المباحث (9-10) في سر حذف إحدى الياءين
المبحث التاسعقبل الدخول في النوع الأول يجب التنبيه إلى سر استخدام حرف الياء في جمع المذكر السالم:
بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث التاسع في سر حذف إحدى الياءين
أولاً: الياء حرف مد، والمد زيادة في الأصل، والجمع زيادة في الواحد الذي هو أقل الأعداد وأصلها؛ لذلك صلحت الياء لتكون علامة للجمع.
وثانيًا: أن استعمال الياء هو لبيان وجود تحول، والتحول يكون في الغالب في الصفات، ولذلك استعملت علامة لجمع المذكر السالم الذي هو جمع لأصحاب الصفات.
وثالثًا: أن الرفع هو الأصل، والنصب والجر هو تحول عن الأصل، ولذلك كانت الياء علامة على هذا التحول في حالتي النصب والجر في جمع المذكر السالم.
ورابعًا: أن الياء لما كانت تفيد التحول، والتحول الأخير يلغي التحول السابق له إذا كان هناك أكثر من تحول؛ كتحول بعض الخضار أو الفاكهة الخضراء إلى صفراء أولاً، ثم إلى حمراء بعد ذلك، فالحمرة طمست ما قبلها من التحولات السابقة، فبقاء صورتين لياءين متتاليين تفيد بقاء تحولين متتاليين، خلافًا للواقع، مما يوجب حذف أحدهما، والمثال ضربناه لتوضيح المعاني بما يمكن إحساسه في الواقع، وليس المثال هو المقصود.
وخامسًا: أن الجمع يوحد أفراده على صفة واحدة؛ يتساوون في حملها، دون الإشارة إلى الفوارق بينهم، ودرجات حملهم لهذه الصفات، ولذلك كانت علامة اسم الفاعل هي التي تحذف للدلالة على تساوي أقراد الجمع في جمع المذكر السالم والمؤنث السالم، اللذان سنأتي عليهما في أبحاث قادمة إن شاء الله تعالى عند الحديث عن حذف الألف.
والياء في بحثنا هذا؛ هي علامة اسم الفاعل في الأمثلة اللاحقة التي سنأتي عليها، فهي الأحق في الحذف، وتبقى الياء التي هي علامة الجمع، والأولى أن ترسم ياء فارسية (ےّ) وعليها شدة للدلالة على الياء المحذوفة قيل الياء، وليس بعدها، لأن هذا هو الذي يوافق المعاني التي بني عليها الرسم القرآني، وإن كان الرسم لا يؤثر في القراءة ما دام هناك إشارة تدل على المحذوف.
النوع الثالث:حكم الياء المكررة وتنقسم إلى أربعة أقسام هي:
1-حكم الياء المكررة وسطًا ولم تكن إحداهما صورة للهمزة؛
تكررت الياء في أسماء وأفعال ؛
وقد جاءت الياء المكررة في خمسة أسماء؛ (ربانيين، حواريين، أميين، نبيين، عليين)
وحذفت الياء في أربعة منها؛ (ربانيين، الحواريين، الأميين، والنبيين)؛
ربانيين؛ ذكرت مرة واحدة؛
في قوله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّـاـنِيِّـ(ي)ـنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـاـبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79) آل عمران.
حواريين؛ ذكرت مرتين؛
في قوله تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّـ(ي)ـنَ أَنْ ءَامِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111) المائدة.
وفي قوله تعالى: (يَـاـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـ(ي)ـن مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ(14) الصف.
أميين؛ ذكرت ثلاث مرات؛
في قوله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـاـبَ وَالْأُمِّيِّـ(ي)ـنَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا(20) آل عمران.
وفي قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّـ(ي)ـنَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) آل عمران.
وفي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّـ(ي)ـنَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَـاـتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَـاـبَ وَالْحِكْمَةَ (2) الجمعة.
ونبيِّين: ذكرت ثلاث عشرة مرة؛ نذكر منها مثلا واحدًا؛
في قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّـ(ي)ـنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (213) البقرة.
حذفت الياء لئلا تجتمع صورتان لياءين متتاليين، وأن هذه الجمع تساوى أفراده فيما ذكروا به،
فكل الحواريين؛ حواريون لعيسى عليه السلام.
والعرب الجاهليون كلهم أميون لم ينزل عليهم كتاب من الله تعالى قبل القرآن.
وكل الأنبياء هم نبيُّون من عند الله.
وكذلك كل الربانيين ربانيون لرب واحد.
لذلك كان حذف الياء رسماً لا لفظًا؛ فبقاء لفظها دل على الجمع، وحذف رسمها دل على تساوي أفراد هذا الجمع، وأغنت صورة الياء المرسومة عن صورة الياء المحذوفة لئلا تكون هناك صورتان لتحولين لا يصبح قيامهما معًا.
أما إثبات الياء في عليين؛
في قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَـاـبَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18) المطففين.
فمعنى الأبرار في عليين؛ أي أنه مكتوب لهم في عليين، أو مصيرهم في عليين، أي في درجات الجنة ومنازلها العالية، ودرجات الجنة متفاوتة في نعيمها، وأصحاب الجنة كلٌ في درجته حسب عمله في الدنيا، والأبرار يتحولون بارتقاء إلى المنازل الأعلى فيها.
ولما كانت منازل الجنة ودرجاتها كلها ثابتة، وعالية في مكانها عن النار وموقف الحساب؛ أثبتت الياءان في عليين، فمنازل الأبرار لم تطمس المنازل التي مروا عليها وتحولوا عنها إلى أن وصلوا أعالي الجنة، فلكل منزلة أصحابها، نسأل الله تعالى الفردوس الأعلى فيها.
وقد جاء كذر تكرار الياء في الأفعال التالية؛
في قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاـهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ (122) الأنعام.
وفي قوله تعالى: (وَءَايَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاـهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33) يس.
وفي قوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَـاـحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاـهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(9) فاطر.
وفي قوله تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) غافر
وفي قوله تعالى: (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ(11) ق.
وفي قوله تعالى: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ(15) ق.
الأفعال في الأمثلة السابقة هي ماضية؛ (فأحيـيناه، أحيـيناها، فأحيـينا، وأحيـينا، أفعيـينا)، والماضي منقطع الاستمرار، فناسب معها إثبات الياء فيها الدالة على التحول، والياء ياء لين وليست ياء مدية، كما كانت في الأسماء السابقة، وهي ساكنة بعد ياء متحركة فلا يجوز إدغامها فيها.
وأثبتت الياء كذلك في قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَـاـلِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً (97) النحل.
وفي قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَـاـنَ لَكَفُورٌ(66) الحج.
وردت (5) مرات
وفي قوله تعالى: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(ي) (81) الشعراء.
وفي قوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79) يس
وفي قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا(86) النساء.
فهذه الأفعال: (ثم يحييكم، قل يحييها، وإذا حييتم، ثم يحييني، فلنحيينه)؛ متعلقة بالمستقبل، ولم يتم البدء فيها بعد، فهي بحاجة إلى توكيد وقوعها، لا توكيد استمرارها؛ لأن الاستمرار تبع للحدوث أولا، والحدث لم يقع بعد، فلا محل للحديث عن الاستمرار، فناسب ذلك إثبات الياء لا حذفها.
وقد اتصلت الأفعال في الأمثلة السابقة بضمائر متصلة فأصبحت الياء وسطًا، ولم تعد طرفًا كما حال الياء الأصلية والزائدة في النوع الأول والثاني؛ لذلك تم إفرادها في أبحاث خاصة بها.
وكان إثباتها في الأنواع السابقة يجعل الكلمة تنتهي بساكن؛ ومع السكون الإثبات وعدم الاستمرار، وحذفها يجعل الكلمة تنتهي بحركة؛ ومع الحركة الاستمرار وتبقى الكسرة دالة على الياء المحذوفة، والأطراف محل التغيير أكثر من الوسط.
أبو مُسْلِم/ عبْد المَجِيد العَرَابْلِي