أنذاك هو مروان بن الحكم ، فاستدعى مروان بن الحكم عمه و زوجته فلما مثلا أمامه رأى مروان بن الحكم في زوجة الأعرابي شيئا شغفه بحبها ، فلم ينصف الأعرابي بل و أكثر من ذلك سجن الأعرابي و أرغمه على تطليقها ، لم يكن الأعرابي يريد تطليق زوجته فمرت عليه أيام عصيبة في السجن و بين فينة و أخرى كان رجال مروان بن الحكم يضربونه كي يطلق زوجته ، فلما رأى أنه سيهلك في السجن لا محالة من التعذيب طلقها و لما انتهت عدة الطلاق ، أعطى مروان بن الحكم ألف دينار لعمه و تزوج سعدى .
خرج الأعرابي من السجن بعد انتهاء العدة و ذهب لمعاوية بن ابي سفيان الذي كان أميرا للمؤمنين ، لما امتثل أمام معاوية قال :
معاوية يا ذا الفضل والحلم والعقل
ويا ذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مسكني
وأنكرت مما قد أصبت به عقلي
ففرج " كلاك الله "عني فإنني
لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي "هداك الله "حقي من الذي
رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجى عدله إن أتيته
فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
سباني سعدى و انبرى لخصومتي
وجار ولم يعدل وغاضبني أهلي
فطلقتها من جهد ما قد أصابني
فهل هذا يا أمير المؤمنين من العدل ؟
قال معاوية بن أبي سفيان و الله يا أعرابي لعمري سمعت شيئا مثل الذي تقوله و لكن إصبر فإنا سنأخد بيدك و نأخد حقك ، و صاح : يا نصر بن ذبيان يا كميت ، جاء نصر بن ذبيان و الكميت فقال لهم إذهبوا إلى مروان بن الحكم و إعطوه هاته الرسالة .
ذهب نصر بن ذبيان و الكميت إلى مروان بن الحكم فأعطوه رسالة معاوية لما فتحها مروان بن الحكم قرأ فيها :
ركبت أمرا عظيما لست أعرفه
أستغفر الله من جور امرئ زاني
قد كنت تشبه صوفيا له كتب
من الفرائض أو آيات فرقان
حتى أتانا الفتى العذري منتحبا
يشكو إلي بحق غير بهتان
أعطي الإله عهودا لا أخيس بها
أو لا ؟ فقد برئت من دين وإيمان
إن أنت راجعتني فيما كتبت به
لأجعلنك لحما بين عقبان
طلق سعدى وجهزها معجلة
مع الكميت و نصر بن ذبيان .
طلق فورا مروان بن الحكم سعدى و أرسلها مع نصر بن ذبيان و الكميت إلى معاوية ، و أرسل معهما رسالة إلى معاوية .
لما أعطوا الرسالة لمعاوية قرأ فيها :
لا تحنثن أمير المؤمنين فقد
أوفي بعهدك في رفق وإحسان.
وما ركبت حراما حين أعجبني
فكيف سميت باسم الخائن الزاني؟
أعذر فإنك لو أبصرتها لجرت
منك الأماني على تمثال إنسان
وسوف تأتيك شمس ليس يعدلها
عند البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت
أقول ذلك في سر و في إعلان
فلما امتثلت امام امير المؤمنين ، و سألها ، و بدأت تتكلم و تشرح ، انشرح صدر أمير المؤمنين لطلاقة لسانها و دلالها و أنوثتها ، فقال للأعرابي : يا أعرابي كيف إذا عوضتك فيها تلات جوار و مع كل جارية الف دينار و قسمة من بيت مال المسلمين مرة كل سنة ، فشهق الأعرابي حتى ظنوا أنه مات .
فقال الأعرابي : أشر بال وأسوأ حال، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم ، فممن أستجير من جورك؟
ثم أنشأ يقول:
لا تجعلني والأمثال تضرب بي
كالمستغيث من الرمضاء بالنار
أردد سعدى على حيران مكتئب
يمسي ويصبح في هم وتذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق
وأسعر القلب منه أي إسعار
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها
وأصبح القلب عنها غير صبار؟
غضب معاوية بعد سماعه لكلام الأعرابي فقال : أنت طلقتها و مروان طلقها و سوف نخيرها أترجع لتعيش معك او تختار سواك فزوجناه بها .
و التفت إلى سعدى و قال لها : ما تقولين يا سعدى؟ أيما أحب إليك ، أمير المؤمنين في عزه وشرفه وسلطانه وما تصيرين إليه عنده ، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره ، أو هذا الأعرابي في فقره وسوء حاله؟ فأنشأت تقول:
هذا وإن كان في فقر وإضرار
أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عامله
وكل ذي درهم عندي ودينار
قالت: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان ولا لغدرات الأيام! وإن لي معه صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى! والله إني لأحق من صبر معه الضراء كما تنعمت معه السراء!
فعجب كل من كان حاضرا. فأمر له بها ثم أعادها له بعقد جديد ، وأمر لهما بقسمة من مال المسلمين يأخذونها كل سنة و أعطاهم ألف دينار ، أخذ الأعرابي زوجته و انصرف .