الغرب والإسلام
علماء الآثار وخرافة الشعوب واللغات السامية (59)
مصطفى إنشاصي
قد أصبح معلوماً أن منظومة علومنا الإنسانية والاجتماعية والمعرفية عامة تعمل ضد مصالحنا وتزيف تاريخنا لصالح أعدائنا، لأنها نقلها لنا المهزومون فكرياً ونفسياً وعقائدياً من أبناء وطننا وقدموها على أنها مسلمات ونشروها منذ قرنين على أنها بدهيات على الرغم من مخالفتها لصريح القرآن الكريم، لذلك نجد أجيالاً من الأخطاء المتراكمة في عقول أجيال من أبناءنا كما هي متراكمة في أجيال وأجيال من المؤلفات والكتب التي تحتاج إلى نفض غبار الجهل والتزييف عنها. وغالباً يرجع السبب إلى أن المؤرخين وعلماء الآثار ومعظم الكتاب يعتمدون التوراة المحرفة كتاباً تاريخياً موثوقاً خاصة عند كتابتهم عن بني إسرائيل وتاريخ وطننا وفلسطين خاصة، فينقلون عنه معلومات خاطئة لا دليل على صحتها لا بحقيقة تاريخية ولا اكتشافات أثرية صحيحة. وقد ضاعف تلك الأخطاء والتناقضات تفسيرات علماء الآثار التوراتيين لبعض الاكتشافات الأثرية ولي عنق الحقيقة وتزويرها لتتوافق مع روايات التوراة المحرفة.
ذلك لفت انتباهي أثناء قراءاتي وسعيّ لبناء نفسي فكرياً في سبعينات القرن الماضي وكنت أشعر أنها منهج شائع عند الكتاب والمؤرخين والمختصين العرب الذين أسسوا وأصلوا لموسوعة ومنظومة العلوم الإنسانية عندنا، لأن كثير منهم كان ينسخ وينقل دون مناقشة أو مراجعة أو تمحيص ولا عرض ذلك على القرآن الكريم أصدق الكتب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإلا كان اكتشف أخطاء وتناقضات كثيرة ينقلها ويجعل منها مسلمات علمية وتاريخية لأجيال أمته، وتولدت لدي نية أ، أجد وقتاً لمراجعة بعض تلك الأخطاء ومحاولة تصحيحها. وقد اتيحت لي الفرصة في ثمانينات القرن الماضي عندما استفزني مقالة تاريخية عن فلسطين في مجلة الحائط في مكان عملي جمعت كثير من تلك الأخطاء فكتبت رداً عليها مقالة أوضح فيها الأخطاء وتناقضاتها مع بعضها، وعزمت على أن أبدأ فيما كنت نويت عليه سابقاً، وللحق ما شجعني على ذلك أكثر أنه وقع في يدي الجزء الأول من سلسلة كتب (عشرة أجزاء) بعنوان " الجنس العربي" للمفكر والمناضل الفلسطيني محمد عزة دروزة، وفيه يعترض بشدة على استخدام مصطلح (السامية) ومشتقاته وإطلاقه على شعوب وقبائل وطننا، لأنه لا ليل على صحة التسمية لا تاريخي ولا أثري، ولا وجود لشخص اسمه (سام بن نوح) في التاريخ، وأننا يجب أن نطلق على الشعوب والقبائل القديمة التي عمرت وطننا اسم القبائل العربية، وقدم بعض الأدلة على وجهة نطره وصحة رأيه.
وبحكم التزامي الإسلامي واحترامي لديني وأن قصة نبي الله نوح عليه السلام مذكورة بتفاصيل كثيرة في القرآن الكريم وهو أصدق الكتب قلت لنفسي لماذا لا أرجع إلى كتاب الله عز وجل أرى إن كان رواية التوراة خرافة أم حقيقة، وعن بني إسرائيل وزعم اليهود والحركة الصهيونية أنهم هم الساميون في هذا العصر، وكذلك مزاعهم عن حقهم الديني والتاريخي في فلسطين، وخرافة الهيكل المزعوم و... بعض الموضوعات التي لها علاقة بالصراع مع الغرب اليهودي – النصراني، وقد كونت صورة مبدئية وتصور ورؤية قرآنية تأصيلية عن تلك المسائل الخلافية والصراعية، في شكل أبحاث منها الموسع ومنها المحدود، ووضعتها في هيئة كتاب عام 1987 ولم يُقدر له النشر .. وشغلتنا أمور العمل إلى أن عدت واستئت من كثرة تلك الأخطاء التي تفاقمت وازدادت زمن الفوضى الخلاقة (علم النت والشبكة العنكبوتية) وكل مَن هب ودب ومعظمهم يسبق أسماءهم لقب (دكتور) في زمن شهادات الاستثمار في المجال العلمي، ولا يعوا أن كتباتهم تخدم الرؤية الصهيونية، فعدت إلى أحد تلك الأبحاث عام 2009 وهو المتعلق بخرافة الشعوب واللغات السامية، ونقضتها قرآنياً وتاريخياً وعلمياً وأبحاث أخرى.
قد حان الوقت لتقديم رواية تاريخية بعيدة عن التعصب والعنصرية والانحياز للرواية التوراتية وعدم الموضوعية ولا الحيادية العلمية لدى علماء الآثار التوراتيين الذين ينتصرون للرواية التوراتية دائماً وإن خالفت الحقيقة التاريخية، وذلك من خلال مناقشة مجمل الآراء حول كثير من الموضوعات التي شوهت تاريخ وطننا وحرفته لصالح الغايات الصهيونية المبنية على سردية توراتية، والجمع بينها وبين الحقائق التاريخية العامة التي ذكرها القرآن الكريم. ومقابلتها ما أمكن بالعلوم والمعارف الحديثة بعيداً عن أن تكون نقطة الانطلاق التوراة.
أنشر منها هنا ما له علاقة ببعض ما ورد في قراءتنا لكتاب المرخ الفرنسي بيير روسي ونفيه صحة مصطلح الشعوب السامية والعبرانيين وأنه لا يوجد أي دليل تاريخي على ذلك، إنما هما خرافة توراتية!

كذبة الشعوب واللغات السامية
زعم كتبة التوراة أن أصل جميع أجناس الأرض بعد الطوفان هم من أبناء نوح عليه السلام دون ذكر للقلة التي آمنت معه من قومه وركبوا معه السفينة، وقصروا ركاب السفينة على نوح وأبنائه وزوجاتهم! وبناء على تلك الخرافة التوراتية قسم علماء الأجناس والتاريخ والآثار الأصول العرقية للبشر على النحو التالي:
(سام) الأب الأعلى للعرب واليهود.
(حام) الأب الأعلى للزنوج والأفارقة.
(يافث) الأب الأعلى للأوروبيين والأجناس الأخرى.
علماً أن أولئك العلماء؛ وإلى حد كبير التوراة نفسها، تناقضت آرائهم مع ذلك التقسيم عندما اعتبروا القبائل العربية التي سكنت فلسطين (الكنعانيون وهم حسب نسبهم في التوراة أبناء كنعان بن حام)، اعتبروهم قبائل عربية تنتسب إلى (الساميين بحسب أيضاً تصنيف الأجناس في التوراة)؟!
كما أننا نجد للأسف أن علماء اللغة العرب يستخدمون مصطلح (اللغة العبرية) دون تحفظ أو تنويه: إلى أن (اللغة العبرية) هي اللغة الكنعانية وأن بني إسرائيل اقتبسوها ضمن اقتباسهم للحضارة الكنعانية كلها بدءً من الإله إلى طريقة الاستنجاء عن الكنعانيين بعد دخولهم إلى فلسطين، وأن أهم أهداف المساق العلمي المزعوم (الشعوب واللغات السامية) هو أن يؤصلوا لسرقة اللغة الكنعانية ونسبتها لليهود تمهيداً إلى فصل بني إسرائيل عن أصلهم العربي الآرامي وجعلهم قوم أو قبيلة مستقلة لا علاقة لها بالعرب إنما هم الساميون الوحيدون الباقين على قيد الحياة، ولتصبح (اللغة العبرية) التي هي واللغة العربية صنوان، واللغة العربية هي الأقرب إلى اللغة السامية الأم لكل اللغات، تلقائياً تصبح (العبرية) هي السامية وأصل اللغات وأن اليهود هم الساميون الموعودون بالبركة والسيادة العالمية، وسيأتي معنا عند الحديث عن (نظرية صراع اللغات) المزعوم انتصار (اللغة العبرية) على كل اللغات، وعليه فلا غرو من انتصار اليهود على العرب والعالم! وذلك ما جعلني أبتدأ هذا الفصل بإثبات أن نسب الجد الأعلى لهم وهو جد العرب أيضاً نبي الله إبراهيم عليه اللام آرامي عربي.