أسئلة برسم الجواب..
بقلم-( محمد فتحي المقداد)*

أطلّ الجدّ بطلعته البهيّة من على رأس الدرج الحجري في جانب الدار الشرقي, وهو يلبس قمبازه الأغباني ويتكئ على عكازه, ووقف يخاطب أهل الدار الواسعة وهو يعتمر كوفيته وعقاله, ويرفع كفّه لتحاذي حاجبيه ليخفف بها حدّة انبعاث ضوء الشمس التي تحثّ خطاها مسرعة لمأواها الأخير إيذاناً بانتهاء يوم حافل للبشرية وقدوم ليل جديد, بينما ينسحب الضوء تحت وطأة مطاردة خيوط العتمة التي تتسلل تستعجل الانتشار بعد هروب الضوء.
الجدّ المتوفي منذ سنوات, لا تزال روحه تهوّم على الدار وأهلها, وكأنه لم يبرحها و العائلة لم تفتقده طوال هذه الفترة, وهو يجيء إليهم في المنام حيث أنهم متواجد معهم دوماً, يكاد ذكره لا يخلو منه يوم على الأقل في حياة كل فرد منهم على حِدَةٍ.
وقف في ذلك اليوم وتصادف أن يوم الجمعة والعائلة كلها تجتمع من أولاده وبناته وأحفاده وأسباطه, فجأة توقف الضجيج وساد الهدوء حتى أن رنّة الإبرة تسمع في أرجاء البيت الكبير إذا وقعت على بلاطه, وتوجهت الأعين مشدودةً متلهفة والقلوب تهتز, وهم يتوقعون منه أن يحكي لهم شيئاً مهماً.
إذا لم أحترق أنا , وتحترقوا أنتم, فكيف سنخرج من الظلام إلى النور. قالها وهو يفرك عينيه, وتكاد الدموع تنمهل وهو يدافعها محاولاً التماسك أمام العائلة.وصوته يتهدّج, وتابع لقد عشت في جيل ونحن نفتح أذاننا وقلوبنا كا صباح لعلنا نسمع مارشاً عسكرياً والبيان رقم واحد كي نصفق في اليوم الأول ونبصق عليه في اليوم الثاني, وننتظر مارشاً آخر و بياناً في اليوم الثالث.
بهرتنا الشعارات و دغدغت عواطفنا ومشاعرنا وسمحنا لها أن تدخل إلى قلوبنا المتلهفة لتقديم شيء من أجل مستقبل الأمة, واندمجنا, بالطبع إنها ليست قضيتي لوحدي بل قضية أجيال مثل جيلنا بلعت الطعم, واستفاقت على هول المأساة.
كنا حزبيون.. اجتماعاتنا .. نحلل المفاهيم.. و نتساءل:
ما هي الاشتراكية؟.
ما هي الحرية؟.
ما هي الوحدة؟.
أيهما أسبق في التطبيق الوحدة أم الاشتراكية.. وكيف ؟.
وما معنى كلمة جماهير؟.
وما هو الصراع الطبقي؟.
تساؤلات كثيرة كنا نريد أن نفهم مَنْ نحن ومَنْ هُمْ , مثلُنا مثل المؤمن الذي يسأل عن أمور دينه وقد انسربت الشكوك إلى قلبه فيُطلب إليه أن يؤمن فقط..وكنا ..!!
ما زالت التساؤلات قائمة حيث أن القيادات حينها لم تُجِبْ أبداً.. رغم تبدل الوجوه والزمان, و لا أظنها كانت قادرة على أن تفعل ولو استطاعت لدلتنا على هويتنا ولعرفنا من نحن, ولا حار فينا البشر, و حِرْنا في أنفسنا كل هذه الحيرة التي تروْنها.
ولكن ما خطر ببالي الآن هو أن القيادات, هل كانت مؤمنة بهذه الأحلام الرائدة؟. فعلى ما أذكر أن تلك القيادات كانت تتذرع بضيق الوقت وكثرة المشاكل والتحديات القومية, ولو أننا حسبنا ما قضته من عمرها في الذرائع والتبرير لكان أضعاف ما أخذته الإيديولوجيا.
كانت مرحلة مليئة بالكلام الكثير, وراءها وهْمٌ بفكرة غامضة غائمة السُّدْوَة والنسيج واستفقنا بعد فوات الأوان على الخطابات و المارشات والأناشيد الوطنية الحماسية, ويبدو أن من يفكر كثيراً بالنجاح يفشل, لكن كان عليه أن يؤمن به ثم يجازف ..
في لحظة الصحوة المتأخرة بعد فوات الأوان و استهلاكنا, هي أن الحقيقة الوحيدة والأصيلة في تاريخنا الحديث, هي السجن والسوط و الدولاب.. وكل ما عداه وَهْمٌ .. لمن اشتطّ قليلاً عن المسار المرسوم , حيث كنا أدوات تلك الحقيقة التي كانت غائبة. ها نحن احترقنا وها أنتم تحترقون ولم نخرج من الظلام إلى النور بل دخلنا دوامات الظلام الحالك, واستحالت الحياة شيئاً رخيصاً لا تساوي بضعة قروش قيمة الطلقة التي تنهي كل شيء.
آمنّا بأفكار.. جعلتنا نحلم بغد أجمل..
لم تستطع تلك الأفكار أن تتزاوج مع واقعنا لتمهد لنا طريق الغد..
جاء الغد الذي لم نكن نتوقعه.. فترحمنا على البارحة, وهكذا كلما جاء يوم جديد صرنا نترحم على سابقه.
العيون لا تزال متسمرة وهي تنظر إليه, والآذان مصغية باهتمام لحديثه , وقد خَفَتَ صوته وتلاشى طيفه رويداً .. رويدا ..بعيداً وراء الغيوم, ويبدو أن الحلم كاد أن يكون واقعاً, واستفقت على صراخ ابني الصغير بعيد الفجر بقليل, فحمدت الله وأنا أتلفت حولي والعتمة ما تزال تلف الغرفة, ونهضت للصلاة.
----------------- انتهى

بصرى الشام
3 \ 8 \ 2012 م