عندما تأمر الطفولة علينا السمع والطاعة
صالح الطائي
أربعة عقود وأكثر وأنا مغرم بقاتلتي حد الصبابة فلا أطيق فراقها ولو لبضع ساعات، وحينما كنت أشعر بثقل ضغطها علي كنت أحاول التمرد، وأحث النفس على فراقها ولكنها لا تطيعني. كانت محبوبتي قد استخدمت كل ما متاح لديها من قوة لتأسرني وتحولني عبدا لسطوتها ولم يكن اللهاث والسعال والرائحة الكريهة تشفع لي عندها لتعتقني وتعفو عني وتأمر بفراقي.
أنا لا أبالغ إذا ما وصفتها بهذا الوصف فهي لا تعتق أبدا إلا لتذل المرء أو تضعه في أدنى درجات التصاغر. في شبابي كان عندي صديقا من صغار الموظفين يدخن مثلي بشراهة، ألتقي به أحيانا فأقدم له سيكارة فيعتذر عن قبولها وحينما أسأله السؤال التقليدي: ها تركت التدخين؟ كان يجيبني ضاحكا: لا والله، هي التي تركتني مؤقتا! ويحدث هذا طبعا حينما يشكو صاحبي من الإعسار المالي فلا يملك ثمن علبة السكاير.
أما أنا فلم اتركها ولم تتركني منذ أن عرفتها وعرفتني على يد صديق سوء عدو جملها بعيني ورغبني بها حتى بدت جميلة الجميلات، ثم لما تكشفت نواياها بان قبحها والسوء في خلجاتها. ولقد بدأت في الآونة الأخيرة أشعر بوطأتها علي لدرجة أني كنت على استعداد لأن أعطي من يخلصني منها حتى يرضى.
في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر كان حفيدي محمد أيمن قد أنهى الامتحان الوزاري للدراسة الابتدائية وجلس ينتظر نتيجة الامتحان، وكنت حينها أفكر بنوع الهدية التي تلائم طفلا في الثانية عشر من عمره بعد أن عجزت عن اختيار هدية تتساوق مع النتيجة التي أتوقعها له، فقررت أخيرا أن أسأله وأترك له حرية اختيار الهدية.
سألته: أي هدية تحب أن أهديك يا حبيبي؟
قال: وتهدينها إذا طلبتها؟
قلت: نعم إن شاء الله إذا ما كنت قادرا عليها. فما هي؟
قال: أنت قادر عليها لأنك تقدر على ما هو أكبر منها بكثير، فهل تفعل؟
قلت: في مثل هذه الحال أوافق فما هي؟
قال: قبل أن أقول لك ما هي تعهد لي انك لن تخلف وعدك ووقع لي هذه الورقة. كانت الورقة مطوية فلا يظهر ما مكتوب فيها إلى العلن، وقعت في ذيلها الأبيض، ففتح طويتها وعرض ما مكتوب فيها أمامي وكان بالنص: جدي العزيز أكبر هدية تقدمها لي هي أن تترك التدخين فعاهدني أمام الله على ذلك.
احتضنت حفيدي وقبلته وألقيت على مسامعه محاضرة طويلة عن الأسباب التي تحول بيني وبين ترك التدخين، لم أكن مقتنعا بمضمونها. ولذا كنت أشعر بتفاهة ما أقول وكنت أرى نفسي طفلا يقف أمام حفيده الرجل، فاحتقرت عادة سيئة تضعني في مثل هذا الموقف المهين وقررت في داخلي أن احقق له هذه الأمنية التي فضلها على أجمل الهدايا.
دار هذا النقاش بيني وبينه صباح يوم 6/6 بعد أن استلم نتيجته وكما توقعنا كان الأول على المحافظة، وهي نتيجة كبيرة تستحق هدية كبيرة حتى ولو كانت التضحية بعلاقة طولها ستة وأربعون عاما.
ومنذ تلك اللحظة وحتى الساعة الرابعة عصرا من نفس اليوم كنت قد دخنت بإفراط إلى حد الثمالة والتقزز لأخطو نحو الجرأة وأنا واثق من فعلتي التي توجب علي خوض حرب غير متكافئة مع عدو غدار.
في الرابعة عصرا أزفت الساعة، ساعة التحدي والصمود، حملت علبة السكائر الموضوعة أمامي وحطمتها بالكامل وألقيت بها في سلة المهملات، ورميت القداحة بعيدا، وصمت كليا عن التدخين. منذ الرابعة من عصر يوم 6/6 ولحد الآن وأنا لا زلت صائما صامدا، وكلما نظر إلي حفيدي وأنا أتلوى من تداعيات ترك التدخين، يصرخ بصوت عال: أحلى هدية .. أحلى هدية، فأزداد إصرارا على المقاومة لأنني بصبري ومقاومتي أعلمه معنى الانتصار، ومن جديته وبراءته أتعلم معنى التوهج والتحدي والعناد.