يا نكَّد الله على الرخام
تميم البرغوثي
يا أخي كلما نسينا ذكرونا. خرجت مع بعض أصدقائي نتمشى، فإذا كل شيء في هذه العاصمة الرخامية ذي معنى مقصود ورسالة موجهة، لقد خطت لتكون مقالا لا مدينة، أراد بانوها أن يشحنوها بالرموز الدالة على عقيدتهم السياسية وما يرونه دورا لبلادهم في تاريخ البشر.
المدينة واشنطن ومركزها مبنى الكونجرس، ويسمونه الكابتول أو الهل، أي التلة، والاسمان مأخوذان من مدينة روما القديمة، فأمريكا في خيال مؤسسيها هي روما العصر الحديث. وتتفرع منه المدينة أربعة أرباع، بأسماء الجهات الفرعية الأربع، ثلاثة من الأرباع يسكنها السود، والربع الأخير، وسبحان الله هو الشمال الغربي، يسكنه البيض.
والكونجرس هو مركز المدينة لأنه المبنى الذي يمثل نظامها السياسي، فهو الجسم الأصيل في الحكومة، ومنه تخرج القوانين التي يطيعها الحاكم والمحكوم، ولذلك فإن الشوارع الكبرى التي يسير فيها الناس تتفرع منه كأشعة الشمس وكل شارع شعاع يسمى باسم ولاية أمريكية ورخامية أبيض يوحى دائما بالجدة فلا يتغير لونه مع السنين كسائر الأحجار. ولا يجوز في واشنطن أن يعلو مبنى أيا كان على ارتفاع قبة الكونجرس والتمثال القائم عليها، والتمثال لامرأة مسلحة تسمى «الحرية منتصرة».
عن يمين الكونجرس في اتجاه الشمال الغربي، يقع البيت الأبيض، من المتعمد أيضا أن يكون أصغر وأقل فخامة، للتأكيد على تبعية الرئيس وسلطته التنفيذية للكونجرس الممثل لعموم المواطنين. وعلى يسار الكونجرس، مقابل البيت الأبيض، هناك مزار توماس جفرسون، مؤسس النظام السياسي الأمريكي، تاجر العبيد الذي كان ينادى بالمساواة، يقف عملاقا من حجر أسود محاطا بمعبد دائري أبيض قائم على عمد يونانية الطراز.
فعلى يسار الكونجرس الرجل الذي أسس نظام الحكم، جفرسون، وعلى يمينه الرجل الذي يحافظ عليه الآن الرئيس الحالي. أما مزار الرئيس الأمريكي الذي انتصر في الحرب الأهلية وأبقى على اتحاد الولايات التي تكون اليوم أمريكا، أبراهام لينكولن، فيكمل المربع، إذ يقع مقابل الكونجرس تماما، بين مزار جفرسون والبيت الأبيض، فيكون ترتيب زوايا المربع إذا بدأنا من الكونجرس وقرأناها كأنها نص إفرنجي من اليسار إلى اليمين: الكونجرس نقطة الأصل ثم مزار جفرسون، ثم مزار لينكولن، ثم البيت الأبيض: النظام، مؤسسه، منفذه، ورئيسه وكأنه تتابع زمني أو رواية تاريخية، وتتابعهم من اليسار إلى اليمين يوحى بالتتابع الزمني لأنه اتجاه عقارب الساعة.
وفي وسط المربع تقف مسلة ضخمة هي مزار واشنطن صاحب البلد وبانيها، فهو قطب الرحى وعمود الخيمة. وجماعة المباني هذه كلها من الرخام الأبيض أو ما يشبهه. كل شيء دقيق، كل شيء محسوب وذي داع ومعنى ونظام، مدينة روحها حادة الزوايا، ودينها من رخام.
مرشوش بين هذه الأوتاد الأربعة يجد المرء مزارات للحروب التي خاضتها أمريكا، وأهمها بالطبع الحرب العالمية الثانية التي جعلتها دولة عظمى، والتي أنهتها بتفجيرين نوويين على هدفين مدنيين في آسيا قتلت بهما مائتي ألف نفس واستوت على العرش. ويقع المزار على الخط الواصل ما بين الكونجرس ومزار لينكولن، وهو عبارة عن بركة ماء محاطة بسور كتبت عليه أسماء الولايات الأمريكية، وللسور بوابتان كتب على إحداهما «الأطلسي» وعلى الأخرى «الهادي».
وقد تفضل جورج بوش غازي العراق وأفغانستان بإضافة علمين أمريكيين كبيرين إلى هذا المزار ليذكرا بحرب العراق، وكأنها امتداد للحرب العالمية الثانية، فإنها خيضت لتحافظ الولايات المتحدة على مكانتها كدولة عظمى. وقد نقش على قاعدة كل من العلمين عبارة «لم يأت الأمريكيون غزاة بل محررين».
كنت أسير الليلة مع بعض أصدقائي بين تلك المعالم، وأفكر في قتيل يتأمل رونق النصل وهو يحزه حزا، ويجد وقتا ودما ليدقق في صنعة الصيقل. لم أستطع أن أدفع عن خيالي ارتباط الرخام عندنا بالقبور، وأن البياض العارم هناك يقابله خليط من الألوان في سوق بالعراق، طين الأرض دم القتلى ألوان ملابسهم، كل لون له معنى، وكل معنى له لون، إلا الدمع فإنه شفاف ليس له إلا طعم الملوحة، وتعثر الكلام بغصة الحق.
عدت مع أصدقائي إلى حرم الجامعة، جامعة بنيت عام ألف وسبعمائة وتسعة وثمانين، عام الثورة الفرنسية، أراد أحدنا قضاء حاجته مع طول المشي بين الرخام، فأشرت إلى أحد المباني أن فيه حماما فدخلنا وانتظرناه، وقبل أن نخرج فاجأنا الحرس، قالوا إن المبنى مغلق، وأنهم نسوا أن يغلقوا بابه وطلبوا منا التعجيل بالخروج.
قلت لصاحبي، الليلة ليلة السبت، والطلاب والأساتذة بل حتى الطيور والسناجب في هذه المدينة تمر بالجامعة وتدخل وتخرج، وأنا أعلم أن المباني تبقى مفتوحة، ولو كنا سكارى وشقرا لما تعرضوا لنا. قال لي أنت تبالغ، فما كاد يكمل حتى أشار نحوى أحد الحرس، قال أنا أعرفك، أنت أستاذ بمركز الدراسات العربية، قلت نعم، فكلمني بالعربية قائلا «أنت تحجي عربي، أنا أفتهم عربي «يقصد» هل تتكلم العربية، أنا أفهم العربية» وإنما قالها باللهجة العراقية، وأتى بها مكسرة.
فعلمت أن الرجل كان بالعراق مع قوات الاحتلال، ولم يجد له عملا إلا أن يكون حرسا حين عاد. قلت له متى عدت من العراق، قال عام ألفين وخمسة، قلت له أنا متعجب لسلامتك فلا تعد. ارتبك. لم يدرك أن ذهابه للعراق عدوان علي، ظن أن كلامه بالعربية تودد، ولم يفهم لماذا لم أقابله بتودد مثيل.
عدت إلى منزلي وأنا أتذكر مثلا شعبيا عن الرخام يقابل ما بين النظافة من الخارج ونقيضها من الداخل، وأتذكر أبياتا لشاعر عربي أسود البشرة خشن اليدين أمه حبشية، عن نعومة ملمس الثعبان. أردت ولله ليلة أتمشى فيها وأستريح فتبعوني جميعا، مائة وأربعة وخمسون ألفا منهم، تبعوني بين الرخام، مائة وأربعة وخمسون ألف لوح رخام، ذهبوا إلى بلاد الفسيفساء والزليج، وعادوا يمشون ورائي.
عدت إلى منزلي وأنا أقول يا حرسي نكد الله على الرخام، فقد جني الرخام علينا.. وعليك.