د. ناجح إبراهيم
جاءنى صوتها عبر الهاتف غاضبا ثائرا متعجبا: هل يرضيك أن يذهب ابنى طبيب الأسنان حديث التخرج إلى سوريا دون أن يخبرنى إلا برسالة sms وهو فى الطائرة.. فهل ربيته وعلمته بعد وفاة والده ليفعل بى ذلك.. فقد مكثت فترة لا تعرف عنه شيئا حتى تواصلت معه تليفونيا بعد جهود مضنية.. قلت لها إنه نسى أن شابا مثله جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى إحدى غزواته فقال له صلى الله عليه وسلم: «ألك والدان؟.. قال: نعم.. قال: ففيهما فجاهد».


إنه نسى فقه الأولويات الذى يقدم بر الوالدين وهو فرض عين على الجهاد فى سبيل الله إذا كان فرض كفاية. وبعدها بفترة جاءتنى زوجة معتقل سابق كان معنا تقول إن زوجها اختفى فجأة دون سابق إنذار ودون أن يقول لزوجتيه شيئا.. قالت لى باكية: أنا زوجته القديمة ولدى طفلة ولا أجد الآن ضرورات الحياة بعد أن بعت كل شىء يمكن أن يباع فى بيتى.. وقبل أن أسألها عن مصير الزوجة الثانية قالت: جاءت أسرتها من الصعيد وأخذتها مع أثاثها وأطفالها بعد أن طال غياب الزوج.


بكت الزوجة فى أسى: علمنا أنه سافر للقتال فى سوريا.. واسيت الزوجة الملهوفة على زوجها والقلقة على مستقبل ابنتها والمنكسرة أمام «اللى يسوى واللى مايسواش» على حد قولها. قلت لنفسى: إنها أزمة غياب فقه الأولويات فى دنيا المسلمين عامة، والحركة الإسلامية خاصة.. فهذا الرجل الصالح يترك الإنفاق على زوجته وأولاده «وهو فرض عين» ليقوم بفرض الكفاية.. مع أن فقه الأولويات ينص على تقديم فرض العين على الكفاية إذا اجتمعا أو تعارضا. قلت لنفسى: لماذا نسى هذا الرجل الطيب فى غمرة حماسته قول النبى (صلى الله عليه وسلم) «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول».


لقد بلغ من فقه حجة الإسلام أبو حامد الغزالى أنه ألزم كل من يسافر لطلب العلم أن يترك لأسرته قوت عام كامل.. إنه الفقه فى الدين بحق.. فطلب العلم فرض كفاية.. والإنفاق على الزوجة والأولاد فرض عين.


والغريب أن صاحبنا رغم صلاحه لم يعتبر أن زوجته الأولى على الأقل تستحق أن يشركها فى قراره أو يعلمها به رغم أنها صبرت معه كثيرا فى فترة سجنه.. وكأن الزوجة ليست شريكة لزوجها فى سعادته وشقائه وأفراحه وأحزانه ويسره وعسره. وكذلك صنع هذا الطبيب الشاب فهو رغم صلاحه لم يعتبر أمه التى ربته بعد وفاة والده شريكة له فى قراره بأى صورة من صور الشراكة.. وكأنه لا يعرفها ولا تعرفه.. وكأنه لم يقرأ حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذى قال لمثله أراد الجهاد معه دون أن يستأذنهما «ففيهما مجاهد».


وأزعم أن الكثير من الشباب المتدين المتحمس لا يلقى بالا لمثل هذه الكلمات الرائعة من الرسول العظيم «ففيهما فجاهد».. فهو رقيق عطوف خدوم حنون مع الجميع إلا مع والديه.. وفى النهاية يظن أنه يطبق الإسلام حقا.


إنه فقه الأولويات الغائب عن حياتنا والذى يدعونا إلى تقديم الأصول على الفروع، ومقاصد الشريعة على الوسائل والآليات، والإيمان على بر الوالدين، وبر الوالدين على الجهاد، فرض الكفاية والفرض على السنة، والعلم قبل العمل، والكيف على الكم، والاجتهاد على التقليد، والعمل الدائم على المنقطع، وعمل القلب على عمل الجوارح.. وترك الكبائر قبل الصغائر والكفر والشرك قبل البدع.