منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14

العرض المتطور

  1. #1

    من قصص الأنبياء

    قصة إسحاق و يعقوب عليهما السلام
    مولده ولد إسحاق ولأبيه مائة سنة ، بعد أخيه إسماعيل بأربع عشر سنة ، وكان عمر أمه سارة حين بُشّرت به تسعين سنة . قال الله تعالى : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} . و قد ذكر الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ". وذكر أهل الكتاب : أن إسحاق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة، وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت، فولدت غلامين توأمين أولهما اسمه (عيصو) وهو الذي تسميه العرب العيص ، وهو والد الروم . والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه " يعقوب " وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل . قالوا: وكان إسحاق يحب عيصو أكثر من يعقوب ، لأنه بكره ، وكانت أمهما رفقا تحبُّ يعقوب أكثر لأنه الأصغر. قالوا: فلما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً ، وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً، ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك ، فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جَدْيَيْنِ من خيار غنمهِ ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ، ويأتي إليه به قبل أخيه ، ليدعو لهن فقامت فألبسته ثياب أخيه ، وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين ، لأن العيص كان أشعر الجسد ، ويعقوب ليس كذلك فلما جاء به وقربه إليه قال: من أنت قال: ولدك ، فضمه إليه وجسَّه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب ، وأما الجُسُّ والثياب فالعيص ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً، وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده ، وأن يكثر رزقه وولده . فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه ، فقال له : ما هذا يا بني؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته . فقال : أما جئتني به قبل السّاعة وأكلت منه ودعوت لك ؟ فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك ، فوجد في نفسه عليه وجداً كثيراً . و ذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما ، وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى، وأن يجعل لذريته غليظ الأرض ، وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم . فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيصُ أخاه يعقوب ، أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها " لابان " الذي بأرض حران، وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه ، وأن يتزوج من بناته ، وقالت لزوجها إسحاق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل . فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم قالوا: فما قدم يعقوب على خاله أرض حران إذا له ابنتان اسم الكبرى "ليا" واسم الصغرى " راحيل " وكانت أحسنهما وأجملهما فطلب يعقوب الصغرى من خاله ، فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين ، فلما مضت المدة على خاله " لابان " ، صنع طعاماً وجمع الناس عليه ، وزفّ إليه ابنته الكبرى " ليا " ، وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر. فلما أصبح يعقوب إذا هي " ليا "، فقال لخاله : لم غدرت بي ، وأنت إنما خطبت إليك راحيل ؟ . فقال : إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى ، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى ، وأزوجكها . فعمل سبع سنين وأدخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغاً في ملّتهم . ثم نسخ في شريعة التوراة ووهب " لابان" لكل واحدة من ابنتيه جارية فوهب لليا جارية اسمها " زلفى"، ووهب لراحيل جارية اسمها " بلهى ". وجبر الله تعالى ضعف " ليا " بأن وهب لها أولاداً، فكان أول من ولدت ليعقوب روبيل ، ثم شمعون، ثم لاوي ، ثم يهوذا ، فغارت عند ذلك " راحيل ثم دعت الله تعالى " راحيل " وسألته أن يهب لها غلاماً من يعقوب فسمع الله ندائها وأجاب دعائها فحملت من نبي الله يعقوب فولدت له غلاماً عظيماً شريفاً حسناً جميلاً سمته " يوسف ". كل هذا وهم مقيمون بأرض حران وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى ، فصار مدة مقامه عشرين سنة . فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرّحه ليمر إلى أهله .. فذهب إلى أهله و اجتمع بأخيه العيص فلما رآه العيص تقدم إليه واحتضنه وقبله وبكى ، ورفع العيصُ عينيه ونظر إلى النساء والصبيان ، فقال : من أين لك هؤلاء ؟ فقال هؤلاء الذين وهب لعبدك ورجع العيص فتقدم أمامه ، ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الأنعام والمواشي والعبيد ، قاصدين جبال " ساعير". فلما مر بساحور، ابتنى له بيتاً ولدوا به ظلالاً، ثم مر على أورشليم ، فنزل قبل القرية، واشترى مزرعة ، فضرب هنالك فسطاطه ، وابتنى ثم مذبحاً ، فسماه " إيل " إله إسرائيل وأمره الله ببنائه ليستعلن له فيه ، وهو بيت المقدس اليوم ، الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام ثم حملت " راحيل " فولدت غلاماً هو " بنيامين " إلاّ أنها جهدت في طلقها به جهداً شديداً ، وماتت عقيبه ، فدفنها يعقوب في وهي بيت لحم ، وصنع يعقوب على قبرها حجراً، وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم . وكان أولاد يعقوب الذكور اثني عشر رجلاً ، فمن ليا : روبيل ، وشمعون ، و لاوي ، ويهوذا ، و ايساخر، و زابلون ، و مِنْ راحيل : يوسف ، وبنيامين ، ومن أمة راحيل : دان ، و نفتالي . ومن أمة ليا : جاد ، واشير، عليهم السلام . وجاء يعقوب إلى أبيه إسحاق فأقام عنده بقرية حبرون ، التي في أرض كنعان ، حيث كان يسكن إبراهيم ، ثم مرض إسحاق ، ومات عن مائة وثمانين سنة ، ودفنه ابناه العيص ويعقوب مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها كما قدمنا .
    منقول من ايميلي

  2. #2

    تحية وتعليق

    أحسنت فيما كتبت ،،
    فجزاك الله خيرا كثيرا ،،
    ولقد صدقت حينما قلت [[ وذكر أهل الكتاب ]] ،،،
    ذلك لأن الملحظ الذى ينبغى ألا يغيب عن المسلم ذى البصيرة الثاقبة هو النظر فيما ورد من كلام الله تعالى ، حين التعرض لذكر صفوة خلقه من الرسل والأنبياء والصالحين ، من قبيل الثناء الجميل والذكر الحسن ،
    إذ قال مولانا تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } . الأنعام 82-86 .
    وقال جل جلاله : { وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الاََيْدي وَالاََبْصارِ* إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاََخْيارِ* وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الاََخْيارِ } .
    ص 45 ـ 48
    وقال سبحانه وتعالى : { أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمينَ } . الاَنعام 90
    وجاء عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح هذه الثلة الكريمة والسلالة النقية العظيمة ،
    إذ قال : " الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " ،،، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
    أما ما ورد عن أهل الكتاب ، لاسيما فى الكتاب ( المقدس ) فأمره يختلف اختلافا ظاهرا واضحا ،
    وشتان بين الإخبار عن الرسل والأنبياء والصالحين فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ،، وبين ما ورد عنهم فى الكتاب ( المقدس ) ،
    فالإخبار الأول يذكرهم بالثناء عليهم والمدح فيهم وذكرهم ذكرا جميلا ،،
    أما الإخبار الثانى ( محصلة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ) ، فيما سمى فى نهاية المطاف بالكتاب ( المقدس ) ، فيعج بكل أنواع المثالب والمساوىء والتهم ،،،،
    إذ لم يسلم أحد منهم من تهمة شنيعة مرذولة ، بدءا من التحريض على السرقة ،، وانتهاءا بزنا المحارم ، بل وزنا الرجل بابنتيه ، مرورا بالخسائس من أحطّ الصفات والأعمال والأقوال من الكذب والقتل وشرب الخمر والغش والاحتيال ،،، إلي آخر مفردات مساوىء الأخلاق ، ودنايا السلوك ، ورذائل الطباع ، التي يترفع عن كثير من مثلها أحط السفلة والرعاع في دنيا الناس ،،

    وإن شئت فاقرأ ما جاء فى الكتاب ( المقدس ) عن آدم ونوح ولوط وابراهيم ويعقوب وموسى وهارون ووداود وسليمان .

    ومن عجيب الغرائب وغريب الأعاجيب أن ينسب هذا الكتاب ( المقدس ) إلى مولانا سبحانه وتعالى فى ما أنزله من توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما من الله السلام ،
    وهو من الأمور الدقيقة التى تغيب عن كثير من الناس ،، المسلمين واليهود والمسيحيين على السواء ،
    إذ لاصلة مطلقا بين الكتاب ( المقدس ) وبين التوراة والإنجيل الصحيحين ، ، إلا الانتساب إليهما زورا ، واللصوق بهما ضلالا ، وهما منه براء ,
    وهذه النقطة بالذات ، الكتاب ( المقدس) و( التوراة والإنجيل الصحيحان ) يخلط المضلون بينهما قصدا وعمدا علي سبيل التمويه والمغالطة والتدليس ، حين يفهمون الناس أنهما شيء واحد ،،،
    ولذا ،، فليتدبر المسلم كلمات القرآن الكريم فيما يخص كلا من التوراة والإنجيل والكتاب ( المقدس ) ،
    وهو أمر دقيق جليل ذو قدر ومقدار ، نحيل إليه القاريء البصير ،،
    سيجد أبلغ بيان ، وأعظم إعجاز ،،
    سيجد أن الإشارة إلي ما يسمي بالكتاب ( المقدس ) جاءت في معرض التصحيح ،،،،
    ولكنها لما جاءت إلى التوراة والإنجيل ( الصحيحين ) جاءت في معرض التصديق ،،،،
    وما علي القاريء البصير إلا أن يفتح المصحف الشريف ، ليري شاهد هذا بناظريه .
    سيري دقة القرآن الكريم حين يقول { يا أهل الكتاب } ، وما يتبع ذلك من قول مقدس ،، يصحح لهم ما جاء في ذلك الكتاب ، من أخطاء ومزاعم وأضاليل كثيرة ،،،،،،،،،
    وهو علي غير ما جاء في القرآن الكريم ، حين يتكلم عن التوراة والإنجيل
    ( الصحيحين ) ،،،،
    فيؤكد بلسان التصديق والمدح والثناء علي ما فيهما من هداية ..

    اقرأ إن شئت على سبيل المثال الآية 46 من سورة آل عمران ، والآية 15 من سورة المائدة ، والآية 171 من سورة النساء .
    اقرأ ،،،،، واقرأ ،،،،،
    وتدبر وتأمل ،،،،،،
    وقل سبحان من هذا كلامه .

    وإنها لنقطة جديرة بالتوقف عندها كثيرا ، والتأمل في دلالاتها طويلا ، للحصول علي خلاصة واضحة ، لا ريب فيها ، تؤكد علي أن ذلك الكتاب ( المقدس ) لاصلة له بأي من التوراة والإنجيل الصحيحين ( غير الموجودين الآن ) علي سبيل التحقيق والتوثيق والدراسة الموضوعية ، بكل ما يعرف البشر من شتي المقاييس .
    هذا والله أعلى وأعلم ،،
    ويحسن فى كل آخر الحمد لله رب العالمين .
    صلاح جاد سلام

  3. #3
    شكرا لإضافتك أستاذ صلاح وجزاك الله خيرا ونتابع:
    *************

    قصة إبراهيم خليل الرحمن

    مولده

    يروى أن إبراهيم عليه السلام ولد ببابل و تزوج سارة و كانت عاقراً لا تلد ثم ارتحل هو و زوجته سارة و ابن أخيه لوط قاصدين أرض الكنعانيين ، وهي بلاد بيت المقدس ، فأقاموا بحران وكانوا يعبدون الكواكب السبعة . والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين ، يستقبلون القطب الشمالي ، ويعبدون الكواكب ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل بكوكب منها ، ويعملون لها أعياداً وقرابين . وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام ، وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً ، سوى إبراهيم الخليل ، وامرأته ، وابن أخيه لوط عليهم السلام، وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور، وأبطل به ذاك الضلال ، فإن الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره ، وابتعثه رسولاً ، واتخذه خليلاً في كبره قال تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي كان أهلاً لذلك . و كان أول دعوته لأبيه ، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام ، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له ، كما قال تعالى : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً } . فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة، و بيـَّن له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها، ولا تبصر مكانه ، فكيف تغني عنه شيئاً ، أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر؟ ثم قال منبهاً على ما أعطاه الله من الهدى ، والعلم النافع ، وإن كان أصغر سناً من أبيه : {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي: مستقيماً ، واضحاً ، سهلاً ، حنيفاً ، يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك، فلما عرض هذا الرشد عليه ، وأهدى هذه النصيحة إليه ، لم يقبلها منه ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده . {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} أي: واقطعني وأطل هجراني . فعندها قال له إبراهيم : {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي: لا يصلك مني مكروه ، ولا ينالك مني أذىً ، بل أنت سالم من ناحيتي ، وزاده خيراً بأني سأستغفر لك ربى الذي هداني لعبادته والإخلاص له .
    و لهذا قال : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} . ثم قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }. وهذه مناظرة لقومه ، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية ، ولا أن تعبد مع الله عز وجل لأنها مخلوقة مربوبة ، مصنوعة مدبرة ، مسخرة ، تطلع تارة ، وتأفل أخرى ، فتغيب عن هذا العالم ، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب .، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها ، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً ، فبين أنها مسخرة ، مسيرة مقدرة مربوبة . والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران ، فإنهم كان يعبدونها وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم ، وأهانها وبين بطلانها ، كما قال تعالى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } وقال في سورة الأنبياء : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام ، أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان ، وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها ، فقال : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } أي : معتكفون عندها وخاضعون لها . { قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ } ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد ، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد . وقال لهم : {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} سلموا له أنها لا تسمع داعياً ، ولا تنفع ولا تضر شيئاً ، وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم ، ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال . { قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } بل إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شيء ، فاطر السماوات والأرض ، الخالق لهما على غير مثال سبق ، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، وأنا على ذلكم من الشاهدين .



    إبراهيم عليه السلام يلقى في النار

    وقوله : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها، بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم. قيل : إنه قال هذا خفية في نفسه ، وقال ابن مسعود : سمعه بعضهم. و كان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضره فقال : إني سقيم . كما قال تعالى : {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو في بلدهم ، راغ إلى آلهتهم ، أي: ذهب إليها مسرعاً مستخفياً ، فوجدها في بهو عظيم ، وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من الأطعمة قرباناً إليها . فقال لها على سبيل التهكم والازدراء : {أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى : {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي: حطاماً ، كسرها كلها .
    { إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } قيل : إنه وضع القدوم في يد الكبير، إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار . فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } . وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون ، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء، لكنهم قالوا من جهلهم ، وقلة عقلهم ، وكثرة ضلالهم وخبالهم : {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي: يذكرها بالعيب و التنقص لها و الإزدارء بها، فهو المقيم عليها والكاسر لها .
    { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي: في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد ، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه . و كان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على جميع عبّاد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه فلما اجتمعوا و جاؤوا به كما ذكروا ، { قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا .. } قيل معناه : هو الحامل لي على تكسيرها ، وإنما عرض لهم في القول : { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } وإنما أراد بقوله هذا ، أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق ، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات .
    { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } أي: فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ، أي: في تركها لا حافظ لها ، ولا حارس عندها . وقال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء ، أي: فأطرقوا ثم قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} أي: لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا، ولم تبقَ لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم ، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم ، فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته ، ودينه وبرهانه كما قال تعالى :
    { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ }. وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن ، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحريق إبراهيم ، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب ، وأطلقوا فيه النار، فاضطربت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط .
    ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هزن ، وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك ، فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً ، ثم ألقوه منه إلى النار قال : حسبنا الله ونعم الوكيل .
    ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد حين قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}
    عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم :
    (( لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك )) .
    و ذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال : ألك حاجة ؟
    فقال : أما إليك فلا .
    ويروى عن ابن عباس ، أنه قال : جعل ملك المطر يقول : متى أومر فأرسل المطر؟ فكان أمر الله أسرع . { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }
    قال ابن عباس و أبو العالية : لولا أن الله قال : { وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } لأذى إبراهيم بردها .
    و قال كعب الأحبار: لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم يحرق منه سوى وثاقه . و قال الضحاك : يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه، لم يصبه منها شيء غيره . وقال السدي: كان معه أيضاً ملك الظل ، وصار إبراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار، وهو في روضة خضراء ، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه ، ولا هو يخرج إليهم ، فعن أبي هريرة أنه قال : أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال : نعم الرب ربك يا إبراهيم . وعن المنهال بن عمرو أنه قال: أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوماً ، وأنه قال : ما كنت أياماً وليالي أطيب عيشاً إذ كنت فيها ، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها ، صلوات الله وسلامه عليه .




    مناظرة إبراهيم الخليل مع النمرود
    هذه هي مناظرة إبراهيم الخليل مع من أراد أن ينازع العظيم الجليل في العظمة ورداء الكبرياء فادعى الربوبية ، وهوَ أحدُ العبيد الضعفاء

    قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }. يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية ، فأبطل الخليل عليه دليله، وبين كثرة جهله ، وقلة عقله، وألجمه الحجة ، وأوضح له طريق المحجة . قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار، وهذا الملك هو ملك بابل ، واسمه النمرود بن كنعان وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة ، وكان طغى وبغى ، وتجبر وعتا ، وآثر الحياة الدنيا . ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال على إنكار وجود الله تعالى ، فحاجّ إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية . فلما قال الخليل : ( ربي الذي يحي ويميت قال: أنا أحي وأميت ) . يعني أنه إذا آتى بالرجلين قد تحتم قتلهما ، فإذا أمر بقتل أحدهما ، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر . قَال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فآت بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها و قاهرها . وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء . فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فآت بهذه الشمس من المغرب فإنّ الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء ، ودان له كل شيء ، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا ، فإن لم تفعله فلست كما زعمت ، وأنت تعلم وكل أحد ، أنك لا تقدر على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها .
    فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه ، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت . ولهذا قال : {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبّار ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه . ثم دعاه الثانية فأبى عليه . ثم دعاه الثالثة فأبى عليه . وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي . فجمع النمرود جيشه وجنوده ، وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذباباً بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم ، فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاماً باديةً ، ودخلت واحدةٌ منها في منْخَر الملكِ فمكثت في منخره أربعمائة سنة ، عذبه الله تعالى بها فكان يُضْرَبُ رأسُه بالمرِازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها .‏





    هجرة الخليل عليه السلام إلى بلاد الشام ودخوله مصر
    قال الله : {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} . لما هجر قومه في الله وهاجر من بين أظهرهم وكانت امرأته عاقراً لا يولد لها ، ولم يكن له من الولد أحد بل معه ابن أخيه لوط ، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين ، وجعل في ذريته النبوة والكتاب ، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته ، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، كرامة له من الله ، حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه ، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه . و الأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام ، وهي التي قال الله عز وجل : {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} .



    قصّة سارة مع الملك
    عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ، إذ نزل منزلاً فأتى الجبار فقيل له : إنه قد نزل هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس . فأرسل إليه فسأله عنها فقال إنها أختي، فلما رجع إليها قال إنَّ هذا سألني عنك ؟ فقلت إنك أختي وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك وأنك أختي فلا تكذبيني عنده . فإنطلق بها ، فلما ذهب يتناولها أخذ فقال : " ادعى الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها . فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأرسل ثلاث مرات فدعا أدنى حشمه فقال: إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر . فجاءت وإبراهيم قائم يصلي فلما أحس بها انصرف فقال : مَهْيَمْ ، فقالت : كفى الله كيد الظالم و أخدمني هاجر" . وقال الإمام أحمد : فى رواية أخرى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وقوله لسارة " إنها أختي ". دخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك ، أو جبار من الجبابرة ، فقيل : دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس قال : فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك ؟ قال: أختي قال: فأرسل بها فأرسل بها إليه ، وقال لا تكذبي قولي فإني قد أخبرته أنكِ أختي إنْ ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك . فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت تتوضَّأ وتصلَّي ، وتقول اللهم إن كنت تعلم إني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلاّ على زوجي فلا تسلط عليَّ الكافر، قال: فغطَّ حتى رَكَضَ برجله . عن أبي هريرة " إنها قالت : اللهم أن يمت يقال هي قتلته ، قال : فأرسل . قال: ثم قام إليها ، قال: فقامت تتوضأ وتصلّي وتقول : اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر . قال فغطَّ حتى ركضَ برجله ، عن أبي هريرة : إنها قالت اللهم أن يمت يقل هي قتلته ، قال : فأرسل. قال : فقال في الثالثة أو الرابعة : ما أرسلتم إليّ إلا شيطاناً أرجعوها إلى إبراهيم ، وأعطوها هاجر . قال : فرجعت فقالت لإبراهيم : أشعرت أن الله رد كيد الكافرين وأخْدَمَ وليدة وقوله في الحديث " هي أختي " ، أي في دين الله ،
    و قوله لها : إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك وقوله لها لما رجعت إليه : مَهْيَمْ ؟ معناه ما الخبر؟ فقالت : إن الله رد كيد الكافرين . وفي رواية الفاجر . وهو الملك ، وأخدم جارية . وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عز وجل ويسأله أن يدفع عن أهله ، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء ، وهكذا فعلت هي أيضاً ، فلما أراد عدو الله ، أن ينالَ منها أمراً قامت إلى وضوئها وصلاتها ، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم ، ولهذا قال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام . ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن ، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها ، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل ، وصحبتهم هاجر المصرية .
    ثم إن لوطاً عليه السلام نزح بماله من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور، المعروف بغور زغر فنزل بمدينة سدوم ، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان ، وكان أهلها أشراراً كفاراً فجاراً .



    مولد إسماعيل عليه السلام مِنْ هاجر
    قال أهل الكتاب : إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة، وان الله بشَّره بذلك ، وأنه لما كان لإبراهيم ببلاد المقدس عشرون سنة ، قالت سارة لإبراهيم عليه السلام ، إن الرب قد حرمني الولد ، فادخل على أمتي هذه ، لعل الله يرزقني منها ولدا ً.
    فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام ، فحين دخل بها حملت منه ، قالوا : فلما حملت ارتفعت نفسها ، وتعاظمت على سيدتها ، فغارت منها سارة قالوا: وولدت هاجر إسماعيل ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة ، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة . غير أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل واشتدت غيرة سارة منها، طلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها ، فذهب بها وبولدها فسارَ بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم .





    مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى أرض مكّة
    عن ابن عباس قال : " أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقاً لتعفى أثرها على سارة ".
    ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء . ثم قفّى إبراهيم منطلقاً ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً ؛ وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذا لا يضيعنا . ثم رجعت . فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه فقال : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى،أو يتلبط ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً .. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات . قال النبي صلى الله عليه وسلم " فلذلك سعى الناس بينهما ". فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه ، تريد نفسها. ثم تسمعت فسمعت أيضاً ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه ، أو قال بجناحه ، حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضُه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف . قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ". أو قال: " لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً مَعِيْنا ً". فشربت وأرضعت ولدها . فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ، فإن هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على الماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جرييّن فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا . قال: وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء عندنا . قالوا : نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم . و شبَّ الغلام وتعلّم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك ، زوّجوه امرأة منهم . و ماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ، يطالع تركته فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ؟
    فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بشرٍّ نحن في ضيق وشدّةٍ وشكت إليه . قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام و قولي له يغيّرعتبة بابه . فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ فقالت : نعم جاءنا شيخ كذا كذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول لك غيّر عتبة بابك . قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ، فالحقي بأهلك ، وطلقها وتزوَّج منهم أخرى، ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله . ثم أتاهم بعد فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه ؟ فقالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله عز وجل ، فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء .
    قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولم يكن لهم يومئذ حب . ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه " قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنّا بخير . قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم ما لبث عنهم ما شاء الله . ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نَبْلاً له تحت دوحةٍ قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا ، كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال : فاصنع ما أمرك به ربك ، قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها . قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه ، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
    قال : فجعلا يبنيان ، حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .




    قصة الذبيح
    قال الله تعالى : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِي ، رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أبتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْ
    ...

  4. #4

    قصة صالح نبي ثمود عليه السلام



    نسبه عليه السلام


    قوم صالح عليه السلام : هم قبيلة مشهورة يقال ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس ، وهما ابنا عابر بن ارم بن سام بن نوح ، وكانوا عرباً من العارية يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك ، وقد مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين ، كما سيأتي ذكره في القصة و كانوا بعد قوم عاد، وكانوا يعبدون الأصنام كأولئك، فبعث الله فيهم رجلاً منهم ، وهو عبد الله ورسوله : صالح بن عبد بن ماسح بن عبيد بن حاجر بن ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن يخلعوا الأصنام والأنداد ، ولا يشركوا به شيئاً ، فآمنت به طائفة منهم ، وكفر جمهورهم ، ونالوا منه بالمقال والفعال وهموا بقتله ، وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .







    ذكر قصته مع قومه


    والآن لنذكر قصتهم ، وما كان من أمرهم ، وكيف نجى الله نبيه صالحاً عليه السلام ، ومن آمن به ، وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم ، وعتوهم ومخالفتهم رسولهم عليه السلام . قد ذكرنا أنهم كانوا عرباً وكانوا بعد عاد، ولم يعتبروا بما كان من أمرهم، ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي: إنما جعلكم خلفاء من بعدهم ، لتعتبروا بما كان أمرهم ، وتعملوا بخلاف عملهم ، وأباح لكم هذه الأرض تبنون في سهولها القصور، وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين ، أي : حاذقين في صنعتها وإتقانها وإحكامها ، فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح ، والعبادة له وحده لا شريك له ، وإياكم ومخالفته ، والعدول عن طاعته ، فإن عاقبة ذلك وخيمة . وقال لهم أيضاً : {... قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ...}.
    أي: هو الذي خلقكم ، فأنشأكم من الأرض ، وجعلكم عمارها : أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق الرزاق ، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا سواه . { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } أي: أقلعوا عما أنتم فيه ، وأقبلوا على عبادته فإنه يقبل منكم ، ويتجاوز عنكم . {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} أي : قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملاً قبل هذه المقالة ، وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة ، وترك ما كنا نعبده من الأنداد ، والعدول عن دين الآباء والأجداد . ولهذا قالوا : {... أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فما تزيدونني غير تخسير فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } وهذا تلطف منه لهم في العبارة ، ولين الجانب ، وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير، أي: فما ظنكم إن كان الأمر كما أقول لكم ، وأدعوكم إليه ، ماذا عذركم عند الله ، وماذا يخلصكم بين يديه، وأنتم تطلبون مني أن أترك دعائكم إلى طاعته . و أنا لا يمكنني هذا لأنه واجب علي ، ولو تركته لما قدر أحد منكم ، ولا من غيركم ، أن يجيرني منه ولا ينصرني ، فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له ، حتى يحكم الله بيني وبينكم . وقالوا له أيضاً: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
    أي: من المسحورين ، يعنون مسحوراً لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة لله وحده ، وخلع ما سواه من الأنداد . وهذا القول عليه الجمهور إن المراد بالمسحرين المسحورين . وقولهم : {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم .





    قصة الناقة

    قال : {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} و قال: {قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}. وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوماً في ناديهم ، فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله ، وذكرهم ، وحذرهم ، ووعظهم ، وأمرهم ، فقالوا له : إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة ، وأشاروا إلى صخرة هناك ناقة من صفتها كيت وكيت ، وذكروا أوصافاً سموها ونعتوها ، وتعنتوا فيها ، وأن تكون عشراء طويلة ، من صفتها كذا وكذا . فقال لهم النبي صالح عليه السلام : أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به و تصدقوني فيما أرسلت به .
    قالوا : نعم ، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك ، ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عز وجل ما قدر له ، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا . فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفظر عن ناقة عظيمة عشراء ، على الوجه المطلوب الذي طلبوا أو على الصفة التي نعتوا، فلما عاينوها كذلك ، رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً هائلاً ، وقدرة باهرة ، ودليلاً قاطعاً ، وبرهاناً ساطعاً ، فآمن كثير منهم ، و استمر أكثرهم على كفرهم و ضلالهم ، وعنادهم . ولهذا قال : { فَظَلَمُوا بِهَا } أي : جحدوا بها ، ولم يتبعوا الحق بسببها أي : أكثرهم . وكان رئيس الذين آمنوا : جندع بن عمرو بن محلاه بن لبيد بن جواس . وكان من رؤساهم ، وهم بقية الأشراف بالإسلام ، قصدهم ذؤاب بن عمر بن لبيد ، والخباب صاحبا أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلمس ودعا جندع ابن عمه شهاب بن خليفة ، وكان من أشرافهم ، فهمَّ بالإسلام ، فنهاه أولئك فمال إليهم . ولهذا قال لهم صالح عليه السلام : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} أضافها لله سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم ، كقوله : بيت الله، وعبد الله . {لَكُمْ آيَةً} أي : دليلاً على صدق ما جئتكم به . {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ، ترعى حيث شاءت من أرضهم ، وترد الماء يوماً بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم ، ويقال : إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم . ولهذا قال: {لها شرب ، ولكم شرب يوم معلوم} ولهذا قال تعالى : {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ}
    أي : اختبار لهم أيؤمنون بها أم يكفرون ؟ والله أعلم بما يفعلون . {فَارْتَقِبْهُمْ} أي : انتظر ما يكون من أمرهم ، واصطبر على أذاهم فسيأتيك الخبر على جلية . {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} فلما طال عليهم الحال هذا، اجتمع ملؤهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها ، ويتوفر عليهم ماؤهم ، وزين لهم الشيطان أعمالهم .
    قال الله تعالى : {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم : قدار بن سالف بن جندع وذكر ابن جرير وغيره من علماء المفسرين : أن امرأتين من ثمود ، اسم إحداهما : صدوق ابنة المحيا بن زهير بن المختار، وكانت ذات حسب ومال ، وكانت تحت رجل من أسلم ففارقته ، فدعت ابن عم لها يقال له : مصرع بن مهرج بن المحيا ، وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة . واسم الأخرى : عنيزة بنت غنيم بن مجلز ، وتكنى أم عثمان ، وكانت عجوزاً كافرة ، لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو ، أحد الرؤساء ، فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف إن هو عقر الناقة ، فله أي بناتها شاء . فانتدب هذان الشابان لعقرها ، وسعوا في قومهم بذلك ، فاستجاب لهم سبعة آخرون ، فصاروا تسعة ، و هم المذكورون في قوله تعالى : {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} و سعوا في بقية القبيلة ، وحسنوا لهم عقرها ، فأجابوهم إلى ذلك ، وطاوعوهم في ذلك ، فانطلقوا يرصدون الناقة ، فلما صدرت من وردها كمن لها مصرع فرماها بسهم ، فانتظم عظم ساقها ، وجاء النساء يزمرن القبيلة في قتلها ، و حسرن عن وجوههن ترغيباً لهم .
    فابتدرهم قدار بن سالف فشد عليها بالسيف ، فكشف عن عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض ، و رغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها ، ثم طعن في لبتها فنحرها ، وانطلق سقيها وهو فصيلها ، فصعد جبلاً منيعاً ودعا ثلاثاً . و روى عبد الرزاق ، عن معمر، عمن سمع الحسن أنه قال : يا رب أين أمي ؟ ثم دخل في صخرة فغاب فيها . و يقال : بل اتبعوه فعقروه أيضاً قال الله تعالى : {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} وقال تعالى : {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} عن عبد الله بن زمعة قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة ، وذكر الذي عقرها فقال : (({إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} انبعث لها رجل من عارم ، عزيز منيع في رهطه ، مثل أبي زمعة )) . أي شهم عزيز، أي رئيس منيع أي مطاع في قومه . عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : (( ألا أحدثك بأشقى الناس ؟)) . قال: بلى . قال: ((رجلان أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه - يعني لحيته)).
    وقال تعالى : {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فجمعوا في كلامهم هذا بين كفر بليغ من وجوه : منها : أنهم خالفوا الله ورسوله في ارتكابهم النهي الأكيد في عقر الناقة التي جعلها الله لهم آية .
    و منها : أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم فاستحقوه من وجهين : أحدهما : الشرط عليهم في قوله : {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} والثاني : استعجالهم على ذلك . و منها : أنهم كذبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه ، وهم يعلمون ذلك علماً جازماً ، ولكن حملهم الكفر والضلال ، والعناد على استبعاد الحق ، ووقوع العذاب بهم . قال الله تعالى : {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وذكروا أنهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف لعنه الله ، فعرقبها فسقطت إلى الأرض ، ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها ، فلما عاين ذلك سقيها - وهو ولدها - شرد عنهم ، فعلا أعلى الجبل هناك ، و رغا ثلاث مرات . فلهذا قال لهم صالح : {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} أي: غير يومهم ذلك ، فلم يصدقوه أيضاً في هذا الوعد الأكيد ، بل لمـّا أمسوا همّوا بقتله ، وأرادوا فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة . {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}
    أي: لنكبسنه في داره مع أهله ، فلنقتلنه ثم نجحدن قتله ، و ننكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه . ولهذا قالوا : {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.




    هلاك ثمود


    وقال الله تعالى : {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . وذلك أن الله تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم ، سلفاً وتعجيلاً قبل قومهم . وأصبحت ثمود يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النظرة ، ووجوههم مصفرة كما أنذرهم صالح عليه السلام ، فلما أمسوا نادوا بأجمعهم : ألا قد مضى يوم من الأجل . ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل ، وهو يوم الجمعة ووجوههم ! محمرة ، فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى يومان من الأجل .
    ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع ، وهو يوم السبت ، ووجوههم مسودة ، فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى الأجل . فلما كان صبيحة يوم الأحد ، تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينظرون ماذا يحل بهم من العذاب ، والنكال ، والنقمة ، لا يدرون كيف يفعل بهم ، ولا من أي جهة يأتيهم العذاب . فلما أشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ، ورجفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح ، وزهقت النفوس ، وسكنت الحركات ، وخشعت الأصوات ، وحقت الحقائق، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثاً لا أرواح فيها ، ولا حراك بها . قالوا ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة ، واسمها كلبة - بنت السلق - ويقال لها : الذريعة ، وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام، فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها ، فقامت تسعى كأسرع شيء ، فأتت حياً من العرب فأخبرتهم بما رأت ، وما حل بقومها واستسقتهم ماء ، فلما شربت ماتت . قال الله تعالى : { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } أي: لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء . { أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِثَمُودَ } أي: نادى عليهم لسان القدر بهذا . عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجر قال : (( لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها . و كانت تشرب ماءهم يوماً ، ويشربون لبنها يوماً ، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلاً واحداً كان في حرم الله )) . فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : ((هو أبو رغال ، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه)).
    عن بجير بن أبي بجير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال : ((إن هذا قبر أبي رغال ، وهو أبو ثقيف ؛ وكان من ثمود ؛ وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه ، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب ، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه ، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن)) . وهكذا رواه أبو داود ، من طريق محمد بن إسحاق به . وقوله تعالى : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم ، وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلاً لهم : { يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي: جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني ، وحرصت على ذلك بقولي ، وفعلي ، ونيتي . { وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } أي : لم تكن سجاياكم تقبل الحق ، ولا تريده ، فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم ، المستمر بكم ، المتصل إلى الأبد ، وليس لي فيكم حيلة ، ولا لي بالدفع عنكم يدان ، والذي وجب عليّ من أداء الرسالة ، والنصح لكم ، قد فعلته وبذلته لكم ، ولكن الله يفعل ما يريد . عن ابن عباس قال : لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال : (( يا أبا بكر أي واد هذا ؟))
    قال : وادي عسفان . قال: ((لقد مر به هود وصالح عليهما السلام ، على بكرات خطمها الليف ، أزرهم العباء ، وأرديتهم النمار، يلبون يحجون البيت العتيق)) إسناد حسن .





    مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك


    عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ، ونصبوا القدور فأمرهم رسول الله فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا ، فقال : ((إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم)). عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم مثل ما أصابهم)) . أخرجاه في (الصحيحين) من غير وجه . وفي بعض الروايات : أنه عليه السلام لما مر بمنازلهم ، قنع رأسه ، وأسرع راحلته ، ونهى عن دخول منازلهم ، إلا أن تكونوا باكين . وفي رواية : ((فإن لم تبكوا فتباكوا ، خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم)) صلوات الله وسلامه عليه . عامر بن سعد رضي الله عنه قال: لما كان في غزوة تبوك ، فسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس الصلاة جامعة ، قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره ، وهو يقول : ((ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم)) . فناداه رجل تعجب منهم يا رسول الله ؟ قال: ((أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك ، رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم ، وما هو كائن بعدكم ، فاستقيموا وسددوا ، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئاً ، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئاً)) . إسناد حسن ولم يخرجوه . و قد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة ، فكانوا يبنون البيوت من المدر، فتخرب قبل موت الواحد منهم ، فنحتوا لهم بيوتاً في الجبال . و ذكروا أن صالحاً عليه السلام لما سألوه آية ، فأخرج الله لهم الناقة من الصخرة ، أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها ، وحذرهم بأس الله إن هم نالوها بسوء ، وأخبرهم أنهم سيعقرونها ، ويكون سبب هلاكهم ذلك .


  5. #5
    قصّة قوم يس
    قال الله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ و َلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيم ٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي، قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ، إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}. مشهور بين السلف و الخلف إنها أنطاكية .. و سنورد الآن ما قيل في صحة أو خطأ هذا القول قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب ، إنهم قالوا : وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيخس ، وكان يعبد الأصنام . فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق و مصدوق و شلوم فكذّبهم . وهذا ظاهر إنهم رسل من الله عز وجل قال الله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا} يعني لقومك يا محمد {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} يعني المدينة { إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي أيدناهما بثالث في الرّسالة {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم، كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم ، يستبعدون أن يبعث الله نبياً بشرياً فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وأنتقم منا أشد الانتقام {وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم ، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ و َلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي تشائمنا بما جئتمونا به و توعدوهم بالقتل و الإهانة . {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي أن تشاؤمكم مردود عليكم فهل بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه توعدتمونا بالقتل و الإهانة بل أنت قوم لا تقبلون الحق ولا تريدونه . و قوله تعالى {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} يعني لنصرة الرسل وإظهار الإيمان بهم {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة . ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه . ثم قال مخاطباً للرسل {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي} قيل : فاستمعوا مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم . وقيل : معناه فاسمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة . فعند ذلك قتلوه . قيل رجماً ، وقيل عصّاً ، وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه . و حكى ابن مسعود قال وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبته . وقد روى الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز كان اسم هذا الرجل "حبيب بن مرى". ثم قيل : كان نجّاراً وقيل حبَّاكاً ، وقيل إسكافاً ، وقيل قصّاراً ، وقيل كان يتعبد في غار هناك . فالله أعلم . وعن ابن عباس : كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام وكان كثير الصّدقة، فقتله قومُه . ولهذا قال تعالى : {ادْخُلْ الْجَنَّةَ} يعني لما قتله قومه ادخله الله الجنة ، فلما رأى فيها من النضرة والسرور {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} قال ابن عباس نصح قومه في حياته {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وبعد مماته في قوله {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} وكذلك قال قتادة لا يلقى المؤمن إلاّ ناصحاً ، لا يلقى غاشّا لما عاين ما عاين من كرامة الله {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله، وما هو عليه . قال قتادة : فلا واللهِ ما عاتب الله قومه بعد قتله. {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}. و قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} أي وما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم . {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} . قال المفسرون : بعث الله إليهم جبريل عليه السلام ، فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ثم صاح بهم صيحة واحدة ، فإذا هم خامدون . أي قد أخمدت أصواتهم وسكنت حركاتهم ولم يبق منهم عين تطرف . وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية ، لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم ، وأهل أنطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين ، إليهم ، فلهذا قيل : إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح .
    --

  6. #6
    قصص الأنبياء
    قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب
    قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِين َ} وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضاً في سورة ص : {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه ، مقروناً مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام ، وهذا هو المشهور. وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً، وحكماً مقسطاً عادلاً ، فالله أعلم . عن مجاهد : أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً ، وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيه أمرهم ، ويقضي بينهم بالعدل ، فسمى ذا الكفل . عن مجاهد أنه قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي ، حتى أنظر كيف يعمل . فجمع الناس فقال : من يتقبل لي بثلاث استخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب . فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا . فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم . قال : فردهم ذلك اليوم ، وقال مثلها اليوم الآخر. فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال : أنا . فاستخلفه . فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان فأعياهم ذلك ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار ، إلا تلك النومة فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم . قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، حتى حضر الرواح وذهبت القائلة ، و قال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك . فانطلق وراح . فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه ، أتاه فدق الباب فقال من هذا؟ فقال : الشيخ الكبير المظلوم ، ففتح له فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ فقال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني . قال : فانطلق فإذا رحت فأتني ، قال ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه ، وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله : لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق علي النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل : وراءك وراءك ، فقال : إني قد أتيته أمس ، فذكرت له أمري . فقال : لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها ، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل ، قال : فاستيقظ الرجل فقال : يا فلان ألم آمرك قال : أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت ؟ فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه ، فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبنك ، فعصمك الله مني ، فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به . عن كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري - يعني أبا موسى رضي الله عنه - وهو على هذا المنبر يقول : ما كان ذو الكفل نبياً ولكن كان رجل صالح ، يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده يصلي كل يوم مائة صلاة فسمى ذا الكفل . و الله تعالى أعلم
    --

  7. #7
    قصة إلياس عليه السلام

    إلياس عليه السلام : قال الله تعالى بعد قصة موسى وهارون من سورة "الصافات" : {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِين ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}. قال علماء النسب هو : إلياس النشبي ، وقيل : إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران . قالوا وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق ، فدعاهم إلى الله عز وجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه "بعلا" وقيل كانت امرأة اسمها "بعل" والله أعلم . والأول أصح ولهذا قال لهم: {أَلا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} . فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله . فيقال إنه هرب منهم ، واختفى عنهم عن كعب الأحبار أنه قال: إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين، حتى أهلك الله الملك وولَّى غيره ، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام فأسلم ، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم . فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم . وقال ابن أبي الدنيا : عن بعض مشيخة دمشق قال : أقام إلياس عليه السلام هارباً من قومه في كهف في جبل عشرين ليلة - أو قال أربعين ليلة تأتيه - الغربان برزقه . وقوله تعالى : {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي للعذاب ، إما في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة . والأول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون و قوله : {إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي إلا من آمن منهم . وقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي أبقينا بعده ذكراً حسناً له في العالمين فلا يذكر إلا بخير ولهذا قال: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي سلام على إلياس والعرب تُلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا: إسماعيل و إسماعين . وإسرائيل و إسرائين ، و إلياس و إلياسين . و قد قرئ: سلام على آل ياسين ، أي على آل محمد والصحيح أنه غيره كما تقدم . والله أعلم .
    --
    !!aos

  8. #8
    قصص الأنبياء من أنبياء بني إسرائيل قصة اليسع عليه السلام وقد ذكره الله تعالى مع الأنبياء في سورة الأنعام في قوله {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}. وقال تعالى في سورة ص : {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ}.قال ابن إسحاق : عن قتادة ، عن الحسن ، قال : كان بعد إلياس اليسع عليه السلام ، فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى الله مستمسكاً بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله عز وجل إليه ثم خلف فيهم الخلوف وعظُمت فيهم الأحداث والخطايا وكثرت الجبابرة وقتلوا الأنبياء، وكان فيهم ملك عنيد طاغ ، ويقال إنه الذي تكفل له ذو الكفل إن هو تاب ورجع دخل الجنة فسمي ذا الكفل . قال محمد بن إسحاق هو اليسع بن أخطوب .وقال الحافظ ابن عساكر: اليسع وهو الأسباط بن عدي بن شوتلم بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل .ويقال هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام ويقال كان مستخفياً معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك ثم ذهب معه إليها ، فلما رفع إلياس خلفه اليسع في قومه ونبأه الله بعدهقال ابن جرير وغيره : ثم مرج أمر بني إسرائيل ، وعظمت منهم الخطوب والخطايا ، وقتلوا من قتلوا من الأنبياء ، سلط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكاً جبارين ، يظلمونهم ويسفكون دماءهم ، وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضاً ، وكانوا إذا قاتلوا أحداً من الأعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان في قبة الزمان ، كما تقدم ذكره ، فكانوا يُنصرون ببركته، وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون .فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم ، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات كمداً .وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبياً من الأنبياء يقال له شمويل ، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً ليقاتلوا معه الأعداء ، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه .
    --

  9. #9
    قصص الأنبياء قصة شمويل عليه السلام وفيها بدء أمر داود عليه السلام هو شمويل ويقال أشمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا . قال مقاتل : وهو من ورثة هارون . فالله أعلم . عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة وغيرهم أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ، وسبوا من أبنائهم جمعاً كثيراً ، وانقطعت النبوة من سبط لاوى ، ولم يبق فيهم إلا امرأة حبلى ، فجعلت تدعو الله عز وجل أن يرزقها ولداً ذكراً ، فولدت غلاماً فسمته أشمويل ، ومعناه بالعبرانية إسماعيل ، أي سمع الله دعائي . فلما ترعرع بعثته إلى المسجد ، وأسلمته عند رجل صالح فيه يكون عنده ليتعلم من خيره و عبادته ، فكان عنده ، فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد ، فانتبه مذعوراً ، فظنه الشيخ يدعوه فسأله : أدعوتني ؟ فكره أن يفزعه فقال : نعم نم فنام . ثم ناداه الثانية فكذلك ثم الثالثة فإذا جبريل يدعوه ، فجاءه فقال إن ربك قد بعثك إلى قومك . فكان من أمره معهم ما قص الله في كتابه . قال الله تعالى في كتابه العزيز : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إسرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. قال أكثر المفسرين : كان نبي هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو شمويل . والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم الأعداء سألوا نبي الله في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكاً يكونون تحت طاعته ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الأعداء. فقال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه} أي وأي شيء يمنعنا من القتال {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} يقولون نحن محروبون موتورون ، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهورين المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم . قال الله تعالى : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} قال الثعلبي وهو طالوت بن قيش بن أفيل بن صار و بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل . قال عكرمة و السدي : كان سقاء! و قال وهب بن منبه : كان دباغاً وقيل غير ذلك . والله أعلم . و لهذا { قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ } وقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوى وأن الملك كان في سبط يهوذا ، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته عليهم وقالوا نحن أحق بالملك منه وقد ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه فكيف يكون مثل هذا ملكاً . {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} . وقيل : كان الله أوحى إلى شمويل أن أي بني إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذي فيه من دهن القدس فهو ملكهم . فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن فدهنه منه وعينه للملك عليهم وقال لهم {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ} قيل في أمر الحروب وقيل بل مطلقاً { و َالْجِسْمِ } قيل الطول وقيل الجمال ، والظاهر من السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} فله الحكم وله الخلق والأمر {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . { وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } وهذا أيضاً من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سُلب منهم وقهرهم الأعداء عليه وقد كانوا يُنصرون على أعدائهم بسببه {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قيل طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء ، وقيل السكينة مثل الريح الخجُوح . وقيل صورتها مثل الهرّة إذا صرخت في حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قيل كان فيه رضاض الألواح وشيء من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} أي تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عياناً ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم. ولهذا قال : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} . {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} . قال ابن عباس وكثير من المفسرين : هذا النهر هو نهر الأردن ، وهو المسمى بالشريعة فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له عن أمر الله له اختباراً وامتحاناً : أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة ، ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة بيده . قال الله تعالى : {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} . قال السدي : كان الجيش ثمانين ألفاً فشرب منه ستة وسبعون ألفاً، فبقي معه أربعة آلاف . قال الله تعالى : {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين، } يعني ثبتهم الفرسان منهم والفرسان أهل الإيمان والإيقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان. { وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الأبطال وحومة الوغى والدعاء إلى النزال فسألوا التثبيت الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا وأنالهم ما إليه فيه رغبوا. ولهذا قال {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه} أي بحول الله لا بحولهم، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم، مع كثرة أعدائهم وكمال عُددهم وقوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}. فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام وأنه قتله قتلاً أذل به جنده وكسر جيشه، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوَّه فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة ويأسر الأبطال والشجعان والأقران، وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان، ويُدال لأولياء الله على أعدائه، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه. وقد ذكر السدي فيما يرونه أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه وكانوا ثلاثة عشر ذكراً، كان سمع طالوت ملك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده وهو يقول من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته في ملكي وكان داود عليه السلام يرمي بالقذَّافة وهو المقلاع رمياً عظيماً ، فبينما هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت ، فأخذه ثم حجر آخر كذلك ثم آخر كذلك ؛ فأخذ الثلاثة في مخلاته فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم داود فقال له : ارجع فإني أكره قتلك . فقال : لكني أحب قتلك . و أخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجراً واحداً . ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه وفر جيشه منهزماً. فوفى له طالوت بما وعده فزوجه ابنته وأجرى حُكمه في ملكه ، وعظم داود عليه السلام عند بني إسرائيل ، وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده ، وأراد قتله ، واحتال على ذلك فلم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم فقتلهم ، حتى لم يبق منهم إلا القليل . ثم حصل له توبة وندم وإقلاع عما سلف منه ، وجعل يكثر من البكاء ، ويخرج إلى الجبانة فيبكي ، حتى يبل الثرى بدموعه ، فنودي ذات يوم من الجبانة : أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء ، وآذيتنا ونحن أموات . فازداد بكاؤه وخوفه ، واشتد وجله ، ثم جعل يسأل عن عالم يسأل عن أمره ، وهل له من توبة ؟ فقيل له : وهل أبقيت عالماً ؟ حتى دُل على امرأة من العابدات فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام . قالوا : فدعت الله فقام يوشع من قبره فقال : أقامت القيامة ؟ فقالت : لا ، ولكن هذا طالوت يسألك : هل له من توبة ؟ فقال : نعم ينخلع من الملك ، ويذهب فيقاتل في سبيل الله ، حتى يقتل ، ثم عاد ميتاً . فترك الملك لداود عليه السلام ، وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده ، فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا . قالوا : فذلك قوله {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} . وهكذا ذكره ابن جرير في تاريخه من طريق السدي بإسناده . وفي بعض هذا نظر و نكارة . والله أعلم . وقال محمد بن إسحاق : النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب . حكاه ابن جرير أيضاً . وذكر الثعلبي أنها أتت به إلى قبر شمويل فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور، وهذا أنسب. ولعله إنما رآه في النوم، لا أنه قام من القبر حياً ، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي ، وتلك المرأة لم تكن نبية والله أعلم . قال ابن جرير: وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قُتل مع أولاده أربعون سنة. فالله أعلم .
    --

  10. #10

    قصص الأنبياء قصة
    زكريا و يحيى عليهما السلام
    قال الله تعالى في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم : {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } وقال تعالى في سورة الأنبياء : {و َزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام ، وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر، وكانت امرأته مع ذلك عاقراً في حال شبيبتها ، وقد كبرت سنها أيضاً حتى لا ييئس أحد من فضل الله ورحمته ، ولا يقنط من فضله تعالى وتقدس فقال تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} . إن الله يعلم القلب النقي ، ويسمع الصوت الخفي . و قال بعض السلف : قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته فقال : يا رب يا رب يا رب ، فقال الله : لبيك لبيك لبيك . {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي: ضعف وخار من الكبر . {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} استعارة من اشتعال النار في الحطب ، أي: غلب على سواد الشعر شيبه يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطناً وظاهراً ، وهكذا قال زكريا عليه السلام . {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي : ما دعوتني فيما أسألك إلا الإجابة ، وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير أوانها ، ولا في أوانها ، وهذه من كرامات الأولياء ، فعلم أن الرازق للشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولداً ، وإن كان قد طعن في سنه . {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} و قوله : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} قيل: المراد بالموالي العصبة، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته ، فسأل وجود ولد من صلبه يكون براً تقياً مرضياً ولهذا قال : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً أي هب لى من عندك بحولك وقوتك . ابن يرثنى في النبوة والحكم في بني إسرائيل و يكون كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء، فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي . وليس المراد ههنا وراثة المال كما ذكرنا عند قوله تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} أي: في النبوة والملك ، و كما ذكرنا في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((لا نورث ما تركنا فهو صدقة)). و قد كان زكريا عليه السلام نجاراً يعمل بيده ، ويأكل من كسبها ، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((كان زكريا نجاراً)). {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} ولقد بشرته الملائكة به كما فى قوله : {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَ حَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} فلما بشر بالولد ، وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد والحالة هذه له {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} فتعجب كيف يوجد ولد من شيخ كبير. قيل: كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة ، والأشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك. {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} يعني : وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد والله أعلم وهكذا أجيب زكريا عليه السلام ، قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} أي : قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً ، أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا . وقال تعالى : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت ، وقيل : كان في لسانها شئ أي : بذاءة . {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي اجعل لى علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به . {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} يقول : علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزاً ، وأنت في ذلك سوي الخلق ، صحيح المزاج ، معتدل البنية ، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب ، واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه . {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} والوحي ههنا هو: الأمر الخفي ، إما بكتابه ، أو بإشارة و قد قيل انه اعتقل لسانه من غير مرض . و قال ابن زيد : كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد . {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه . قال عبد الله بن المبارك : قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا، قال: وذلك قوله {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} { وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً * وَ بَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً } أي: رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا، فوهبنا له هذا الولد . الذى يتميز بالرفق و التحنن على الناس ، ولا سيما على أبويه وهو محبتهما والشفقة عليهما ، وبره بهما ، وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائض والرذائل ، والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره ، ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمراً ونهياً ، وترك عقوقهما قولاً وفعلاً {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}. هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان ، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر، ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخاً إذا خرج من بين الأحشاء ، وفارق لينها وضمها، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها . وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار، وصار بعد الدور والقصور إلى عرصة الأموات سكان القبور، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور، فمن مسرور ومحبور، ومن محزون و مثبور، وما بين جبير وكسير، وفريق في الجنة وفريق في السعير و لما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل موطن منها فقال : {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}. عن قتادة : أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني فقال له الآخر: استغفر لي أنت خير مني فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك، فعرف والله فضلهما . وأما قوله في الآية الأخرى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ}: فقيل : المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء عن عبد الله بن عمرو قال: ما أحد لا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا ثم تلا {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} ثم رفع شيئاً من الأرض فقال: ما كان معه إلا مثل هذا ، ثم ذبح ذبحاً عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليها السلام)). عن خيثمة قال : كان عيسى بن مريم ، ويحيى بن زكريا ابني خالة ، وكان عيسى يلبس الصوف ، وكان يحيى يلبس الوبر، ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ، ولا عبد ولا أمة ، ولا مأوى يأويان إليه أين ماجنهما الليل أويا، فلما أرادا أن يتفرقا قال له يحيى : أوصني ،. قال : لا تغضب . قال : لا أستطيع إلا أن أغضب . قال: لا تقتن مالاً. قال : أما هذه فعسى عن الحارث الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وكاد أن يبطئ ، فقال له عيسى عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن ، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن ، وإما أن أبلغهن ؟ فقال يا أخي: إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك، مثل من اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ، وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا . و أمركم بالصلاة ، فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ، كلهم يجد ريح المسك ، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . و أمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وآمركم بذكر الله عز وجل كثيراً ، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره ، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : بالجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربق الإسلام من عنقه ، إلا أن يرجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم ، قال : يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ قال : وإن صام وصلى ، وزعم أنه مسلم ، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل)) . وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس ، إنما كان يأنس إلى البراري ، ويأكل من ورق الأشجار، ويرد ماء الأنهار، ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان ، و يقول : من أنعم منك يا يحيى. و روى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه ، فوجداه عند بحيرة الأردن ، فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل . عن مجاهد قال : كان طعام يحيى بن زكريا العشب ، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه . وقال ابن المبارك ، عن وهيب بن الورد قال : فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام ، فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبراً وأقام فيه يبكي على نفسه ، فقال : يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام ، وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه ، فقال : يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة ، لا يقطع إلا بدموع البكائين . فقال له : ابك يا بني ، فبكيا جميعاً . وروى ابن عساكر عنه أنه قال : إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم ، فكذا ينبغي للصديقين أن لا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عز وجل ، ثم قال : كم بين النعيمين وكم بينهما ، وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه.‏ سبب قتل يحيى عليه السلام ذكروا في قتله أسباباً من أشهرها : أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق ، كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه ، أو من لا يحل له تزويجها ، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك ، فبقي في نفسها منه ، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها ، استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها ، فبعثت إليه من قتله ، وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها ، فيقال : إنها هلكت من فورها وساعتها . وقيل : بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها ، فلما يئست منه تحايلت في أن استوهبته من الملك ، فتمنع عليها الملك ، ثم أجابها إلى ذلك ، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت . ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا ، هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين ؟ فقال الثوري: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا ، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام . و روى بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال : قدم بختنصر دمشق ، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي ، فسأل عنه فأخبروه ، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن . وهذا يقتضي أنه قتل بدمشق فالله أعلم .

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. دعاء الأنبياء
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الأدعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-30-2017, 06:41 AM
  2. قتل الأنبياء
    بواسطة حسن العجوز في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 04-09-2015, 12:32 AM
  3. 2 / 3 المفاضلة بين الأنبياء
    بواسطة د. عيد دحادحة في المنتدى فرسان السيرة النبوية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-08-2014, 03:40 AM
  4. مهن الأنبياء
    بواسطة راما في المنتدى - فرسان أدب الأطفال
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-21-2013, 07:13 PM
  5. كثير من الأنبياء
    بواسطة noureldens في المنتدى فرسان التجارب الدعوية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 09-07-2006, 04:30 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •