نقد نظرية أصل الأجناس (الحلقة الثالثة)
أصل العرب وحقيقة مفاهيم العرب (البائدة والعاربة والمستعربة)
رحلة سيدنا إبراهيم بابنه إسماعيل عليهما السلام هي التي جعلت بعض المؤرخين المسلمين والعرب يقسمون العرب إلى ثلاثة أصناف: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة!. معتبرين أن العرب البائدة هم أقوام نبيي الله عليهما السلام هود (لقومه عاد) وصالح (لقومه ثمود)وطسم وجديس وغيرهم، وقد بادوا بعد أن حل بهم عقاب الله بسبب تكذيبهم رُسل الله. والعرب العاربة هم عرب اليمن وهم العرب الأقحاح الذين لم يختلطوا بغيرهم من الأقوام من غير الجنس العربي وهم الذين حافظوا على استمرار الجنس العربي. أما العرب المستعربة فهم نسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل من زوجاته من قبيلة جرهم العربية اليمنية التي استقرت معه وأمه بعد أن فجر الله لهما بئر زمزم، وعندما كبر وبلغ سن الزواج صاهرهم، ومن نسله تكونت قبيلة قريش، التي خيرها خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم. وأن إسماعيل لم يكن يتكلم العربية ولكنه تعرب لغة وثقافة من خلال اكتسابه اللسان العربي من قبيلة جرهم العربية اليمنية التي نشأ وتربى وترعرع فيها! لذلك فَهِم البعض أن سيدنا إبراهيم وإسماعيل كأنهما لم يكونا عرباً في الأصل وأن نسله اكتسب عروبته من مصاهراتهم لقبيلة جرهم وعيشهم واختلاطهم معها على مدى قرون طويلة من التاريخ؟! المدقق في تلك النماذج التي قدمناها لما درج عليه المؤرخون المسلمون الذين لم يأخذوا بحديث رسول الله (كذب النسابون)، ونقلوا عن التوراة ما جاء عن أنساب الأمم والخلائق ومنهم العرب منذ بدء الخليقة، سيجد أنهم خلصوا دون وعي أو قصد منهم إلى نفس النتائج التي أراد كتبة أسفار التوراة وخاصة كتبة سفر التكوين توصيلها للعالم، فهم أبادوا تقريباً جميع القبائل العربية إلا ما ندر، ممن يرتفع نسبهم إلى (سام بن نوح) حسب أنساب التوراة، من غير نسل ابنه أرفكشاد، الذي رفعت التوراة إليه نسب إبراهيم عليه السلام. أي معظم القبائل العربية من إخوة أرفكشاد بن (سام بن نوح) ازاحهم المؤرخين المسلمين الذين تأثروا بأنساب التوراة من طريق مشاركة اليهود في حقهم في البركة التي منحها الله لسام، وذلك بإبادتهم لأنهم كذبوا أنبياء الله أو لسباب أخرى، والقليل منهم الذي ذكر أن مَنْ بقي منهم ذاب في ذرية قحطان، وأولئك اعتبروا قحطان هو يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام، لأن البعض يرجح أن يكون قحطان من ولد إسماعيل. ومن المفارقات العجيبة للمفسرين والمؤرخين المسلمين أنهم كانوا يميلون إلى ترجيح صحة أنساب التوراة في وجود الحديث الصحيح عن رسول، كما في نسب قحطان كما سيأتي. ولم يقل لنا واحد ممن عد قحطان بأنه يقطن، لماذا قحطان من دون كل تلك الأمم التي بادت بقي حياً وذريته من بعده لليوم، وإن كان جاءهم رسول من الله تعالى آمنوا به، ولم يفعلوا مثل تلك الأمم التي كفرت وهلكت؟! على الرغم من أن المؤرخين المسلمين يعلمون بحديث رسول الله صلَ الله عليه وعلى آله وسلم السابق ذكره عن رفضه رفع نسبه إلى ما بعد عدنان، وقوله: "كذب النسابون"، وفي الوقت نفسه يذكره البعض قبل أن يبدأ في عرضه لأنساب العرب، كابن خلدوون مثلاً، الذي بدأ بالقول[i]: وسئل مالك رحمه الله تعالى عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك وقال من أين يعلم ذلك فقيل له فإلى إسماعيل فأنكر ذلك وكره أيضاً أن يرفع في أنساب الأنبياء مثل أن يقال: إبراهيم بن فلان بن فلان وقال من يخبره به. وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى: " والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله " قال: كذب النسابون. واحتجوا أيضاً بحديث ابن عباس أنه صلَ الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال "من ههنا كذب النسابون". واحتجوا أيضاً بما ثبت في أنه علم لا ينفع وجهالة لا تضر إلى غير ذلك من الاستدلالات. ولكنه يبدأ بخرافات التوراة السابق ذكرها، فيقول: وهذه الأحاديث وإن صحت فإنما الأنساب فيها مجملة ولا بد من نقل ما ذكره المحققون في تفريغ أنساب الأمم من هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً (أي سام وحام ويافث أبناء نوح). وكذلك نقل الطبري أنه كان لنوح ولد اسمه كنعان وهو الذي هلك في الطوفان. قال: وتسميه العرب يام. {ولأن ذلك لا دليل عليه وفي الوقت نفسه يتعارض مع خرافة التوراة نفسها، عندما ذكرنا قصة نوح مع ابنه الهالك في سورة هود، لم ننقل عن المفسرين هذه القصة}. ويبرر ذلك عند بدء حديثه عن "الطبقة الأولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإلمام بملكهم ودولهم علي الجملة" (ص23): بأن هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح وأعظمهم قدرة وأشدهم قوة وآثارا في الأرض وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه. لأن أخبار القرون الماضية من قبلهم يمتنع اطلاعنا عليها لتطاول الأحقاب ودروسها إلا ما يقصه علينا الكتاب ويؤثر عن الأنبياء بوحي الله إليهم وما سوى ذلك من الأخبار الأزلية فمنقطع الإسناد ... وأخبار هذا الجيل من العرب وإن لم يقع لها ذكر في التوراة إلا أن بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصراً وأوعى لأخبارهم فلذلك يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل. ... وسمي أهل هذا الجيل العرب العاربة إما بمعنى الرساخة في العروبية.. وقد تسمى البائدة أيضاً بمعنى الهالكة لأنه لم يبقَ على وجه الأرض أحد من نسلهم. يذكر ابن كثير أنه: قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام والتحية والاكرام، والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل اسماعيل، وهم قبائل كثيرة منهم عاد وثمود وجرهم وطسم وجديس وأميم ومدين وعملاق وعبيل وجاسم وقحطان وبنو يقطن وغيرهم. وذكر الألوسي، وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة، هم سبع قبائل: عاد. وثمود. وعمليق. وطسم. وجديس. وأميم. وجاسم، وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل. ويذكر ابن خلدون في كتابه "تاريخ ابن خلدون" في الجزء الثاني ص33 ما بعدها" أنساب القبائل العربية بمرجعية توراتية: فأما سام فمن ولده العرب على اختلافهم وإبراهيم وبنوه صلوات الله عليهم باتفاق النسابين. والخلاف بينهم إنما هو في تفاريع ذلك أو في نسب غير العرب إلى سام. فالذي نقله ابن إسحق: أن (سام بن نوح) كان له من الولد خمسة وهم أرفخشذ ولاوذ وإرم وأشوذ وغليم. ويؤكد على صحة ذلك بقوله: وكذا وقع ذكر هذه الخمسة في التوراة .. وقال ابن إسحق: وكان للاوذ أربعة من الولد: وهم طسم وعمليق وجرجان وفارس. قال: ومن العماليق أمة جاسم. فمنهم بنو لف وبنو هزان وبنو مطر وبنو الأزرق. ومنهم بديل وراحل وظفار. ومنهم الكنعانيون وبرابرة الشام وفراعنة مصر. وعن غير ابن إسحق: أن عبد بن ضخم وأميم من ولد لاوذ. قال ابن إسحق: وكان طسم والعماليق وأميم وجاسم يتكلمون بالعربية وفارس يجاورونهم إلى المشرق ويتكلمون بالفارسية. قال وولد إرم: عوص وكاثر وعبيل ومن ولد عوص عاد ومنزلهم بالرمال والأحقاف إلى حضرموت. ومن ولد كاثر ثمود وجديس ومنزل ثمود بالحجر بين الشام والحجاز. وقال هشام بن الكلبي: عبيل بن عوس أخو عاد. وقال ابن حزم عن قدماء النسابين: إن لاوذ هو ابن إرم بن سام أخو عوص وكاثر. قال فعلى هذا يكون جديس ثمود أخوين وطسم وعملاق أخوين أبناء عم لحام وكلهم بنو عم عاد. قال ويذكرون عبد بن ضخم بن إرم وأن أميم بن لاوذ بن إرم. قال الطبري: وفهم الله لسان العربية. ثم يذكر ابن خلدون أسماء العرب العاربة البائدة من تلك القبائل: عاداً وثمود وعبيل وطسم وجديس وأميم وعمليق وهم العرب العاربة. وربما يقال: إن من العرب العاربة يقطن أيضاً ويسمون أيضاً العرب البائدة ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد. قال وكان يقال عاد إرم فلما هلكوا قيل ثمود إرم ثم هلكوا فقيل لسائر ولد إرم أرمان وهم النبط. وقال هشام بن محمد الكلبي: إن النبط بنو نبيط بن ماش بن إرم والسريان بنو سريان بن نبط. وفي موضع آخر يقول: وأما العرب البائدة من بني أرفخش بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ فهم جرهم وحضورا وحضرموت والسلف. فأما حضوراً فكانت ديارهم بالرس وكانوا أهل كفر وعبادة أوثان. وبعث إليهم نبي منهم اسمه شعيب بن ذي مهرع فكذبوه وهلكوا كما هلك غيرهم في الأمم. وأما جرهم فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية .ص34... قال ابن سعيد: وأما جرهم إنهم أمتان: أمة على عهد عاد. وأمة من ولد جرهم بن قحطان. وأن جرهم التي كانت على عهد عاد فقد هلكت وبادت. ص37. ومثال آخر للمؤرخين المسلمين ونقلهم عن التوراة دون تمحيص؛ المسعودي في كتابه "النتبيه والإشراف"، حيث يقول: وأخبار العرب البائدة كعاد وعبيل ابني عوص بن أرم بن (سام بن نوح). وثمود وجديس ابني عابر ابن أرم بن سام. وعمليق وطسم ابني لاود بن أرم ابن سام ابن نوح. ووبار بن أميم بن لاود بن أرم بن (سام بن نوح). وجرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. وعبس بن ضخم بن عبد بن هرم بن عابر بن أرم بن سام .. وغيرهم. وتفرقهم عن أرض العراق بعد تبلبل الألسن (الخرافة التوراتية السابق ذكرها)!. وفي كتابه "مروج الذهب"، عند ذكر "عاد وملوكها"، (الصفحة 43)، يقول[ii]: ذكر جماعة من ذوي العناية بأخبار العالم أن الملك يؤثر من بعد نوح في عاد الأولى التي بادت قبل سائر ممالك العرب كلها، ومصداق ذلك قوله عزّ وجلّ: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى} (النجم: 50). ويذكر (نسب عاد): وكان عاد رجلاً جباراً عظيم الخلقة، وهو عاد بن عوص بن إرم بن (سام بن نوح). وعند ذكر "ثمود وملوكها"، (الصفحة 46)، يقول: (مساكن ثمود) وكان ملك ثمود بن عابر بن إرم بن (سام بن نوح) بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي، وديارهم بفجِّ الناقة، وكان ملك الملك الأول من ملوكهم مائتي سنة، وهو عابر بن إرم بن ثمود بن عابر بن إرم بن (سام بن نوح). وفي (الصفحة 50)، يقول: وانقرضت العرب العاربة من عاد وثمود وعبيد وطسم وجديس والعماليق ووبار وجرهم، ولم يبق من العرب إلا من كان من عدنان وقحطان، ودخل من بقي ممن ذكرنا من العرب البائدة في عدد قحطان وعدنان، فانمحت أنسابهم وزالت آثارهم. ونموذج ثالث ذكره محمد طاهر بن عاشور، "التحرير والتنوير في تفسير القرآن"[iii]: ... ووصف عاد بـ{ٱلأولَىٰ} في قوله تعالى: {وَأَنَّهُۥ أَهْلَكَ عَادًا ٱڙولَىٰ} (النجم: 50)، لأنها أول العرب ذكراً وهم أول العرب البائدة وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح. "الجزء (27)، صفحة (152). وإرَم بن (سام بن نوح) هو جد عاد لأن عاداً هو ابن عُوص بن إرَم، "الجزء (30)، صفحة (317). وثمود أمّة عظيمة من العرب البائدة وهم أبناء ثمود بن جَاثَر ـ بجيم ومثلّثة كما في «القاموس» ـ ابن إرَم بن (سام بن نوح) فيلتقون مع عاد في (إرَم). ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمّة من العرب البائدة، وإطلاق السكاسك والسكرن في القبائل اليمنية، "الجزء (16)، صفحة (30). و{ثَمُودُ} : أمة من العرب البائدة العاربة، وهم أنساب عاد. وثَمود: اسم جد تلك الأمة ولكن غلب على الأمة. "الجزء (29)، صفحة (115). ويُضيف القلقشندي في "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب": (234) بنو عبد ضخم - قبيلة من العرب البائدة وهم بنو عبد ضخم ابن أرم بن (سام بن نوح)عليه السلام. قال في العبر: كانوا يسكنون الطائف فهلكوا فيمن هلك. قال ويقال: أنهم أول من كتب بالخط العربي. (615) بنو هزان - بطن من جاسم من العماليق من العرب البائدة وجاسم تقدم الكلام عليه في حرف الجيم. (5) يوم جديس - لجديس على طسم وهما من العرب البائدة[iv]. أما العرب العاربة الباقية فقد نسبوها جميعاً إلى قحطان وكادوا يجمعون على أنه هو أول مَنْ تكلم العربية، ولكنهم واختلفوا في نسبه إن كان لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أم إلى (سام بن نوح)؟! فقال ابن خلدون في (تاريخه، الجزء الثاني، ص38): وأما بنو سبأ بن يقطن فلم يبيدوا وكان لهم بعد تلك الأجيال البائدة أجيال باليمن منهم حمير وكهلان وملوك التبابعة وهم أهل الطبقة الثانية. وفي مسند الإمام أحمد: أن رجلا سأل رسول الله صلَ الله عليه وسلم قيل هو فروة بن مسيق المرادي عن سبأ أرجل هو أو إمرأة أم أرض فقال بل رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة والشام أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعر وأنمار وحمير. وأما الشاميون فلخم وجذام وعاملة وغسان. وثبت أن أباهم قحطان كان يتكلم بالعربية ولقنها عن الأجيال قبله فكانت لغة بنيه. ولذلك سموا العرب المستعربة ولم يكن في آباء قحطان من لدن نوح عليه السلام إليه من يتكلم بالعربية وكذلك كان أخوه فالغ وبنوه إنما يتكلمون بالعجمية إلى أن جاء إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما فتعلم العربية من جرهم فكانت لغة بنيه وهم أهل الطبقة الثالثة المسمون بالعرب التابعة للعرب. قال ابن إسحق: وكان طسم والعماليق وأميم وجاسم يتكلمون بالعربية وفارس يجاورونهم إلى المشرق ويتكلمون بالفارسية. وفي (ص53) يقول: وأعلم أن أهل هذا الجيل من العرب (العاربة) يعرفون باليمنية والسبائية، وقد تقدم أن نسابة بني إسرائيل يزعمون أن أباهم سبأ من ولد كوش بن كنعان ونسابة العرب يأبون ذلك ويدفعونه، والصحيح الذي عليه كافتهم أنهم من قحطان وأن سبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقال ابن إسحق: يعرب بن يشجب فقدم وأخر. وقال ابن ماكولا: اسم قحطان مهزم. وبين النسابة خلاف في نسب قحطان: فقيل هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام أخو فالغ ويقطن ولم يقع له ذكر في التوراة وإنما ذكر فالغ ويقطن. وقيل هو معرب يقطن لأنه اسم أعجمي والعرب تتصرف في الأسماء الأعجمية بتبديل حروفها وتغييرها وتقديم بعضها على بعض. وقيل: إن قحطان بن يمن بن قيدار وقيل: إن قحطان من ولد إسماعيل. وأصح ما قيل في هذا أنه قحطان بن يمن بن قيدار ويقال الهميسع بن يمن بن قيدار وأن يمن هذا سميت به اليمن. وقال ابن هشام: أن يعرب بن قحطان كان يسمى يمناً وبه سميت اليمن. فعلى القول بأن قحطان من ولد إسماعيل تكون العرب كلهم من ولده لأن عدنان وقحطان يستوعبان شعوب العرب كلها. وللأسف أنه سبق ذكر يقطن في عداد العرب البائدة! وكما تقدم معنا فإنه هناك اختلاف على نسب قحطان ومذملك على إن كان هو أول مَنْ تكلم العربية أم غيره! وهذا مثال إلى تخبط المؤرخين المسلمين لأنهم لا ينقلون عن مصدر موثوق، ولم يلتزموا بحديث رسول الله "كذب النسابون"، وسأعرض لتلك الاختلافات كمثال على اختلافات كثيرة في تلك الآلاف من المجلدات التي تحتاج إلى إعادة كتابة لِما جاء فيها، دون أن أتدخل في الآراء المذكورة لأن رأي معلوم أنا مع عروبة قحطان ولغته وغيره ولكن من تاريخ معلوم وعليه دليل، تؤكده روايات السيرة وأحاديث رسول الله. وما سأذكره ورد في جميع المراجع التي ذُكرت واتخذناها كنماذج وفي المراجع التي لم تُذكر! ذكر الألوسي البغدادي: ... وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بن قحطان، وهو مراد الجوهري بقوله: إنه أول من تكلم بالعربية، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفاً ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية[v]. كما ذكر البروسوي وقدم تأولاً لعدم التعارض والتناقض بين أن يكون قحطان أول مِنْ تكلم العربية أو غيره، فقال: ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية فهو أبو عرب اليمن يقال لهم العرب العاربة. ويقال لمن تكلم بلغة إسماعيل العرب المستعربة وهي لغة أهل الحجاز. فعربية قحطان كانت قبل إسماعيل عليه السلام وهو لا ينافي كون إسماعيل أول من تكلم بالعربية، لأنه أول من تكلم بالعربية البينة المحضة وهي عربية قريش التي نزل بها القرآن، وكذا لا ينافي ما قيل أن أول من تكلم بالعربية آدم في الجنة فلما أهبط إلى الأرض تكلم بالسريانية. واشتهر على ألسنة الناس أنه صلَ الله عليه وسلّم قال: "أنا أفصح من نطق بالضاد" المعنى أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد ولا توجد في غير لغتهم[vi]. وذكر ابن عادل الدمشقي الحنبلي ما قاله البروسوي، وأضاف: وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه: منهم أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر. ويقال إن هوداً عليه السلام أول من تكلم بالعربية وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها، وقال غيره أول من تكلم بها نوح، وقيل آدم وهو الأشبه قبل غير ذلك والله أعلم[vii].. كما ذكر ابن كثير: عن النبي صلَ الله عليه وسلّم أنه قال: "أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة"، فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار، هكذا أبو جري حدثني[viii]. وأذكر بما قلته سابقاَ: لم يقل لنا واحد ممن عد قحطان بأنه يقطن، وأنه وذريته هم يكادوا أن يكونوا الوحيدين من العرب العاربة الأولى التي لم تبيد، لماذا قحطان من دون كل تلك الأمم التي بادت بقي حياً وذريته من بعده لليوم، وإن كان جاءهم رسول من الله تعالى آمنوا به، ولم يفعلوا مثل تلك الأمم التي كفرت وهلكت؟!. ويذكر ابن خلدون في ( تاريخه، الجزء الثاني، ص 19): أن العرب المستعربة من أبناء عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. ثم لما تطاولت تلك العصور وتعاقبت وكان بنو فالغ بن عابر أعالم من بين ولده واختص الله بالنبؤة منهم إبراهيم بن تارخ وهو آزر بن ناحور بن ساروخ بن أرغو بن فالغ وكان من شأنه مع نمروذ ما قصه القرآن. ثم كان من هجرته إلى الحجاز ما هو مذكور. ثم يذكر ابن خلدون "الطبقة الثانية من العرب وهم العرب المستعربة وذكر أنسابهم وأيامهم وملوكهم والإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم" (الصفحة 53) فيقول: وإنما سمي أهل هذه الطبقة بهذا الاسم لأن السمات والشعائر العربية لما انتقلت إليهم من قبلهم اعتبرت فيها الصيرورة بمعنى أنهم صاروا إلى حال لم يكن عليها أهل نسبهم وهي اللغة العربية التي تكلموا بها. وأهل الطبقة الأولى لما كانوا أقدم الأمم - فيما يُعلم - جيلاً كانت اللغة العربية لهم بالأصالة وقيل العاربة. ويذكر ابن كثير: وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم[ix]. في (الجزء الثاني، ص 156): ولكن انطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلَ الله عليه وسلم. وللطبري رأي آخر، يقول: وكانوا قوماً عرباً يتكلمون بهذا اللسان المضري فكانت العرب تقول لهذه الأمم: العرب العاربة لأنه لسانهم الذي جبلوا عليه، ويقولون لبني إسماعيل بن إبراهيم: العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أظهرهم. فعاد وثمود والعماليق وأميم وجاسم وجديس وطسم هم العرب[x]. وتقدم معنا أنه قيل: إن قحطان بن يمن بن قيدار وقيل: إن قحطان من ولد إسماعيل. وأصح ما قيل في هذا أنه قحطان بن يمن بن قيدر ويقال الهميسع بن يمن بن قيدار وأن يمن هذا سميت به اليمن. وقال ابن هشام: أن يعرب بن قحطان كان يسمى يمناً وبه سميت اليمن. فعلى القول بأن قحطان من ولد إسماعيل تكون العرب كلهم من ولده لأن عدنان وقحطان يستوعبان شعوب العرب كلها. وقد احتج الذين قالوا: أن قحطان ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، بأن البخاري ترجم في صحيحه "باب نسبة اليمن الى إسماعيل عليه السلام"، فقل: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة رضي اللـه عنه قال خرج رسول اللـه صلَ اللـه عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف فقال ارموا بني اسماعيل وأنا مع بني فلان لأحد الفريقين فأمسكوا بأيدهم فقال ما لكم قالوا وكيف نرمي وأنت مع بني فلان فقال ارموا وأنا معكم كلكم انفرد به البخاري وفي بعض الفاظه ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع ابن الأدرع فأمسك القوم فقال ارموا وأنا معكم كلكم قال البخاري وأسلم بن أفصي بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل اللـه عليهم سيل العرم كما سيأتي بيانه وكانت الأوس والخزرج منهم وقد قال لـهم عليه الصلاة والسلام ارموا بني اسماعيل فدل على أنهم من سلالته وتأولـه آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من سلالة إسماعيل وعندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية وعدنانية فالقحطانية شعبان سبأ وحضرموت والعدنانية شعبان أيضا ربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان والشعب الخامس وهم قضاعة مختلف فيهم فقيل إنهم عدنانيون قال ابن عبد البر وعليه الأكثرون ويروى هذا عن ابن عباس وابن عمر وجبير بن مطعم وهو اختيار الزبير بن بكار وعمه مصعب الزبيري وابن هشام وقد ورد في حديث قضاعة بن معدر ولكنه لا يصح قالـه ابن عبدالبر وغيره ويقال إنهم لن يزالوا في جاهليتهم وصدر من الإسلام ينتسبون إلى عدنان فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية وكانوا أخوالـه انتسبوا إلى قحطان[xi]. وأني لأدهش من موقف معظم مؤرخي المسلمين لأنهم لم يأخذوا بهذا الرأي على أن نسب قحطان بن يعرب يرتفع إلى إسماعيل بن إبراهيم، وليس إلى سام بن نوح، ذلك الرأي الذي لا دليل موثوق يؤكد صحته، فضلاً عن تضارب الأنساب والروايات حوله؟!.
[i] عبد الرحمن بن خلدون، تاريخ ابن خلدون، الجزء الثاني، باب "في أخبار العرب ودولهم منذ بدء الخليقة:، ص 5.
[ii] أبو الحسن المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، دار الكتب العلمية، 2004، الجزء الثاني، ص 43 ـ 50.
[iii] محمد طاهر بن عاشور، التحرير والتنوير في تفسير القرآن، دار سحنون، تونس، 1997.
[iv] القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، تراجم الرجال، رقم (234)،(615)، (5) من خاتمة في ذكر أمور تتعلق بأحوال القبائل.
[v] الألوسي البغدادي: تفسير القرآن، عدد المجلدات (30)، دار إحياء التراث، الجزء 21، ص581.
[vi] إسماعيل البروسوي: روح البيان في تفسير القرآن، الجزء (7)، مرجع سابق، ص258,
[vii] ابن عادل الدمشقي الحنبلي: تفسير اللباب في علوم الكتاب، دار الكتب العلمية، 1998، الجزء (10)، ص 177. وابن كثير: البداية والنهاية، الجزء الأول، مرجع سابق، ص 120.
[viii] ابن كثير الدمشقي: قصص الأنبياء، الجزء الأول، ص 215.
[ix] ابن كثير الدمشقي، :البداية والنهاية، عدد المجلدات (8)، مكتبة المعارف، بيروت/ 1995، الجزء الأول، ص 120.
[x] ابن جرير الطبري: تاريخ الطبري، (8) مجلدات، دار الكتب العلمية، 2003،
[xi] ابن كثير: البداية والنهاية، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 156.